يقول الراوي الأميركي إن الحزب الجمهوري الذي تأسس عام 1854، بات يعاني من حال انقسام كبيرة وتشظّ واضح بين كتلتين، واحدة تغط في سبات تقليدي عميق، وتأخذ أقصى اليمين، وأخرى لا شاغل لها سوى التآمر على الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، إلى درجة الاصطفاف بجانب مرشحين ديمقراطيين في انتخابات التجديد النصفي الأخيرة للكونغرس، الأمر الذي أدى إلى انكسار واضح في الغرفة الأعلى من الكونغرس، أي مجلس الشيوخ للجمهوريين، واحتمالات فوز الديمقراطيين الباهت بغالبية صغيرة في مجلس النواب لا تتجاوز بضعة مقاعد، وتبخر حلم الموجة الجمهورية الحمراء التي كان من المفترض أن تحلق فوق سماوات الولايات المتحدة.
مخيبة للآمال
وجاءت النتائج الأخيرة المخيبة للآمال الجمهورية لتقطع بأن الحزب في حاجة إلى وجوه جديدة، بعد أن أخفقت النخب الجمهورية القديمة في تغيير الأوضاع وتبديل الطباع في طول البلاد وعرضها. والشاهد أنه في وسط هذا العتم الذي يلفّ الحزب الجمهوري، يبزغ من ولاية فلوريدا، نجم أميركي جديد يعيد إحياء الآمال في عودة الجمهوريين إلى تماسكهم وتوحيد صفوفهم، وربما يحمل عنهم راية الترشح بعد نحو عامين لمقعد الرئيس الأميركي في البيت الأبيض. إنه رونالد دي سانتيس الإيطالي الجذور والروماني الكاثوليكي النشأة والمذهب، والمولود في مدينة جاكسونفيل بولاية فلوريدا عام 1978.
وتبدو قصة الفتى دي سانتيس مثيرة للإعجاب سواء عبر مسيرته التعليمية الراقية حيث تخرّج في جامعة "ييل" العريقة من قسم التاريخ عام 2001، وتالياً حاز درجة الدكتوراه في القانون من جامعة "هارفارد" التي لا تقل عراقة، وتمضي به الحياة ليخدم في الجيش الأميركي، وهناك يحصل على ميدالية النجمة البرونزية لشجاعته، ثم ينخرط في الحياة السياسية، ليضحى عضواً في مجلس النواب الأميركي عن ولاية فلوريدا من عام 2013 إلى 2018، وفي 2019 يتولى منصب حاكم ولاية فلوريدا.
الفوز الكبير
عند غروب شمس الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني)، كان دي سانتيس يعاد انتخابه حاكماً لفلوريدا، وبفوز كاسح في مواجهة غريمه الديمقراطي شارلي كريست، وبفارق 20 نقطة، والتي تعادل مليون ونصف مليون صوت، الأمر الذي عزز صورته في أوساط الجمهوريين لا سيما طبقة الإنتلجنسيا بينهم، ودفع الهمس في المخادع بخصوص ترشحه للرئاسة 2024 لأن يضحى مناداة من فوق السطوح.
وعقب الفوز الكبير الساحق الماحق، تكلم دي سانتيس في الاحتفال الذي أقامه في تامبا بفلوريدا قائلاً "إننا لم نفز فقط في الانتخابات، بل أعدنا كتابة الخريطة السياسية". لتحمل تلك العبارة، ولو ضمنياً، إشارات عن نيته خوض غمار الانتخابات الرئاسية المقبلة؟
ويمكن للقارئ أن يتساءل عن أفكار دي سانتيس القادم من بعيد، وعن رؤاه وأفكاره، والدرب الذي سلكه ليسطع نجمه هكذا، لا سيما في أوساط اليمين السياسي المحافظ في عموم البلاد، وليس بين جنبات الحزب الجمهوري فحسب.
ويبدو دي سانتيس سياسياً من طراز رفيع، وأقرب ما يكون إلى طبقة النبلاء السياسيين، أولئك الذين تفتقدهم الولايات المتحدة في الوقت الراهن، وآية ذلك ترفعه عن الدخول في أي خلافات أو مهاترات سياسية، وكأن وقته مخصص لخوض معارك جدية لتغيير الواقع الأميركي، وضبط مسافات وسياقات البوصلة الأميركية، تلك التي أختلت خلال العقدين الأخيرين على نحو خاص.
محام منضبط
العارفون بالرجل يصفونه بأنه محام منضبط ينتقل بين ركام البيانات والإحصاءات، منعزل وعصامي، وقد أصاب نجاحاً عظيماً في الأعوام التي أمضاها بين مجلس النواب وحاكمية فلوريدا، بخاصة في زمن تفشي جائحة "كوفيد-19" حيث كان من دعاة عدم ارتداء الكمامة الواقية.
ولعله من الواضح جداً أن له مواقف محافظة تمثلت في منعه تدريس نظرية المساواة بين الأعراق، بجانب ذلك منع تنظيم نقاشات حول الهوية الجنسية في المدارس العامة في فلوريدا، أما الفعل الأكثر إقداماً الذي أكسبه أصوات الكثيرين من المحافظين، وأفقده ربما دعم عدد وافر من الليبراليين، فتمثل في توقيعه قانوناً يمنع القيام بالإجهاض بعد 15 أسبوعاً من الحمل، ودائماً ما يعلو صوته بالانتقاد للتسامح المغالى فيه في المجتمع الأميركي مع مجتمع "الميم".
الساحة السياسية الأميركية
ويصف ستيفان لاوسون مسؤول حملته الانتخابية الأشياء التي يقوم بها رون دي سانتيس بأنها تساعده على فرض شخصيته في الساحة السياسية الأميركية لا سيما وأنه معارض للهجرة غير الشرعية ومنتقد لارتفاع نسبة التضخم في البلاد. أما سارة لونغويل الخبيرة الاستراتيجية الجمهورية فترى أن أزمة "كوفيد" هي التي أسست إرث دي سانتيس، إذ كان يخالف نوعاً ما التوجهات في عموم البلاد في ذلك الوقت، ولهذا، فإن كثيرين من سكان الولاية يقدرون مواقفه.
وتصف أصوات مقربة من المحافظين دي سانتيس بـ "المسؤول الحقيقي للمعارضة" وأنه الرجل الذي يدافع عن قضايا جريئة غالباً ما لا يدافع عنها المحافظون الآخرون. وربما من هنا، يبدو واضحاً أنه يمتلك حظوظاً كبيرة وواسعة للعب الأدوار الأولى في الحزب الجمهوري المحافظ بدوره، وقد يصبح الزعيم المقبل للحزب الجمهوري عما قريب، في وقت المفاجأة الأكبر أن حظوظه لنيل ترشيح الحزب له للرئاسة المقبلة أمر وارد بقوة عما قريب. على أن علامة الاستفهام المثيرة لقلق بعض الأصوات الأميركية، هل دي سانتيس يمكن أن يضحى عند لحظة بعينها مرشحاً شعبوياً يمينياً في وقت تحتاج فيه الولايات المتحدة إلى أصوات عقلانية وسطية لا تنحو لجهة اليمين أو اليسار؟
هناك من المراقبين والمحللين السياسيين الأميركيين من يقطع بأن ما أصاب الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي، مرده الخوف من تجليات اليمين الأميركي الجمهوري الأصولي، في سماوات أميركا، ما يعني فقدان هذا التيار بريقه، وخوفاً مما يمكن أن يجلبه على أرجاء البلاد من صدامات مقلقة في الحال، ومزعزعة لأركان الدولة في الاستقبال.
"صلوات الملايين"
وبعد أن ألغت المحكمة العليا الحق الدستوري في الإجهاض، أعلن دي سانتيس أن "صلوات الملايين" قد لاقت استجابة، وهو تصريح يحمل على نوازع إيمانية تميل إلى الموقف الكاثوليكي الرافض للإجهاض، والذي حدا بمجلس أساقفة الولايات المتحدة للمضي بعيداً، وتهديد الرئيس جو بايدن بحرمانه من شعائر وطقوس كاثوليكية سرائرية بسبب دعمه حرية المرأة الأميركية في تحديد مصير جنينها.
كما يبدو دي سانتيس من المدافعين عن التعديل الثاني من الدستور الأميركي، أي الخاص بالحق في تكوين الميليشيات وحمل السلاح، وقد تبنى حين كان عضواً في مجلس النواب تشريعاً يدعم الذين يحملون ترخيصاً بحمل الأسلحة النارية وعرضها علانية.
وعطفاً على ذلك، فإنه يؤخذ عليه بعض التصريحات ذات المدلولات السلبية تجاه مسلمي الولايات المتحدة التي فاه بها في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2017، حين اعتبر أن هناك تناقضاً بين أن يكون المرء مسلماً أميركياً، وفي الوقت ذاته مخلصاً للولايات المتحدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلال عضويته في مجلس النواب، كان دي سانتيس من الأصوات التي طالبت، وبقوة، بإدراج جماعة "الإخوان المسلمين" على قائمة لوائح الجمعيات الإرهابية، وعلى رغم قربه الواضح في ذلك الوقت من الرئيس ترمب، إلا أنه أخفق في إدراك مرامه، والسبب المقاومة الكبيرة التي وجدها من جانب موظفي وزارة الخارجية، ما دعاه لأن يتهمهم بالتعاطف مع "الإخوان".
هل يضحى دي سانتيس حصان الجمهوريين الرابح في انتخابات الرئاسة المقبلة؟
الثابت أن دي سانتيس يتمتع بالكثير من الذكاء والحصافة معاً، وعلى رغم أنه لم يعلن رغبته في الترشح للانتخابات الرئاسية، إلا أنه أبقى خياراته مفتوحة برفضه الالتزام بإكمال فترة ولايته الثانية كحاكم لفلوريدا، فقد طالبه منافسه الديمقراطي تشارلي كريست، مرات عدة، بأن يتعهد بالبقاء في منصب الحاكم أربع سنوات مقبلة، إلا أنه أجاب "ليس سؤالاً صعباً، لكن لن أجيب عليه". غير أن أصواتاً جمهورية مثل دافيد جولي العضو الناشط في الحزب يرى أن هناك أعداداً كبيرة من الجمهوريين سيساندون دي سانتيس، المنطلق باندفاعة كبيرة في المشهد الأميركي العام، والحزب الجمهوري بنوع خاص. ويؤمن أصدقاء دي سانتيس والمقربون منه بأن حلم الوصول إلى البيت الأبيض لم ينفكّ يغازل مخيلته في صحوه ومنامه، وفي قيامه وجلوسه، ويرون أن صغر سنه النسبي يمنحه فرصاً متعددة للوصول للرئاسة على العكس من معظم نظرائه ومنافسيه الجمهوريين.
ولعل من الملاحظ أن دي سانتيس يتجنب الظهور الإعلامي المكثف، وكأنه يستعد للحظة حاسمة يخرج فيها على الأميركيين بقدراته وإمكاناته، ويترك لهم الحكم حول أحقيته في الحصول على ترشيح الحزب له، وتالياً اختياره لقيادة أميركا والعبور بها إلى حقبة مغايرة. وربما يدعم في مسيرته، كونه يقدم صورة عصرانية من المرشح الشاب الذي غزا قلوب الأميركيين في ستينيات القرن الماضي، جون فيتزجيرالد كيندي، فدي سانتيس المتزوج من المراسلة التلفزيونية كايسي بلاك، مع أطفاله الثلاثة، يكاد أن يشابهوا صورة كيندي وعائلته، وقد وصفت صحيفة "النيويوركر" الزوجين وأطفالهما لاحقاً بأنهم "جاهزون ليكونوا على الكتيب الدعائي للحملة الانتخابية"، في وقت يقول أحد زملائه "إنهم يبدون وكأنهم خلقوا لهذا الدور".
وبحسب منظمة "أوبن سكربيت"، وهي منظمة غير حكومية تتابع السياسات المالية التي تمنح للسياسيين، فقد استطاع دي سانتيس جمع مبالغ مالية مرتفعة أكثر من أي مرشح آخر. وعطفاً على ذلك، فإن حاكم فلوريدا الشاب يتمتع بدعم المتبرع الجمهوري البارز كين غريغين الذي تبرع بأكثر من 60 مليون دولار لمرشحي الحزب خلال الانتخابات النصفية، وإن قال "أنا لا أعرف ماذا سيفعل رونالد. إنه قرار شخصي كبير. لديه سجل ضخم حاكماً لفلوريدا، وسيخدم بلادنا بشكل جيد كرئيس".
"الأمل العظيم"
بالإضافة إلى ذلك تبدو وسائل الإعلام التابعة لإمبراطور الإعلام الأميركي روبرت مردوخ، وكأنها تعمل لمصلحة حاكم فلوريدا بشكل مباشر، وهذا ما يلمسه الأميركيون في التغطيات الإعلامية لقنوات مثل "فوكس نيوز"، و"نيويورك بوست" اللتين تروجان له بوصفه "الأمل العظيم للجمهوريين". على أنه وإن كانت هناك أصوات كثيرة ترى في دي سانتيس مستقبل الحزب الجمهوري، إلا أن الموضوعية تقتضي القول إن من السابق لأوانه التنبؤ بالأمر، لا سيما وأنه لم يشهد أو يختبر قط أداء الرجل خارج الولاية، أي على الساحة الوطنية.