إن كان ثمة مبدِع تنطبق عليه عبارة "فنان كامل" أكثر من غيره، فهو من دون شك الإنجليزي ويليام موريس (1834 ــ 1896). رسام، شاعر، روائي، مهندس، مصمم ديكور وخطوط طباعة، مترجم (من اليونانية واللاتينية والفرنسية القديمة والأيسلندية)، لمع موريس أيضاً كطابِع وناشر ومناضل يساري وبيئي، وخصوصاً كمنظّر وضع الأسس ليوتوبيا اجتماعية، سياسية، إيكولوجية وفنية عُرِفت لاحقاً تحت اسم "فنون وحِرَف" (Arts & Crafts) ودافعت عن "الفن في كل شيء وللجميع" كردّ فعل على حركة التصنيع وتهديدها خبرات الحِرَفيين اليدوية.
لكن هذا العملاق الذي نشط بعبقرية وحمية نادرتين في كل هذه الميادين، وتمكّن بذلك من تجديد نظرتنا للفن والصناعات الحِرَفية، لم يحظَ أبداً بالاهتمام الذي يستحقّه من المؤسسات الفنية الفرنسية. ولتبديد هذا الجور الفاضح في شأنه، ينظّم حالياً متحف مدينة روبيه معرضاً ضخماً له يحمل عنوان "ويليام موريس ــ الفن في كل شيء" ويتيح لزائره فرصة الغوص في عالم هذا النابغة من خلال عشرات الأعمال التي تتراوح بين لوحات ورسوم ومجموعات شعرية وكتب فنية وقطع أثاث وورق جدران وسجّاد... وتتوزّع داخل صالات المتحف ضمن سينوغرافيا غايتها تجسيد الرؤية الفلسفية المدهشة التي تقف خلف هذه الابتكارات.
كهنوت وهندسة وفن
موريس لم يكن إذاً مجرّد مصمم ورق جدران للمنازل الفيكتورية، كما ما زال يظنّ الكثيرون! ففي بداية مسيرته، درس اللاهوت في أكسفورد، ثم تخلى عن رغبته في دخول الكهنوت لدراسة الهندسة والفن. هكذا التقى بأولئك الفنانين الذين سيشكّلون حوله حركة "ما قبل الرافائيلية" المجيدة (دانتي غابرييل روسيتي، إدوارد بورن جونس، ويليام هانت، جون إيفيريت ميلليه...).
في إنجلترا الفيكتورية آنذاك، التي كانت تعاني من تصلّب أخلاقي، أكاديمي وديني يشلّ مجتمعها، وتجتاحها ثورة صناعية رمت بالكثير من أبنائها داخل بؤس مخيف، نجح فنانو هذه الحركة، بقيادة موريس، في كشف، بين يقظة وحلم يقظة، ما تتوق إليه النفس البشرية من نعيم "فردوسٍ مفقود". وبينما كان لا يزال كتاب ميلتون "الفردوس المفقود" المرجع الأول لجميع طلاب كليات أكسفورد، انحرف هؤلاء الفنانون بشكوى هذه القصيدة الملحمية وجعلوا منها بياناً جمالياً وأخلاقياً على حد سواء.
وفعلاً، لم يكتف روسيتي ورفاقه منذ البداية بسلوك الدرب الذي شقّه الشعر لهم داخل فنون الرسم والأدب، بل هجسوا أيضاً بما كان يحصل في بلدهم، وهو ما يفسّر التفافهم حول موريس الذي كان يشكّل نموذج المبدع والمناضل على أرض الواقع في الوقت نفسه. بالتالي، أكثر من مجرّد عودة بسيطة إلى المهارات الفنية التي استبقت ما يُعرَف بـ "الأسلوب الحديث" لرافاييلي، كانت حركتهم غير امتثالية في جوهرها، نوعاً من التحدي في وجه ذوي "التفكير الصحيح" داخل مجتمعهم. حركة حداثية بامتياز إذاً يتعذّر اختزالها بحنين مستهلَك إلى "فردوس مفقود"، نظراً إلى حثّها الفنانين على إعادة اكتشاف كرامتهم الإبداعية داخل قدرتهم على الابتكار بالذات. وبذلك، شكّلت أكثر من مجرّد برنامج طلائعي، قاعدة واسعة للابتكار منحت الرسام والنحات والمهندس ومصمم الديكور وسائر الفنانين فرصة إطلاق العنان لإبداعهم، والتحرر من أي إطار ضيّق ومقيِّد. وفي هذا السياق، أعادت لفعل الخلق مكانته، ليس فقط في مجالي الرسم والنحت، بل أيضاً في مجال التصنيع الحِرَفي، مع موريس كمحرِّض رئيسي لهذه النهضة عن طريق مؤسسة "فنون وحِرَف".
الحس الجمالي
شغفُ موريس بالفنون التطبيقية يعود إلى عام 1851، ومذّاك رفض التصنيع المُمَكْنَن الذي عزّز الإنتاج على حساب الحسّ الجمالي ورفاهية الحِرَفيين، مما دفعه عام 1861 إلى تأسيس شركة، مع بيتر مارشال وفورد براون وشارل فولكنر، حملت اسمهم ووفّرت لحرفييها أفضّل ظروف العمل لصناعة ورق جدران ومنسوجات وأثاث وزجاجيات وقطع خزفية ذات جودة عالية، اضطلع فنانو "ما قبل الرافائيلية" برسم تصاميمها. منتوجات سمتها الأولى حوار لا سباق له بين الفنون، وشكّلت جمالياتها المرجع الأساس لانبثاق تيار "الفن الحديث".
على المستوى الأدبي، وضع موريس مجموعته الشعرية الأولى، "دفاع غونييفر" عام 1858، فاستقبلها النقّاد بفتور ولم يعوا الجانب الرؤيوي لقصائدها المعتمة التي تستبق، بتصويرها عالماً يجتاحه عنفٌ أعمى، المآسي القادمة. وهذا ما يفسّر انتظار موريس حتى عام 1868 كي ينشر مجموعته الثانية، "الفردوس الدنيوي"، وهي قصيدة ملحمية طويلة تتألف من عدة سرديات أعاد فيها قراءة ميثات وأساطير يونانية وإسكندنافية بطريقة شخصية تستبق ما أنجزه عزرا باوند في "الأناشيد". وكما لو أن ذلك لا يكفي، وضع في السنوات التسع الأخيرة من حياته سلسلة روايات، أبرزها "الغابة خلف العالم" و"البئر في نهاية العالم"، أسّست للنوع الروائي الخرافي "Fantasy" الذي تبنّاه كثيرون بعده، أهمهم مواطنه الذائع الصيت اليوم جون رونالد تولكين.
على المستوى السياسي، شارك موريس عام 1884 في تأسيس "الرابطة الاشتراكية. وعلى غرار مواطنه، الناقد والفيلسوف جون راسكين، الذي أثار سخرية بل عدم فهم معاصريه بتخليه مطلع 1860 عن النقد الأدبي بغية تكريس وقته لانتقاد مجتمعه وأسس الاقتصاد السياسي، فاجأ موريس محيطه بـاعتناقه الاشتراكية، ولم يفهم كثيرون داخل وطنه كيف يمكن لشاعر مثله، مرشَّح للفوز بأرفع الجوائز الأدبية، أن يدعو علانية إلى الثورة، وكيف يمكن لفنان بموهبته أن يغامر بسلوكه الدرب الشائك للعمل السياسي. ووجب انتظار المؤرخ إدوارد تومسون، الذي وضع حوله سيرة فكرية، كي يبدأ مثقّفو وطنه بإدراك قيمة فكره وتماسكه، منذ ثورته الرومنطيقية اليوتوبية وحتى التزامه السياسي. ومع ذلك، غالباً ما يتم تجاهل هذا الجانب من نشاطه أو التقليل من شأنه، وذلك على الرغم من سطوة تأملاته السياسية، وخصوصاً مدى راهنيتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذ لا مجال هنا لتناول مختلف الميادين التي نشط موريس فيها، وتألّق، نتوقف بسرعة عند مغامرة الطباعة والنشر التي خاضها انطلاقاً من عام 1890، إثر شرائه مطبعة يدوية وتأسيسه في منزله "دار كيلمسكوت للنشر". مغامرة أثمرت كتباً رائعة، محدودة النسخ، اعتمد لطباعتها مواد ثمينة وحروفاً فنية صمّمها بنفسه وما زالت معتمَدة إلى حد اليوم. أما السياسة التحريرية للدار فتحكّم بها ذوقه الخاص، إذ تضمّن كاتالوغها كتبه، كتباً لرفاق دربه، مثل نصوص جون راسكين وقصائد روسيتي، وأيضاً أعمالاً كان يصفها بـالـ "أثرية". كتب استوحى خصائصها الشكلية من المخطوطات الرومانية (romanes) والغوطية، وهو ما يفسّر هوامشها المزيّنة بتشبيكات زهرية فاتنة تستحضر تلك التي تعلو ورق الجدران والسجاد الذي أنتجه.
باختصار، أبدع موريس في ميادين الفن والأدب والفكر والسياسة وحتى الاقتصاد، وكان أول مَن دعا إلى ضرورة إلغاء الحدود الفاصلة بين هذه الميادين، والاهتمام، من دون تمييز، بجميع الفنون التي "سمحت للبشر، على مرّ الزمن، بتجميل الأشياء المألوفة للحياة اليومية". دعوة التزم بها، وتبيّن ثمارها كم كان رائداً في مقاربته للفنون الزخرفية، نظراً إلى تبنّي عدد كبير من فناني الديكور والديزاين اليوم رؤيته لعالم يكون بمثابة "نشيد للتعايش والمجانية وتحقيق الذات وحب العمل المتقن والجمال. عالم أقرب إلى الإنسان والطبيعة، أقرب إلى أثر اليد منه إلى أثر الآلة".