راهن معظم بلدان الشرق الأوسط والمنطقة العربية على فوز ساحق للجمهوريين خلال انتخابات التجديد النصفي الأميركية، مثلما راهن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب على "موجة جمهورية حمراء" تكتسح الحزب الديمقراطي "الأزرق"، لكن حزب الرئيس بايدن احتفظ بأغلبية مجلس الشيوخ على ما يبدو.
وبينما فاز الحزب الجمهوري كما كان متوقعاً بأغلبية مجلس النواب، ويرى مراقبون أن تأثيراً محدوداً سينعكس على سياسة واشنطن تجاه منطقة الشرق الأوسط بعد أن جعلت الأغلبية الديمقراطية في "النواب" بايدن بمثابة "بطة عرجاء"، وهو مصطلح أميركي يطلق على الرئيس الذي يفقد حزبه الأغلبية في الكونغرس خلال انتخابات منتصف الولاية.
لكن هذا التأثير المحدود ينظر إليه المراقبون كحد صارم أمام توجه الرئيس الأميركي خلال العامين الباقيين من رئاسته لتحقيق تطلعات الديمقراطيين نحو المنطقة، مما سيعرقل كثيراً من تحركات سياسته الخارجية تجاه الشرق الأوسط، لا سيما تلك المرتبطة بنفقات مباشرة ومساعدات مالية وعسكرية في ضوء القبضة الجمهورية المحكمة على مجلس النواب المنوط به إقرار الاعتمادات والموازنات المختلفة.
وفي حين ينتظر الحزب الديمقراطي تأكيد أغلبيته في مجلس الشيوخ رسمياً مع جولة الإعادة على مقعد واحد في أوائل ديسمبر (كانون الأول) المقبل، يعتقد محللون للشأن الأميركي أن العامين المقبلين سيكونان بمثابة جولة تمهيدية للسباق الرئاسي الذي قد يشهد عودة ترمب من جديد سيداً للبيت الأبيض.
العصا والجزرة بيد من؟
تنتهج واشنطن سياستها الواقعية البراغماتية المعروفة بسياسة "العصا والجزرة"، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط، وبينما ترسم ملامح السياسة الأميركية في البيت الأبيض ووزارة الخارجية والمؤسسات التنفيذية، فإن اعتمادات الموازنة والمساعدات الخارجية وغيرها من القضايا المؤثرة في علاقات واشنطن بحلفائها وخصومها تجد طريقها في نهاية المطاف بين أروقة الكونغرس، حيث لجان الشؤون الخارجية والاستخبارات والدفاع والاعتمادات وغيرها.
ويرى رئيس "معهد الشرق الأوسط" بواشنطن بول سالم أن الكونغرس المكون من مجلسين "يعد أحد صناع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة، إذ يتحكم مجلس النواب في الإنفاق وقرارات السياسة الخارجية التي تتطلب الإنفاق على أشياء مثل المساعدة العسكرية الأميركية لأوكرانيا أو مواجهة تداعيات الجائحة والتغير المناخي وغيرها من النفقات الخارجية التي تتطلب موافقة مجلس النواب، وفي سياسة الجزرة والعصا التي قد تستخدمها الولايات المتحدة في السياسة الخارجية يمكن للبيت الأبيض بشكل عام اتخاذ قرار في شأن العصا، لكن الجزرة تتطلب موافقة الكونغرس."
ولمجلس الشيوخ الذي احتفظ بأغلبيته الديمقراطيون التصديق على ترشيحات البيت الأبيض لمنصب السفراء والمناصب الحكومية العليا الأخرى المرتبطة بالسياسة الخارجية، وهناك عدد من عواصم الشرق الأوسط لا يزال يترأس بعثتها قائم بالأعمال بانتظار تعيين إدارة بايدن سفراء جدد".
وللكونغرس أيضاً الاعتراض على مبيعات الأسلحة الأجنبية أو تأخيرها مما قد يؤثر في الحسابات السياسية للبيت الأبيض، بحسب سالم.
النتيجة المفاجئة
الموجة الحمراء وفق التعبير الأميركي لم تمر كما اشتهت سفن الحزب الجمهوري خلال الانتخابات النصفية للكونغرس، فالاستطلاعات التي توقع معها كثيرون فوزاً ساحقاً للجمهوريين كذبت هذه المرة، وتوقف المد الأحمر عند حدود انتزاع الأغلبية البسيطة بمجلس النواب الأميركي الغرفة الأدنى بالكونغرس المكون من مجلسين.
وبينما حسم الديمقراطيون، حزب الرئيس جو بايدن، أغلبية مجلس الشيوخ وقلصوا الفارق في مجلس النواب، فقد خسروا الأغلبية في مجلس النواب الذي هيمن عليه حزب الرئيس السابق دونالد ترمب الذي عاد للمشهد قبيل الانتخابات وألقى بثقله السياسي والمالي خلف عدد من المرشحين في الانتخابات النصفية، لكنهم خيبوا آماله إلى حد ما، فما كان لتلك النتيجة غير المتوقعة إلا زيادة ترمب إصراراً على خوض معركة الانتخابات الرئاسية المقبلة خلال أقل من عامين، رافعاً شعار "أميركا أولاً" ومكرراً عبارته الأثيرة "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، وهو ما يحمل انعكاسات على سياسة واشنطن الخارجية تجاه المنطقة والعالم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الباحث المتخصص في الشؤون السياسية الأميركية عمرو عبدالعاطي يعتقد أن عدم حدوث موجة حمراء خلال انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، في إشارة إلى خسارة الرهان على تحقيق الجمهوريين فوزاً كاسحاً، كان "النتيجة المفاجئة لتلك الانتخابات التي راهن معها عدد من خصوم الولايات المتحدة بل وحلفاؤها أيضاً على عودة سريعة للنفوذ الجمهوري بعد عامين فقط من إدارة بايدن".
وكان الجمهوريون يروجون بأن انتخابات التجديد النصفي للكونغرس التي أجريت في الثامن من نوفمبر الحالي ستشهد "موجة حمراء"، بمعنى نجاح الجمهوريين في عدد من الولايات الأميركية، لا سيما تلك المتأرجحة التي تحدد الحزب الذي سيفوز بالأغلبية في مجلسي الكونغرس أو كليهما.
ووفق عبدالعاطي كان الجمهوريون يعملون على قلب مقاعد الكونغرس التي فاز بها الديمقراطيون في السابق للفوز بأغلبيته، لكن نتائج الانتخابات كشفت عن خسارة المرشحين الجمهوريين في عدد من الولايات المتأرجحة، وفقدانهم معقداً في مجلس الشيوخ حتى الآن، ويتوقع أن يفقدوا آخر في السادس من ديسمبر (كانون الأول) المقبل، إذ ستجري إعادة الانتخابات بين المرشحين الجمهوري والديمقراطي في ولاية جورجيا، وفوزهم بأغلبية ضئيلة في مجلس النواب.
الرهان الخاسر
وأعرب عبدالعاطي عن اعتقاده بأن عدداً من الدول العربية في المنطقة كانت تعول على تلك الموجة الحمراء لأسباب عدة، أبرزها أن فوز الجمهوريين بأغلبية الكونغرس "ستقوض أجندة الرئيس بايدن التشريعية خلال العامين المقبلين، وهو ما قد يؤثر في فرص فوزه في حال ترشحه لفترة رئاسية ثانية عام 2024، بخاصة أن الإدارة الديمقراطية تعلي من الضغوط المرتبطة بقضية حقوق الإنسان والديمقراطية من منظورها، وتضعها على أجندة اتصالات أعضاء الإدارة بقيادات ومسؤولي عدد من الدول العربية، فضلاً عن أن الموجة الحمراء ستقوض المساعي الأميركية لإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 الذي انسحبت منه إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، وهو ما ترفضه عدد من الدول الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة وفي مقدمها إسرائيل، التي ترى أن سياسات إدارة بايدن تتساهل مع إيران ولا تركز على دورها المزعزع للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط".
ويضاف إلى ما سبق أن التحول في أغلبية الكونغرس من شأنه "التأثير في الخطط الأميركية للضغط على بعض الدول العربية الغنية للمشاركة في فاتورة دعم الدول الفقيرة لمواجهة آثار التغير المناخي ولإحداث تحولات في اقتصاداتها لتكون أكثر اعتماداً على الطاقة النظيفة والاقتصاد الأخضر، لا سيما في وقت تحقق فيه تلك الدول مكاسب اقتصادية من استمرار الطلب العالمي على الوقود الأحفوري"، بحسب الباحث.
وأخيراً لفت عمرو عبدالعاطي إلى أن هناك قناعة عربية أن الولايات المتحدة في ظل سيطرة الجمهوريين "تكون أكثر اقتراباً من المصالح والرؤى العربية، وتركيز الإدارة الأميركية على المصالح المشتركة في إطار تبني الولايات المتحدة سياسات واقعية تتعامل مع المنطقة كما هي، وليس كما تطمح الولايات المتحدة أن تكون المنطقة".
فترة البطة العرجاء
الباحث في الشأن الأميركي وزميل "مركز وودرو ولسون" في واشنطن عاطف سعداوي رأى أن فقدان الأغلبية في مجلس النواب "سيعني قيداً على حرية بايدن في التشريع، مما يجعل من العامين الباقيين من رئاسته ما يسمى بفترة ’البطة العرجاء‘ في السياسة الأميركية، بمعنى أنهما عاما تسيير الأمور وليسا فترة تحولات في توجهات الإدارة الأميركية".
ويعتقد سعداوي أن بايدن سيبتعد من التغيرات الاستراتيجية في سياسته تجاه منطقة الشرق الأوسط، "لأنه لن يتحمل انعكاسات أي تغير استراتيجي في سياسته الخارجية، إذا أعلن رغبته في الترشح عام 2024، إذ اعترف شخصياً بإخفاقه في قرار الانسحاب المرتبك من أفغانستان".
وترتيباً على ذلك ستتوقف طموحات الإدارة الديمقراطية للعودة للاتفاق النووي مع طهران، بحسب الباحث في الشأن الأميركي الذي رأى أنه في ما يتعلق بما سماه "الصفقة مع إيران، فإذا توصل إليها بايدن كاتفاق فلن يمررها كقانون وسط اعتراض الجمهوريين، وهذا المحدد سيعيد ضبط بوصلة السياسة الخارجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط تحديداً في ضوء سيولة الرؤية الأميركية الراهنة للشرق الأوسط، فترمب كانت لديه نظرة واضحة في منطقة الشرق الأوسط لكن بايدن لا يعطي حلفاء واشنطن هناك درجة واحدة من الاهتمام على خلاف الإدارة الجمهورية، ولم تشهد العلاقات الخليجية والعربية مع واشنطن فتوراً كما هو الحاصل في عهد بايدن الذي لم يقم بزيارة دولة ثنائية للمنطقة العربية حتى الآن، فما شارك فيه كان قمماً إقليمية ودولية".
ويشير سعداوي إلى أن تقليل انخراط أميركا في الحرب الأوكرانية سينعكس إيجاباً على العلاقات العربية - الأميركية، لأن واشنطن "ترى المنطقة ضد هذه الحرب من منظورها الغربي وتتخذ مواقف موسكو بشكل ضمني، وبايدن بعث رسائل سلبية لحلفاء واشنطن في الشرق الأوسط أكد من خلالها أن أميركا حليف لا يمكن الوثوق فيه".
وينظر الباحث المتخصص في الشأن الأميركي إلى أن العامين المقبلين "سيكونان مجرد حملة تمهيدية للانتخابات الرئاسية، وسيشهدان تقليلاً من سرعة اندفاع بايدن نحو تحقيق الأجندة الخاصة بالحزب الديمقراطي مع إعادة ضبط بوصلة السياسة الخارجية الأميركية للتكيف مع بعض المتغيرات وتصحيح الأخطاء، لكن القضايا الأساس في المنطقة مثل فلسطين وسوريا وليبيا واليمن لن يكون فيها انخراط كبير، بل سيكون التركيز على القضايا الداخلية التي ستنعكس على السباق الانتخابي الرئاسي عام 2024".
وطلبت إدارة بايدن التي جاءت إلى السلطة وسط ذروة وباء كورونا من الكونغرس 9.25 مليار دولار لمواجهة تأثيرات جائحة كورونا، ويعكس طلب إدارة بايدن البالغ نحو 10 مليارات دولار لتمويل استجابة كورونا تراجعاً عن طلب سابق بقيمة 22.5 مليار دولار جرى تقديمه في وقت سابق هذا العام ولم يتم الوفاء به.
وإضافة إلى ذلك طلب بايدن 37.7 مليار دولار إضافي لدعم أوكرانيا في حربها مع روسيا، وقال مسؤولو البيت الأبيض إن الإدارة ستركز على تمويل الحكومة والاستجابة لكورونا خلال ما يسمى بفترة "البطة العرجاء" حتى نهاية هذا العام، كما أعلن البيت الأبيض أن التمويل المخصص لأوكرانيا طوال السنة المالية سيخصص للمعدات الدفاعية والمساعدات الإنسانية ودعم الأمن النووي.
سياسة مركزة على الصين
الباحثة في "مركز ستيمسون" بواشنطن إيما أشفورد رأت في تحليل منشور بمجلة "فورين بوليسي" الأميركية تزامناً مع الانتخابات النصفية، أن مجلس النواب الذي يقوده الجمهوريون سيعني "موقفاً أكثر تشدداً تجاه الصين ومساعدة أقل لأوكرانيا"، كما من المرجح ألا تعطي واشنطن "شيكاً على بياض" في مساعداتها الخارجية وحزم الدعم المالي المباشر.
ولفتت الباحثة الأميركية إلى أن سياسة واشنطن خلال العامين الباقيين من رئاسة بايدن ستركز على الصين لا الشرق الأوسط، مستدلة على ذلك بما ذكره الرئيس المستقبلي المحتمل للجنة الاستخبارات بمجلس النواب مايك تورنر من أنه يريد نزع الطابع السياسي عن المعلومات الاستخباراتية بعد الخلافات التي دارت خلال سنوات ترمب، وإعادة توجيه مجتمع الاستخبارات الأميركي من أجل منافسة الصين.
وأشارت كذلك إلى أن مايك روجرز المحتمل أن يكون الرئيس المستقبلي للجنة القوات المسلحة بمجلس النواب يريد زيادة توجيه الإنفاق الدفاعي إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، للتركيز على التنافس مع الصين أيضاً، مؤكدة أن أغلبية جمهورية في الكونغرس من شأنها أن تدفع إدارة بايدن والولايات المتحدة إلى تكثيف تركيزها على الصين.
ومن ناحيته، اتفق الجمهوري المرشح لرئاسة لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب مايكل ماكول مع ما ذهبت إليه أشفورد، وقال إن أولويته القصوى ستكون التنافس مع الصين الصاعدة، بما في ذلك مراقبة صادرات التكنولوجيا الفائقة. مصرحاً لوكالة "رويترز"، الأربعاء 17 نوفمبر الحالي، "نحن في منافسة كبيرة للقوة الآن مع الصين الشيوعية، فهم منافسنا الأول الآن وربما أكبر تهديد للأمن القومي".
العلاقة مع تل أبيب
وكان بنيامين نتنياهو من آخر القادة الأجانب الذين تلقوا مكالمة هاتفية من بايدن بعد وصوله إلى المكتب البيضاوي قبل عامين، على رغم علاقة إسرائيل الخاصة بالولايات المتحدة، ومع عودة رئيس الوزراء الإسرائيلي للحكومة مجدداً فليس من المتوقع أن تحدث انفراجة مفاجئة في الطبيعة الراهنة للعلاقة بين تل أبيب وواشنطن، وقد ذكرت افتتاحيات صحف عبرية عدة أن الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة "لن يكون لها تأثير كبير في العلاقات الحالية بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط".
وبينما يمثل موقف واشنطن من إيران معياراً أساساً لتقويم طبيعة العلاقة الإسرائيلية - الأميركية في الوقت الراهن، ألمحت تلك الصحف إلى أن العودة للاتفاق النووي مع إيران أمر مستبعد في ضوء تخلي الديمقراطيين نسبياً عن الفكرة ومعارضة الجمهوريين لها طوال الوقت، كما أن حركة الاحتجاج في إيران والمزاعم حول إرسال إيران طائرات من دون طيار للمساعدة في حرب روسيا في أوكرانيا "تجعل العودة للاتفاق أقل احتمالاً".