تتعالى الأصوات مبكراً في أوكرانيا إعلاناً عن الرغبة في خوض الانتخابات الرئاسية المرتقبة، والمقرر لها دستورياً مارس (آذار) عام 2024. وإذا كان هناك من يرى عقلانية إعلان شخصيات كانت في السابق محسوبة على الرئيس الأوكراني الحالي فولوديمير زيلينسكي، عن رغبتها في الترشح منافسة لرفيق الأمس ممن سبق وأسهم في إطاحتهم بعيداً عما كانوا يشغلونه من مناصب قيادية على مقربة من الرئيس، فمن الغرابة بمكان أن تكشف شخصيات أخرى مماثلة، يعتبرها كثيرون داخل المجتمع الأوكراني من أهم أعمدة النظام الحالي وأركانه.
ومن هذه الشخصيات نتوقف بداية عند ألكسي أريستوفيتش مستشار الرئيس الأوكراني الذي سبق أن استقال من كل مناصبه، قانعاً بوجوده على مقربة في منصب مستشار الرئاسة الأوكرانية، وإن وقع اختيار زيلينسكي عليه ليكون في صدارة الفريق التفاوضي الذي اختاره لأول مباحثات أجراها الجانب الأوكراني مع نظيره الروسي في بيلاروس في مطلع مارس الماضي، وذلك استناداً إلى خبرات سابقة اكتسبها خلال أحداث "الثورة البرتقالية" في عام 2014، وما تلاها من نشاط سياسي تفاوضي ضمن صفوف الوفد الأوكراني الذي شارك في صياغة اتفاقيات مينسك خلال عامي 2014-2015.
ترشح أريستوفيتش
وكان أريستوفيتش استبق الأحداث ليكشف صراحة في حديثه إلى دميتري جوردون صاحب البرامج الحوارية الأكثر شهرة في أوكرانيا وخارجها، عن رغبته في الترشح، مستنداً في ذلك إلى سابق شعاراته التي تتسم بكثير من التشدد، والدعوة إلى بذل مزيد من الجهود للحد من "غلواء" روسيا وقيادتها، التي قال إنها وفي حالة نجاح عمليتها العسكرية ستضم إلى قدراتها وتعداد قواتها المسلحة الجيش الأوكراني بكل ما يملكه من عتاد وتعداد وقدرات.
وحاول أريستوفيتش "تخويف" الشعوب الأوروبية بقوله إن كل ذلك سيكون موجهاً لاحقاً صوب بلدان الاتحاد الأوروبي التي يمكن أن تكون عاجزة عن مواجهة ما وصفه بـ"التحالف المستقبلي" لجيوش روسيا وأوكرانيا ومعهما بيلاروس. وفي هذا الصدد قال ألكسي أريستوفيتش إنه في حالة استكمال العملية الخاصة الروسية بنجاح في أوكرانيا فإن الاتحاد الأوروبي لن يتمكن من وقف اتحاد موسكو وكييف.
وتحول أريستوفيتش إلى الإعلان عن برنامج انتخابي شديد الفرادة والإثارة والتميز. غير أنه قد يكون من المناسب، وقبل التوقف عند مفردات هذا البرنامج الانتخابي، استعراض بعض مفردات السيرة الذاتية لهذا السياسي الشاب متعدد المواهب الذي لا يتجاوز من العمر أكثر من 47 سنة.
وتقول الأدبيات الأوكرانية والروسية إن أريستوفيتش ولد في بلدة تسيتيلي تسكارو بجورجيا في أغسطس (آب) عام 1975 عن عائلة تمتد جذورها إلى القوميتين البيلاروسية والبولندية، قبل أن ينتقل إلى أوكرانيا لدراسة الأحياء في إحدى كليات جامعة كييف، لكنه سرعان ما عزف عن استكمال الدراسة في هذه الكلية العملية، ليتركها رغبة من جانبه في الالتحاق بأكاديمية القوات البرية في أوديسا، حيث واصل دراسته المعمقة للغة الإنجليزية، مما أهله للعمل مترجماً عسكرياً، وإن اعترف لاحقاً بأنه تحول إلى العمل في جهاز الاستخبارات العسكرية، قبل أن يقدم استقالته في رتبة مقدم. ومن المعروف أن أريستوفيتش تحول إلى ممارسة هوايته في التمثيل ليشارك في ما يقرب من 17 فيلماً ومسلسلاً روسياً وأوكرانياً، قبل أن يهجر الفن والتمثيل، شأن الرئيس الحالي زيلينسكي، لممارسة السياسة.
أما عن رغبته في الترشح إلى منصب الرئيس في الانتخابات الرئاسية المرتقبة، التي حرص على الإفصاح عنها، مقرونة بتحفظ يتلخص في أنه سيفعل ذلك في حال عدم ترشح الرئيس الحالي زيلينسكي، فثمة من يقول إن هذه الرغبة تعود إلى "تنسيق مشترك مع الرفاق في بولندا"، في وقت مواكب لما يتردد حول احتمالات ترشح أندريه يرماك للمنصب نفسه، وهو الذي يشغل حالياً منصب رئيس ديوان الرئاسة.
فاليري زالوجني
وما دام الشيء بالشيء يذكر فإننا نسارع لنقول إن الجنرال فاليري زالوجني القائد العام الحالي للقوات الأوكرانية المسلحة يقف اليوم أيضاً في صدارة قائمة المرشحين المحتملين لمنصب الرئيس، وهو المعروف بتشدده ودوره المتميز في ما حققته أوكرانيا من تقدم خلال الفترة الأخيرة، وذلك إلى جانب رازومكوف الرئيس السابق لمجلس الرادا (البرلمان الأوكراني) الذي نجح زيلينسكي في إطاحته من هذا المنصب، على رغم كل تاريخ تعاونهما المشترك لسنوات طويلة.
وإذا كان لكل من هؤلاء مبرراته وأسانيده التي يتكئ إليها استعداداً للقفز على المنصب، متجاوزاً كل رفاق الأمس ومنهم الرئيس الحالي زيلينسكي، فإن أريستوفيتش قد يتميز وحسب تقديرات كثيرين من المراقبين الأوكرانيين عن كل هؤلاء، بما طرحه من أفكار لإعادة بناء أوكرانيا في إطار وحدوي يجمعها مع بولندا المجاورة.
وقد كشف أريستوفيتش صراحة في أكثر من لقاء تلفزيوني عن طموحات، قال إنها تلقى ترحيباً لدى الجانب البولندي، الذي تشير شواهد وتصريحات كثيرة إلى ما يتخذه من خطوات عملية على صعيد تنفيذ هذا "البرنامج الطموح". ومن هذه التصريحات ما أدلى بها أريستوفيتش في لقائه مع الإعلامية اليهودية الروسية الهاربة من موسكو لاريسا لاتينينا. وقال فيها بضرورة العثور على الصيغة المناسبة لتحقيق الاتحاد مع بولندا بما قد يسمح لاحقاً بالتمدد إلى الفضاء الأوروآسيوي. واستطرد أريستوفيتش ليضيف أن بعضاً من هذه الأفكار سبق وراودت الجانب الأوكراني، الذي أراد تطبيقها مع بيلاروس، في إشارة إلى ما شهدته بيلاروس من اضطرابات وأحداث في صيف عام 2020 الذي شهد محاولة إطاحة الرئيس البيلاروسي الحالي ألكسندر لوكاشينكو. ورغماً عن ذلك فقد كشف أريستوفيتش عن أن بيلاروس لا تزال ضمن دائرة الرؤية، وأن أوكرانيا تتمسك بحلم انضمامها مع بلدان البلطيق إلى "الدولة الوحدوية" التي من المنتظر أن تضم كلاً من أوكرانيا وبولندا، بحسب إشارات المسؤول الأوكراني رفيع المستوى. ومضى أريستوفيتش في ما يصفه بعض المراقبين في موسكو بـ"أضغاث أحلام"، ليقول إن الاتحاد مع بولندا قد يسمح لاحقاً باستعادة "حلف وارسو" بعد تجاوز كل سلبيات الماضي وما شهدته علاقات البلدين من خلافات تاريخية، في إشارة إلى مذبحة فولين في 1943، التي تتهم السلطات البولندية القوميين الأوكرانيين بارتكابها ضد سكان قرابة 150 قرية بولندية، مما أسفر عن مقتل ما يتراوح بين 100 و130 ألفاً من سكان هذه القرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتلك كلها نقاط تبدو على درجة كبيرة من التنسيق والوفاق مع ما سبق ووقعته القيادات البولندية، مع نظيرتها الأوكرانية الحالية من اتفاقيات وتعاقدات. ويذكر المراقبون ما اتخذه الرئيس البولندي الحالي أندريه دودا من خطوات على صعيد دعم أوكرانيا وإمدادها بكل المساعدات المالية والعسكرية، إلى جانب ما قام به مع نظرائه من دول البلطيق من زيارات للعاصمة الأوكرانية.
وكان نيكولاي باتروشيف سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي توقف عند بعض هذه الجهود والقرارات، معيداً إلى الأذهان ما وقعه دودا من اتفاقيات مع أوكرانيا حول فتح الحدود المشتركة بين البلدين في صيف العام الحالي. وكان الرئيس الأوكراني زيلينسكي "رد على التحية بأحسن منها"، بتوقيعه قراره الذي يمنح المواطنين البولنديين بموجبه كثيراً من التسهيلات والامتيازات داخل الأراضي الأوكرانية بما فيها حرية العمل والتنقل والالتحاق بالوظائف الحكومية الرسمية داخل أوكرانيا. وهو ما سبق وحذر منه فلاديمير ميدينسكي مساعد الرئيس بوتين، رئيس الوفد الروسي في المباحثات مع الجانب الأوكراني، حين قال إن بولندا تكاد تكون قريبة من استعادة الأراضي الواقعة غرب أوكرانيا، في إشارة إلى ما جرى استقطاعه من الأراضي البولندية لصالح أوكرانيا بموجب نتائج الحرب العالمية الثانية، مع مساحات أخرى من الأراضي المجرية في منطقة الكاربات، وما هو إلى الجنوب منها من أراضي رومانيا.
أراضي بولندا
وفي هذا الصدد توقفت مصادر كثيرة، غربية وروسية ومنها صحيفة "غازيتا رو" الإلكترونية، عند ما يتردد حول أن "السلطات البولندية تستعد لغزو أراضيها التاريخية في غرب أوكرانيا والاستيلاء عليها". ونقلت المطبوعة الروسية عن صحيفة "Modern Diplomacy" (الدبلوماسية الحديثة)، ما أشارت إليه حول "حقيقة أن البولنديين يتمتعون بالفعل بحقوق خاصة في البلد المجاور. فلديهم الفرصة للالتحاق بالوظائف الحكومية، وتلقي جميع الضمانات الاجتماعية المستحقة للسكان الأصليين، إضافة إلى ذلك، يمكن لرجال الأعمال البولنديين شراء المصانع والشركات الأوكرانية بشكل قانوني". ومضت لتقول، "يبدو أن خطة الحزب الحاكم (القانون والعدالة) لإحياء جمهورية بولندا داخل حدود" الأراضي التاريخية "قد تشكلت قبل وقت طويل من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا". وأضافت أن "سلطات وارسو صارت تملك حق إدخال وحدة عسكرية إلى الجزء الغربي من أوكرانيا، وإجراء استفتاء هناك في شأن دخول الأراضي المحتلة إلى بولندا"، وهو سيناريو قابل للتطبيق في حال هزمت القوات المسلحة الأوكرانية وهاجرت حكومة كييف الحالية إلى الغرب. وإذا حدث ذلك، فسوف ينظر إلى المتدخلين على أنهم "محررو الشعب الأوكراني، وليسوا كمحتلين"، على حد ما أشارت إليه هذه المطبوعة الأوروبية.
وتلك كلها تصريحات تشير إلى الاتفاق في الرأي، حتى بين الطامحين إلى منصب الرئاسة في أوكرانيا، بمن فيهم من تحول إلى المعارضة، من مواقع مؤيدة لسياسات النظام الحالي في أوكرانيا، ولا سيما ما يتعلق منها بمواجهة ما يصفونه بـ"غزو القوات الروسية للأراضي الأوكرانية"، وضم أربع من كبريات مقاطعاتها في جنوب شرقي أوكرانيا. ومن هؤلاء دميتري رازومكوف الرئيس السابق للبرلمان الأوكراني، الذي لطالما كان محسوباً على مجموعة الرئيس زيلينسكي، من موقعه كرئيس للحزب الحكم "خادم الشعب".
ونكتفي في هذا الصدد بالإشارة إلى أن رازومكوف ولد في عام 1983 عن أب كان يعمل مساعداً لرئيس الجمهورية الأوكرانية الأسبق ليونيد كوتشما، وتخرج في معهد العلاقات الدولية قبل أن "يتفرغ للعمل السياسي استناداً إلى ما تراكم لديه من خبرات في مجال التقنيات والاستشارات السياسية، وقضايا العمل المعلوماتي والتحليلي في مجال السياسة الداخلية والخارجية للدولة، وكذلك تكييف وتنفيذ التقنيات السياسية لتنفيذ استراتيجيات تكوين الرأي العام والصورة"، بحسب موقعه على مواقع التواصل الاجتماعي.
وتنقل رازومكوف بين الأحزاب الأوكرانية ومنها اليمينية واليسارية، بما في ذلك عمله في "حزب الأقاليم" برئاسة فيكتور يانوكوفيتش الرئيس الأوكراني الأسبق، إلى جانب منصبه كنائب لرئيس حكومة يانوكوفيتش الذي أطاحته جموع "الثورة البرتقالية" في فبراير (شباط) 2014، لكن الأهم قد يتمثل في أن رازومكوف نجح بعد إطاحته من منصب رئيس البرلمان الأوكراني لخلافات تتعلق بالموقف من "أوليجاركيا وسياسات العقوبات"، في تشكيل مجموعته البرلمانية التي أطلق عليها اسم "السياسة العقلانية"، وتضم اليوم 24 نائباً، معظمهم من المنشقين عن "الحزب الحاكم" – "خادم الشعب"، ممن يقفون اليوم وراء فكرة ترشحه لمنصب الرئيس في الانتخابات الرئاسية المقبلة.