أن ترفع الفرس "المشهر" أقدامها الأمامية وتطلق صهيلاً يصل مداه بعيداً، وتسير وهي بالوضعية نفسها من دون مساعدة أحد، ثم تقوم على يديها مرة وعلى رجلها أخرى، وبعدها تمشي بطريقة "الخبب" وتقفز وسط دائرة مغلقة بلياقة، فهذا باختصار ما تعنيه رياضة ترويض الخيول في غزة، وتلك المهارات التي يتقنها الفارس عبدالله الغفري.
وتستطيع "المشهر" القيام بكثير من الحركات التي تمكن عبدالله من تعليمها إياها، وتفهم عليه إشارته التي ينفذها بعصا طويلة يستخدمها لإعطائها أوامر الرقص أو الركض أو القفز وغيرها من المهارات التي تتقنها، وحتى إذا خاطبها بلهجته العامية تدرك الخيل حديثه ولا تتوانى في تطبيقه.
رياضة تنافسية
وبشكل أسبوعي يحضر سكان غزة عروضاً جديدة تنفذها "المشهر"، وفي كل مرة تبهر جمهورها بمهارات حديثة تعلمتها من مدربها عبدالله الذي يعشق رياضة ترويض الخيول ويبدع في التعامل معها.
ويعد ترويض الخيول إحدى رياضات الفروسية التنافسية المعتمدة لدى الاتحاد الدولي للفروسية، وتقام لها مسابقات في بطولة ألعاب الفروسية العالمية، وخلالها يتوقع أن يؤدي الفارس والحصان سلسلة من الحركات المحددة مسبقاً، وتمثل أسمى تعبير عن تدريب الخيول.
ويعرف الترويض بأنه "أساليب تدريب متقدمة تهدف إلى تطوير القدرة الرياضية الطبيعية لدى الحصان وجعله مستعداً لأداء حركات بمفرده أو بمساعدة بسيطة من فارسه، وخلالها يكون الخيل في قمة تطور الأداء الترويضي".
مروضون قليلون
عبدالله واحد من 15 مروضاً للخيول في غزة يملك مهارات تعلمها من خبرته الطويلة في تربية الأحصنة، ويستطيع التعامل مع فرسه "المشهر" بسهولة بحكم علاقة الثقة بينهما.
وقال عبدالله "علاقتي مع الأحصنة امتداد إرث عائلي طويل، فقد تعلمت من والدي كيف أحنو على الفرس كأنها صديق، وألا أعاملها بعنف أو قسوة"، ولم يكتف عبدالله في مهارة ركوب الخيل بل طور نفسه حتى تمكن من إتقان الترويض، وأضاف أن "علاقة الثقة بين المروض والحصان مهمة جداً حتى ينفذ الخيل التعليمات، وبعد سنوات أصبحت أركبه بلا سرج أو لجام وعلمته لغة الكلام والإشارة، واليوم يفهمني بإشارات متبادلة بيننا أو بمجرد الحديث".
يومياً عند الثامنة صباحاً وبعد تناول "المشهر" وجبة الإفطار يبدأ عبدالله في دروس الترويض داخل الإسطبل الخاص به، وبشكل مستمر يعلمها مهارات جديدة ويوضح أن هذه المهارات تتمثل في "التسريج" أي ملابس الحصان المعدة له، والوقوف على قدمين ورفع اليدين والتدريب على ممارسة بعض الألعاب.
مهارات
"المشهر" واحدة من الخيول العربية الأصيلة المؤصلة الموجودة في غزة، وتحمل اسماً رسمياً وجواز سفر، فهي مسجلة بمنظمة الـ "إيكاهو" الدولية للخيول الأصيلة التي تعمل على تنظيم مسابقات، كونها تنحدر من سلالة معروفة الأصل ولديها شجرة عائلة تضم 40 من الجدود الأصيلين.
ومن بين المهارات التي باتت "المشهر" تتقنها جميع أنواع المشي، ومنها "الواكي" وهو المشي الراقص و"الخبب" أي الركض الخفيف المصحوب بحركات منتظمة رسمية، وعادة ما يستخدم هذا النوع في المراسم الرسمية، وكذلك "الكانتر" أي الركض السريع المصحوب بالقفز.
وأوضح عبدالله أن أنواع سير الحصان هذه تتم بحركات معينة ووقت منظم وضمن حسابات وقياسات دقيقة.
معايير
وفي الحقيقة لا يمكن اختيار أي حصان من غزة لترويضه، فهذه العملية تتم وفق معايير وشروط معقدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رئيس اللجنة الفنية في الاتحاد الفلسطيني للفروسية عبدالعزيز أبو شريعة قال "حتى نصل إلى حصان يمكن ترويضه وتدريبه يجب أن يكون خرج من مزارع للخيول تمنح أنسالاً موثقة".
وأوضح أبو شريعة أن معظم الخيول العربية ذات الأنساب هي التي تجري لها عملية ترويض، لكن شرط أن تتجاوز جميع اختبارات ما قبل عملية التدريب وأن تكون ذات نسب ومعروفة الأب والأم حتى تستطيع أن تنافس عالمياً.
ووفقاً لمعايير منظمتي "إيكاهو" والاتحاد الدولي للفروسية "FEI"، فإنه يمنع تدريب المهر أو أي حصان لم يتجاوز ست سنوات، وذلك حتى يكتمل نمو جميع الأجهزة الداخلية والأوتار والعضلات، لكن ذلك قد لا يكون مطبقاً في غزة.
"المشهر" استغرق ترويضها نحو أربع سنوات، لكن جرى ذلك بطريقة معقدة، وأشار صاحبها عبدالله إلى أن ترويض الخيول يحتاج إلى بعض الأجهزة والمعدات، وهذا غير متوافر في غزة المحاصرة، ولتعويض ذلك نعتمد على التمارين البدائية.
وكانت إزالة الخوف من "المشهر" أول ما بدأ به عبدالله واستغرقت نحو 14 شهراً، وبعدها مرت عملية الترويض بشكل أسهل من مرحلة البداية.
مهمة صعبة
وقال أبو شريعة إن رياضة ترويض الأحصنة تعد أصعب مهمة في علم الخيول، وتأتي بعد أن تخلق علاقة كبيرة بين المروض والجواد وتستغرق نحو ثلاث سنوات وقد تصل إلى خمسة.
وبحسب الاتحاد الفلسطيني للفروسية فإن غزة تعاني قلة عدد المروضين، كما أن الموجودين منهم في القطاع يعتمدون على الخبرة المتراكمة لسنوات بالتعامل مع الخيول، ولا يحملون شهادات تدريب من المنظمات الدولية المهتمة بالمجال.
لكن أبو شريعة يؤكد أنهم يعملون حالياً على تنظيم دورات للمروضين بالتعاون مع الاتحاد الدولي للفروسية، موضحاً أنه يجري ترويض 10 خيول في غزة كل سنة، لكن هذه الأحصنة المدربة لا تحمل أي رقم من الاتحاد الدولي للفروسية وغير معترف بأنها مروضة، بسبب معوقات خروجها للتسجيل والمشاركة في مسابقات.
خيول غير مسجلة
وترفض جميع خيول غزة من المشاركة في أي مسابقة أو عرض دولي ويفرض عليها حظر، ويرجع أبو شريعة السبب إلى عدم توافر عيادات طبية معقمة أو أدوية في القطاع، وهذا يعني أن الحصن لا تتمتع بمقومات صحية وبيطرية تجعلها تقبل أو تنافس عالمياً.
وفي غزة نحو 80 حصاناً للقفز و40 للسباق و21 للجمال، وجميعها مسجلة في "إيكاهو" لكن هذا ليس العدد الإجمالي للخيول بالقطاع، بل يفوق الـ 1000 وتعيش في ناديين اثنين فقط، بعد أن كانت موزعة على ستة أندية، لكن بفعل العمليات العسكرية المستمرة دمرت الأربعة.
وأضاف أبو شريعة أن معظم الخيول في غزة لا تملك أوراقاً ثبوتية من المنظمات المعنية، وهذا يعني أنها غير موجودة بالنسبة إلى العالم، وهناك صعوبة في تسجيلها إذ لا يوجد ممثل لمنظمة "إيكاهو" في فلسطين، وبالعادة نعتمد على الجانب الإسرائيلي في تسجيل الخيول.