هل يكرر التاريخ نفسه في الداخل الأميركي؟ أم أن أحداثه تتشابه لتظهر كيف أن الولايات المتحدة لا تزال أرض الفرص المتاحة للجميع؟
حين ظهر باراك أوباما على ساحة الحياة الحزبية، اعتبر الجميع أن الأمر فتحاً مثيراً، فيما جاء وصوله إلى البيت الأبيض ليمثل دهشة للقاصي والداني، فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يصل فيها أميركي من أصول أفريقية إلى هذا المنصب.
اليوم يتساءل الأميركيون، أترى هم على موعد مع تجربة شبيهة بصورة أو بأخرى، حيث تبدو شخصية المحامي الديمقراطي، حكيم جيفريز، أقرب ما تكون لمنقذ الديمقراطيين عما قريب.
في الولايات المتحدة، ينظرون إليه كرجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر لأوباما، كلاهما أفريقي أميركي، وكلاهما حاد الذكاء، ولكل منهما ابتسامة جذابة على حد تعبير عمدة نيويورك الحالي.
قبل نحو ثلاثة أعوام، لفت جيفريز الانتباه إليه حين رشح نفسه لشغل موضع عضو مجلس النواب المتقاعد آنذاك، إيد تاونز، الأمر الذي جعل صحيفة "واشنطن بوست" القريبة من البيت الأبيض تتساءل، "هل جيفريز هو أوباما القادم من بروكلين؟".
ولادة أميركية
في الرابع من أغسطس (آب) من عام 1970، ولد حكيم في أحد مستشفيات بروكلين بنيويورك، والدته لانيدا جيفريز عاملة اجتماعية، ووالده مالارند جيفريز مستشار في علاج الإدمان.
في عام 1988 تخرج حكيم في مدرسة ميدوود الثانوية، ثم درس العلوم السياسية في جامعة بينغهامتون، وتخرج فيها عام 1992 بدرجة بكالوريوس في الآداب مع مرتبة الشرف.
كان من الواضح أن ذكاء حكيم قد لفت إليه الأنظار، ولهذا كان من اليسير أن يجد طريقه إلى واحدة من أرقى جامعات واشنطن العاصمة، جامعة جورج تاون، وفيها حصل على درجة الماجستير في كلية ماكورت للسياسة العامة، ثم يعود من بعد ذلك إلى نيويورك ليلتحق بكلية الحقوق، ليتخرج عام 1997 حاملاً درجة الدكتوراه في القانون.
عادة ما يبدأ رجال السياسة الثقات في أميركا من عند سلم المحاماة... كان هذا هو طريق أبراهام لنكولن وبعده سياسيون كثر، والذين طالعوا سيرة ذاتية معمقة لحكيم يعرفون أنه منذ عام 2007، وبينما كان في ولايته الأولى في مجلس ولاية نيويورك أيد بقوة باراك أوباما، نجم الديمقراطيين الصاعد في طريقه إلى البيت الأبيض.
في إحدى المقابلات قال حكيم، "عندما ترشحت لمنصب لأول مرة، اقترح بعض الأشخاص أنه لا يمكن أبداً انتخاب شخص باسم (حكيم جيفريز)، لكن عندما رأيت شخصاً باسم (باراك أوباما) يتم انتخابه في مجلس الشيوخ، فإن ذلك ألهمني بالتأكيد".
وبالقدر نفسه، لم يكن حكيم بعيداً من نجمة نيويورك الديمقراطية، هيلاري كلينتون، وكأنه كان يجهز لنفسه أرضية واسعة من الناخبين في ما بعد، فقد أيدها بقوة في الانتخابات الرئاسية 2016، لمنصب الرئيس في معركتها ضد دونالد ترمب.
اعتبر حكيم لاحقاً أن خسارة هيلاري، الكلية الانتخابية مردها لافتقارها إلى رسالة اقتصادية واضحة وحاسمة، وفشلها في التعامل مع مخاوف الناخبين من الطبقة العاملة البيضاء، هذا على رغم استخدامها شعاراً طناناً، "معاً أقوى".
خبرة سياسية وبرلمانية
قبل انتخابه لعضوية الكونغرس ممثلاً عن الدائرة الثامنة بولاية نيويورك في مجلس النواب عام 2013، كان حكيم قد خدم لمدة ست سنوات في المجلس التشريعي لولاية نيويورك، اكتسب فيها خبرة سياسية عملية تضاف لرصيده الأكاديمي، حيث عمل على إصدار قوانين لحماية الحريات المدنية لسكان نيويورك الملتزمين القانون خلال استجوابات الشرطة، وتشجيع تحويل الوحدات السكنية الفاخرة الشاغرة إلى منازل ميسورة التكلفة للأسر العاملة، وتحسين نوعية العدالة في نظام المحاكم المدنية.
لمع نجم حكيم خلال السنوات الخمس من 2013 إلى 2018 التي قضاها في مجلس النواب، ولعل هذا ما دفع الديمقراطيين إلى اختياره رئيساً لكتلة الحزب الديمقراطي، وبهذه الصفة كان حكيم يرتقي سلم المناصب العليا في الحزب، ليضحى الرجل الخامس في قادته، وقد شغل من قبل منصب رئيس لجنة الانضباط، كما شارك في رئاسة لجنة السياسات والاتصالات الديمقراطية.
تبدو مسيرة حكيم في الكونغرس، دؤوبة مليئة بالحركة والتفاعل، فقد واظب على الدفاع عن العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ومساعدة الشعب على التعافي من آثار "كوفيد-19" بجانب اهتمامه البالغ بإصلاح نظام العدالة الجنائية، وتحسين ظروف المعيشة للأميركيين العاديين، ولم يهمل فكرة الرعاية الصحية، لا سيما بعد الهجمات التي تعرض لها الديمقراطيون من قبل اليمين الجمهوري بنوع خاص، وفي مقدم المهاجمين نجد نائب الرئيس السابق مايك بنس.
كابوس الجمهوريين الجديد؟
هل حكيم جيفريز كابوس للجمهوريين داخل مجلس النواب وخارجه؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك، لا سيما أنه لعب في عام 2020 دوراً كبيراً في مساندة نانسي بيلوسي، رئيسة الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب في إعداد مشروع قانون عزل الرئيس ترمب في أواخر أيامه، وقبل أن يرفض مجلس الشيوخ القرار، وكان حكيم، أحد سبعة مدراء ديمقراطيين في أول محاكمة لعزل ترمب.
لاحقاً وخلال العامين المنصرمين ووصول الديمقراطيين إلى البيت الأبيض من خلال رئاسة جو بايدن، لعب النائب حكيم جيفريز دوراً واضحاً ومهماً في جهود الديمقراطيين تحت قبة مجلس النواب، ما دفع الأميركيين من العوام قبل النخبة للاهتمام بشؤون السياسة العامة، وذلك من خلال سعيه الحثيث لخلق وظائف ذات رواتب أفضل، والقتال في سبيل مجتمع أكثر أمناً وأماناً، بخاصة في ظل تزايد حوادث العنف المجتمعي، التي ترجع إلى سهولة حمل السلاح في طول البلاد وعرضها، تلك الإشكالية التي لا تبدو لها حلول في الأفق، طالما ظل التعديل الثاني من الدستور يصون حقوق الأفراد في حمل السلاح وتكوين الميليشيات.
والثابت أنه بعد معركة انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، التي عاشتها الولايات المتحدة أوائل الشهر الجاري، والنتائج المثيرة التي جرت بها المقادير متمثلة في إخفاق الجمهوريين في إحداث موجة حمراء عملاقة تخيم على سماوات البلاد، وفوز الديمقراطيين بأغلبية مجلس الشيوخ، فقد ظهر أن معركتهم الحقيقية ستكون هناك في داخل مجلس النواب، حيث يمكن للجمهوريين أن يضعوا عصياناً كثيرة في دواليب مشروعات قوانين وتوجهات الرئيس بايدن.
تغيب عن سماوات رئاسة مجلس النواب في دورته الجديدة، السيدة الحديدية، نانسي بيلوسي، التي فقد حزبها الأغلبية، كما أن مشاكساتها العميقة مع الجمهوريين ربما باتت لا تصب في صالح حزبها، والجميع يتذكر أزماتها وصدامها مع الرئيس السابق ترمب، ورغبتها في أن تضربه في وجهه حتى وإن قادها الأمر إلى السجن على حد تعبيرها.
أعلنت بيلوسي، تخليها عن الدور القيادي النشط الذي شغلته 20 عاماً، على رغم فوزها بمقعدها التاريخي عن ولاية كاليفورنيا، وإن لم تحدد المرشح الذي ستدعمه ليحل محلها في تصويت 30 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، بحسب شبكة "سي أن أن".
التفاف ديمقراطي
هل ستكون حظوظ حكيم هي الأفضل في هذا السياق؟
غالب الظن أن ذلك كذلك، بخاصة بعد التأييد الواضح من زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب، ستيني هوير، ومشرع الأقلية بمجلس النواب جيم كليبيرن، اللذين أظهرا نيتهما التنحي عن منصبيهما.
كليبيرن، في بيان له قال، "تركت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي بصمة لا تمحى بالكونغرس والبلاد، وأتطلع لاستمرار خدمتها وبذل ما في وسعها لمساعدة جيلنا الجديد من القادة الديمقراطيين، الذين آمل أن يكونوا حكيم جيفريز، وكاثرين كلارك، وبيتر أجيلار"، في إشارة لا تخطئها العين إلى الديمقراطيين عن نيويورك، وماساشوستس، وكاليفورنيا.
على أن المثير هو أن زعيم الأغلبية في مجلس النواب، ستيني هوير، قد توقف عند حكيم جيفريز بالقول، "إن جيفريز سيصنع التاريخ لمؤسسة مجلس النواب وبلدنا".
هل هناك من النواب الديمقراطيين من يدعم مسيرة حكيم اليوم في مجلس النواب، وربما تالياً في مسيرته نحو البيت الأبيض؟
مؤكد أن الأمر على هذا النحو، فقبل إعلان بيلوسي تنحيها قالت النائبة عن أوهايو جويس بيتي، إنها توقعت أن يدعم التجمع حكيم موضحة، "إذا تنحت بيلوسي، فإنني متأكدة من أن حكيم هو الشخص الذي سأصوت لصالحه".
أما النائب المتقاعد عن ولاية كارولينا الشمالية، جي كي بترفيلد، فأشار في تصريحات لشبكة "سي أن أن"، بأن "حكيم جاهز لتلك اللحظة، أي لحظة تنحي بيلوسي عن موقعها".
فيما أعرب النائب عن ويسكونسن مارك بوكان أيضاً عن دعمه لحكيم، مشيراً إلى أنه "من المعجبين الكبار بحكيم"، ويضيف، "أعتقد أنه ذكي للغاية، إنه شخص جيد لتحقيق التوافق بين التجمع، أعتقد أنه سيكون قائداً رائعاً".
في أعقاب تنحي بيلوسي، ظهرت لغة حكيم الدبلوماسية والحزبية، التي تكفل له بأن يضحى أحد نجوم الديمقراطيين في سماوات البلاد خلال العقد الحالي، والمرشحين بقوة لبقاء الحزب مهيمناً، ما لم يواجهه رمز جمهوري ند له، ويضارعه في الرصانة والحكمة، كما الحال مع رون دي سانتيس حاكم ولاية فلوريدا.
أصدر حكيم بيانا بعد أن شغر موقع بيلوسي، موجهاً إلى حزبه الديمقراطي جاء فيه، "أكتب لأطلب بتواضع دعمكم لموقف زعيم الديمقراطيين في مجلس النواب، حيث أستعد مرة أخرى لمواجهة اللحظة".
وأضاف، "لقد كانت مسؤولية غير عادية أن أترأس الكتلة الديمقراطية في مجلس النواب، خلال فترة اضطراب كبير وإنجاز تشريعي".
وأردف حكيم، الذي وصف الشعب الأميركي بأنه "فسيفساء رائعة" أن على الديمقراطيين الظهور والانخراط في "أماكن غير متوقعة" لتحقيق النجاح، والتأكد من أن فريقهم بأكمله في الملعب.
وتابع، "يجب أن يمكن الأعضاء واللجان المتدرجة في مجملها بشكل كامل للعمل بإدارته"، مضيفاً "يجب توزيع فرص المشاركة العامة وصنع السياسات الهادفة بشكل قوي بغض النظر عن طول مدة الخدمة، وينبغي توزيع المهمات القيادية رفيعة المستوى في جميع أنحاء التجمع".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اختبار وحدة الحزب
أحد الأسئلة المهمة في طريق حكيم يتعلق بالبنية الهيكلية للحزب الديمقراطي عينه، وهل كلمته موحدة، أم أن هناك مخاوف من توجهات متباينة داخلية يمكنها أن تشتت تجمعه ليضحى الانقسام حادثاً كما الحال داخل الحزب الجمهوري؟
يقول بعض المطلعين على سير الأحداث في الكابيتول هيل، إن حكيم كان يجري محادثات مع زملائه الديمقراطيين حول الترشح لمنصب زعامة الديمقراطيين في مجلس النواب، لقد كان يتوق بالفعل لهذا الدور طالما كان قادراً على الخدمة.
وعلى رغم توقعات قوية بدعم نانسي بيلوسي له، سيما أنها من وضعته من قبل في منصب قيادي، إلا أن هناك مخاوف جدية من أن يمضي الاتجاه التقدمي الاشتراكي داخل الحزب الديمقراطي المتمثل في النائبة ألكساندريا أوكاسيو كورتيز وفريقها في اتجاه معاكس لما يراه ويرغبه حكيم جيفريز، سيما وأنهم يصفونه بأنه ينتمي إلى تيار الوسط، ما يمكن أن يفكك وحدة التوجه بالتصويت له وإن كان الأمر غير واضح حتى الساعة.
غير أن حكيم، رد على هؤلاء في تصريح لصحيفة "أتلانتيك" أوائل الشهر الجاري قائلاً، "أنا ديمقراطي تقدمي أسود مهتم بمعالجة الظلم العنصري والاجتماعي والاقتصادي بإلحاح شديد، هذه مسيرتي المهنية، وهذه رحلتي وستستمر على هذا النحو، لكنني لن أنحني أبداً أمام الاشتراكية الديمقراطية اليسارية المتشددة".
يصف بعضهم مثل المستشار الديمقراطي، هانك شينكوف، حكيم بأنه "لاعب وسط في الحزب الديمقراطي، ليس هذا فحسب، بل لاعب داخلي ذكي حقاً، ولديه فرصة جيدة للحصول على الوظيفة العليا".
بينما يرى، كين فريدمان، الرئيس التنفيذي لشركة "سورس كوميونيكيشنز" للاستشارات الاستراتيجية في مانهاتن بنيويورك، أن "حكيم خيار قوي ليحل محل بيلوسي كزعيم لمجلس النواب".
هل حظوظ الديمقراطيين على رغم أقليتهم هذه الدورة ليست قليلة، وهل لديهم المقدرة على مشاغبة الجمهوريين بنوع خاص على غالبيتهم في مجلس النواب؟
الشاهد أن الديمقراطيين خلال العامين الماضيين قد أقروا خططاً لإنقاذ البلاد من كثير من الفخاخ الصحية والاقتصادية، كما أقروا قوانين الاستثمار في البنية التحتية والوظائف، وكذا قانون المجتمعات الأكثر أماناً عطفاً على قوانين العلوم وخفض التضخم.
ومما لا شك فيه أن حكيم جيفريز، كان من اللاعبين الديمقراطيين الذين تمتعوا بقدرة كبيرة على التواصل مع الإعلام الأميركي بمهارة فائقة، سيما أنه قادر على إيصال رسالة الحزب للجمهور بطريقة تلقائية طبيعية.
يبدو حكيم جيفريز المتزوج من كينيساندرا جيفريز، والأب لابنين هما جوشوا وجيريميا، رجلاً على طريق إعادة تمثيل "التجسيد الكلاسيكي للحلم الأميركي"، حيث بلاد الفرص الواسعة والأمل المتجدد والمدينة فوق جبل، التي كاد بريقها ينطفئ في أعين العالم.