على بعد أيام معدودات من انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، حيث يتوقع الأميركيون معركة ساخنة، على صعيد التنافس التقليدي من جهة، وعنيفة تكاد تصل إلى دموية من جهة ثانية، الأمر الذي يتسق مع مآلات المشهد الأميركي في السنوات القليلة الماضية، تكثر علامات الاستفهام حول رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، التي اختلفت من حولها الآراء، لا سيما في ضوء مواقفها المثيرة للجدل، مما جعل كثيراً من العقول السياسية الأميركية ذات الرصانة تتساءل: ترى هل تضحى بيلوسي حجر زاوية في فوز الديمقراطيين بغالبية جديدة في مجلس النواب، أم إن مواقفها سوف تدعم ولو بطريق غير مباشر، المرشحين المناوئين من الجمهوريين؟
والشاهد أن الأميركيين قد ينسون أو يتناسون كثيراً من المواقف الشقاقية والفراقية، التي تحدث ضمن فعاليات الحياة السياسية والمؤسساتية الأميركية، غير أنهم وبحال من الأحوال لن يستطيعوا يوماً القفز فوق صور ولقطات آخر خطاب عن "حالة الاتحاد" للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، والطريقة المهينة التي مزقت بها بيلوسي نص كلمته، وأكفها المتلاحمة وهي تصفق له بشكل تحقيري، رداً على تجاهله لها، وعدم مصافحته إياها، كما هو معتاد من كل رئيس، تجاه رئيس مجلس النواب، قبل الخطاب السنوي.
وبالقدر نفسه، لن ينسى الأميركيون تلك اللحظات التي حبس فيها العالم أنفاسه من جرأة بيلوسي، التي صممت على الهبوط بطائرة رسمية في جزيرة تايوان المتنازع عليها، ووقتها خيل لكثيرين أن الصينيين قد يشعلون حرباً عالمية في لحظة من سخونة الرؤوس، إذا قصفوا طائرة بيلوسي، غير أن حكمة كونفوشيوس فوتت الأزمة، وإن بقيت حزازات الصدور كما هي.
من هي بيلوسي، صانعة المشكلات كما يراها البعض، والمناضلة السياسية العنيدة كما يقيمها البعض الآخر؟ وإلى أين يمكن أن تقودها مواقفها السياسية، والتي لا تخلو من خشونة واضحة، إن لم نقل ميلاً إلى العنف، وتصريحاتها حاضرة لمن يود الاستزادة؟
في بالتيمور الإيطالية كانت البداية
تعود الجذور الأولى لنانسي بيلوسي إلى عائلة إيطالية الأصل، استقر بها المطاف في منطقة عرفت باسم بالتيمور الإيطالية الصغيرة، في ولاية ميرلاند.
كان من الطبيعي أن تتأثر بالأجواء السياسية المحيطة بها، لا سيما أن والدها توماس دالساندرو جونيور كان زعيماً ديمقراطياً مهماً في المدينة.
في 26 مارس (آذار) من عام 1940 كان مولدها، أي بعد انطلاق الحرب العالمية الثانية بعام واحد، وقد جاءت بعد خمسة إخوة أكبر منها، خاضوا غمار الحياة السياسية، ولهذا لم تكن هي الاستثناء.
حين اتهمها البعض قبل نهاية ولاية ترمب بأنها تحمل في صدرها كراهية غير طبيعية لرئيس الولايات المتحدة، توقفت للحظات وأجابت الصحافي صاحب السؤال بأنها نشأت وترعرعت في أجواء إيمانية كاثوليكية، تمنعها من أن تكن حقداً دفيناً لأي إنسان.
وفي سيرتها الذاتية بالفعل، نجد أنها عاشت في الحي الإيطالي الصغير، الذي تسكنه غالبية من الطبقة الكاثوليكية العاملة، ويبدو أن والدتها كانت تحمل في صدرها رغبة في أن تضحى ابنتها راهبة بحسب المذهب الكاثوليكي، لكن الابنة كانت ترى أمراً آخر أكثر إثارة، وهو رغبتها في أن تكون كاهناً كاثوليكياً، من منطلق أن الكهنة لديهم القوة الحقيقية لا الراهبات، والمعروف أن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية كانت ولا تزال تحرم المرأة من ممارسة سر الكهنوت وتقصره على الرجال.
هل عمدت بيلوسي إلى دخول عالم السياسة تعويضاً عن القصور الذي شاب رغبتها في أن تصبح كاهناً كاثوليكياً؟
ابنة العمدة التي ضلت الطريق
حين بلغت نانسي السابعة من عمرها، وكان ذلك عام 1937، انتخب والدها عمدة لمدينة بالتيمور، رابع أكبر مدن الساحل الشرقي للولايات المتحدة، بعد نيويورك وفيلادلفيا وجاكسونفيل، وتحتل المدينة المرتبة 26 من حيث عدد السكان في البلاد.
سرعان ما صارت نانسي تعرف باسم "ابنة العمدة"، ولمدة ثلاث فترات متتالية حافظ والدها على منصبه، وهي بجواره في حملاته الانتخابية، مما زرع فيها بذور العمل السياسي، ووصل بها الأمر حد المشاركة في أول مؤتمر سياسي للحزب الديمقراطي وهي في سن الثانية عشرة من عمرها.
في مدرسة نوتردام ذات الهوية الكاثوليكية قضت نانسي سنوات تعليمها الأولى، قبل أن تلتحق بكلية ترينتي في واشنطن، ذات المسحة الدينية المحافظة، الأمر الذي يعكس قناعاتها الإيمانية المحافظة، والتي تظهر في كثير من مواقفها السياسية.
في عام 1962 حصلت بيلوسي على شهادة في العلوم السياسية، وبدأت عملها كمتدربة في الكونغرس، غير أن ارتباطها من بول بيلوسي الذي حملت اسمه، في سبتمبر (أيلول) من عام 1963، بدا وكأنه أوقف مسيرتها في عالم السياسة، ذلك أنه عند عام 1970 كانت قد أضحت أماً لخمسة أطفال، مما جعلها تؤجل أحلامها وطموحاتها السياسية لحين انتقالها إلى الساحل الغربي للولايات المتحدة، لتظهر مرة جديدة كناشطة في مجال العمل السياسي عام 1976 بجانب حاكم ولاية كاليفورنيا وقتها، جيري بروان، الذي يعزى نجاحه إلى جهود بيلوسي.
كان عام 1987 بداية دخول بيلوسي إلى مجلس النواب، وهو المقعد الذي حافظت عليه حتى الساعة، لكن أحداً لا يعلم، ما إذا كانت قادرة على الحفاظ عليه مرة جديدة الأيام القادمة، بسبب قصة الاعتداء على زوجها، وهل هي حقيقية أم مفبركة ووراءها معالم أو ملامح أخرى، غير ظاهرة للعيان... ماذا عن ذلك؟
حقيقة الاعتداء على زوج بيلوسي
عشية عطلة نهاية الأسبوع الأخيرة من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وقبل أن تدخل أميركا رسمياً في أجواء عيد الأشباح أو ما يعرف باسم "الهالوين"، بدا وكأن بيلوسي وزوجها قد عاشا قصة رعب مثيرة، لا تقل إثارة عن مناظر صبية أميركا القارعين الأبواب قائلين Trick or treat "خدعة أم حلوى"، على حين غرة وبحسب الرواية الرسمية، اقتحم أحدهم منزل بيلوسي حاملاً مطرقة، وكان يصيح بأعلى صوت "أين نانسي؟"، قبل أن يضرب زوجها، الذي تمكن من الاتصال برقم الطوارئ الأميركي الشهير 911 مما عجل بوصول قوات الشرطة ومعالجة الموقف في غضون دقيقتين، ولاحقاً تم نقله إلى المستشفى، ليخضع لعملية جراحية بسبب كسر في الجمجمة وإصابات خطيرة في ذراعه اليمنى ويده.
هل جاء هذا الاعتداء وقبل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس بأيام قليلة، كمحاولة لتوجيه دفة عملية الاقتراع لصالح الديمقراطيين، أولئك الذين تظهر كثير من استطلاعات الرأي أنهم في مأزق في مواجهة الجمهوريين؟
غداة شرائه شركة "تويتر" غرد المالك الجديد الملياردير إيلون ماسك، مشككاً في رواية بيلوسي، ومستنكراً الرواية الرسمية التي أوردتها صحيفة "نيويورك تايمز".
اعتمد ماسك على ما أوردته صحيفة محلية من أن القصة برمتها مختلقة، وأن زوج بيلوسي قد تعرض للاعتداء خلال مشاجرة في حانة، وهو الذي حكم من قبل بفترة سجن بسيطة بسبب قيادته مخموراً.
أصوات أخرى في الداخل الأميركي، قالت إن المعتدي كان على علاقة غير سوية، لها صلة بمجتمع الميم، مع زوج السيدة بيلوسي، وأن الأمر هو خلاف ثنائي وليس أكثر.
غير أنه وفي كل الأحوال فتح الاعتداء باباً مخيفاً للعنف الذي يمكن أن يحدث خلال انتخابات الكونغرس، لا سيما أن الشرطة المحلية قالت إن الاعتداء لم يكن عشوائياً، بل إنه تم تدبيره ضمن دوائر العنف التي تشهدها البلاد في الوقت الراهن.
هل بيلوسي مسؤولة بدرجة أو بأخرى عن زيادة وتيرة العنف، وتأجيج مشاعر الكراهية بين الأميركيين في الأعوام الأخيرة على نحو خاص؟
بيلوسي وشيطنة الحزب الجمهوري
في منتصف يناير (كانون الثاني) من عام 2020، وقبل أن تنقضي فترة ولاية الرئيس ترمب بنحو أسبوع، عملت نانسي بيلوسي رئيسة الغالبية في مجلس النواب على التوصل إلى قرار لعزل الرئيس.
في ذلك النهار وضعت بيلوسي أمامها عدداً كبيراً من الأقلام التي استخدمتها في التوقيع على بنود المساءلة التي أقرها مجلس النواب لعزل ترمب قبل إحالتها إلى مجلس الشيوخ.
على الأقلام نقشت بيلوسي توقيعها، ليكون القلم ذكرى لموقعة سياسية، أذلت فيها الجمهوريين، ثم وزعتها على مديري العزل وأعضاء اللجنة، والعهدة على الراوي، صحيفة "الغارديان" البريطانية.
كان هذا التصرف ضرباً من ضروب إظهار كراهية عمياء من قبل بيلوسي، ما يتجاوز المنافسة الحزبية والسياسية، مما أثار غضب وحنق السياسيين الجمهوريين في مجلسي النواب والشيوخ على حد سواء، عطفاً على تأجيج مشاعر الكراهية في نفوس الأميركيين المؤيدين للحزب الجمهوري.
كتب "مارك ميدوز" النائب الجمهوري عن نورث كارولينا يقول "يزعمون أنها مسألة حزبية وخطيرة، ثم يمررون أقلام التوقيع على عريضة العزل بأسلوب احتفالي رخيص، لن تتمكنوا من الوصول إلى مبتغاكم".
أخفقت بيلوسي في كل الأحوال في عزل ترمب، بسبب رفض مجلس الشيوخ القرار، غير أن سلوكها تجاه الرئيس خلق حالة من العدائية المباشرة للرجل.
أظهرت بيلوسي في خطاب حالة الاتحاد الأخير لترمب مشاعر عدائية، انعكست على الشارع الأميركي المتشظي، بين جمهوريين غاضبين وديمقراطيين رافضين.
وصلت ذروة المواجهة نهار 6 يناير 2021، حين حث ترمب أتباعه على الذهاب إلى الكونغرس، ومحاولة تغيير نتيجة الانتخابات الرئاسية التي وصفها بأنها مزورة.
لاحقاً أظهرت مقاطع فيديو التقطتها كاميرات المخرجة ألكسندرا بيلوسي، ابنة نانسي، ما قالته في ذلك النهار رئيسة مجلس النواب "إذا جاء سأضربه". وتابعت "لقد كنت أنتظر هذه اللحظة، سأضربه وأذهب إلى السجن وسأكون سعيدة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بيلوسي وفاتورة العنف القائم والقادم
بعد حادثة الاعتداء على منزلها، قال الكاتب الأميركي ماكس بوت، في مقال له عبر صحيفة "واشنطن بوست"، "إن الأمر يبدو وكأنه رد فعل طبيعي" (يقصد الاعتداء على منزل بيلوسي في سان فرانسيسكو)، ويضيف "لقد جاء ذلك بعد سنوات عديدة من شيطنتها من قبل الجمهوريين، فهي أكثر شخصية سياسية يكرهها اليمين المتطرف، ولا ينافسها في ذلك سوى السياسية الديمقراطية البارزة هيلاري كلينتون".
وهنا لا بد من السؤال: هل قادت بيلوسي البلاد إلى موجة عنف، أم إنها بريئة من هذا الاتهام، وأن الأمر موصول بأجواء الكراهية الفظيعة التي وقعت في الأعوام الأخيرة في مدن عدة بالولايات المتحدة، من بينها بيتسبرغ، وإل باسو، وبافالو، والتي كان مرتكبوها مدفوعين بالخطاب العنصري، وبخاصة نظرية "الاستبدال العظيم"، التي يتم الترويج لها الآن بشكل علني على شبكات تلفزة أميركية، مثل "فوكس نيوز"؟
تبدو بيلوسي اليوم في مواجهة استحقاقات معركة الكونغرس المقبل، وهي معركة مصيرية من غير تهوين أو تهويل، لا سيما أنها في غالب الأمر تجربة مسبقة، أو بروفة لانتخابات الرئاسة عام 2024.
في هذه الأجواء ومع تقدمها في العمر، لا تود بيلوسي أن تترك فضاء العمل السياسي منكسرة، وهي التي وصفها الجمهوري جون بوينر، بأنها أقوى رئيسة لمجلس النواب في التاريخ الأميركي.
تعتقد بيلوسي أن رئاسة مجلس النواب ليست مجرد وظيفة في حد ذاتها، فقد ظلت شغوفة بها طوال حياتها العملية، لكنها بالتأكيد أحبت هذا الدور، والأهم من ذلك أنها أتقنته. لقد فهمت أن لا أحد يتخلى عن السلطة بمجرد أن يطلب منه ذلك، بدلاً من ذلك يجب أن يؤخذ منه عن جدارة.
تقول بيلوسي "أنا فخورة بقيادتي الديمقراطيين في مجلس النواب"، غير أن الأيام القليلة القادمة سوف تؤكد أو تنفي قدرتها على إكمال معركتها السياسية، هذا إن وفر العنف المسلح العملية الانتخابية في 8 نوفمبر (تشرين الثاني).