بعد نحو خمسة أسابيع يبدأ مجلس النواب الأميركي الجديد أولى جلساته بتشكيلته الجديدة وبأغلبية جمهورية ضئيلة، لكنها كافية لإحداث نوع من التغيير، فما التأثير الذي يمكن أن يحدثه مجلس نواب مختلف في قضايا السياسة الخارجية الأميركية، بالتالي في السياسات العالمية والاقتصاد الدولي، وهل من تغيير متوقع في سياسة الولايات المتحدة إزاء أوكرانيا والصين والأمن مع أوروبا والطاقة وإيران؟
في الثالث من يناير (كانون الثاني) 2023 ستنعقد أولى جلسات الكونغرس الأميركي بمجلسين منقسمين، مجلس نواب يسيطر عليه الجمهوريون بنسبة ضئيلة، ومجلس شيوخ يسيطر عليه الديمقراطيون بـ50 أو 51 مقعداً (من إجمالي 100 مقعد) بحسب ما ستظهر انتخابات الإعادة في ولاية جورجيا، وفي ظل حكم منقسم على هذا النحو، تبدو فترة العامين التاليين من ولاية الرئيس جو بايدن مختلفة بشكل ملحوظ عن العامين الأولين، بسبب سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب، فما أبرز التغيرات والتأثيرات المحتملة؟
مساعدات أوكرانيا ستستمر
منذ الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير (شباط) الماضي، وافق الكونغرس الأميركي بدعم من الحزبين على 68 مليار دولار كمساعدة لكييف، وطلبت إدارة بايدن 37 ملياراً إضافية الأسبوع الماضي، ومع ذلك طالب بعض النواب الجمهوريين بوقف التمويل الأميركي لأوكرانيا، وتحدث كيفين ماكارثي رئيس مجلس النواب المنتظر عن أن الجمهوريين لن يمنحوا إدارة بايدن شيكاً على بياض في مسألة دعم أوكرانيا، لكنه عاد وتراجع في محادثات خاصة مع قادة الأمن القومي عن هذه التعليقات مؤكداً أنه لا ينوي التخلي عن كييف.
ويتوقع جون هيربست سفير الولايات المتحدة السابق لدى أوكرانيا أن تستمر المساعدات الأميركية في التدفق على كييف، مشيراً إلى أن نتائج الانتخابات النصفية لا تنذر بتغيير في سياسة الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا، فبعد أن توقع بعض المحللين أن فوزاً جمهورياً قوياً يجلب مرشحين شعبويين إلى طليعة المشهد الجمهوري من شأنه أن يقوي يد الراغبين في خفض المساعدة الأميركية لأوكرانيا بشكل حاد، لم تتحقق الموجة الجمهورية الكاسحة وحصل الجمهوريون على أغلبية ضئيلة في مجلس النواب الجديد، ما كشف عن ضعف أداء الجناح الشعبوي أو جناح دونالد ترمب داخل الحزب، وهذا يشير إلى أن نفوذهم في الكونغرس وربما ضد المساعدة لأوكرانيا لن يزداد، بل سيكون في الحد الأدنى، ومن المرجح أن يضمن الكونغرس المنتهية ولايته التمويل الكافي لأوكرانيا حتى عام 2023 خلال جلسة "البطة العرجاء"، كما أنه من المتوقع أيضاً أن يحافظ الكونغرس المقبل على هذا الدعم.
أوروبا ليست في مأزق
على مدى العامين الماضيين، كان إصلاح العلاقة مع أوروبا الدعامة الأساسية لأجندة السياسة الخارجية للرئيس بايدن، فقد ترك ألمانيا تحسن من إنفاقها الدفاعي. وأشاد بجهود الدول الأوروبية لفطم نفسها عن الطاقة الروسية، والتزم نشر قوات أميركية بشكل دائم في بولندا.
وفي حين أن الأمن القومي لم يكن على جدول أعمال انتخابات التجديد النصفي، فإن التهديدات الأخيرة بأن الأغلبية الجمهورية في الكونغرس ستقلص المساعدات لأوكرانيا، أثارت المخاوف في بروكسل وخارجها من أن الفوز الجمهوري الحاسم، سيكون نذيراً لنوع من الاضطرابات الأمنية عبر المحيط الأطلسي التي شوهدت بقوة خلال سنوات حكم ترمب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن بالنظر إلى الأغلبية الجمهورية الهزيلة في مجلس النواب واحتفاظ الديمقراطيين بسيطرتهم على مجلس الشيوخ، تم تجنب سيناريوهات الحال الأسوأ بالنسبة لمؤيدي "الناتو" وأوكرانيا بحسب ما يقول كريستوفر سكالوبا، المدير السابق لسياسة أوروبا وحلف "الناتو" في وزارة الدفاع الأميركية، الذي يشير إلى حقيقة أن الاستطلاعات الأخيرة تظهر أن الناخبين الأميركيين ما زالوا يدعمون بقوة مساعدة أوكرانيا، وهو مؤشر مشجع آخر لـ"الناتو" لاستمرار التحالف قوياً عبر الأطلسي، على الرغم من إعلان ترمب ترشحه للرئاسة مرة أخرى، بما يمكن أن يحمله من رؤية مناهضة لحلف "الناتو" خلال حملته الانتخابية.
وتعتقد ريتشيل ريزو، الخبيرة في مركز أوروبا التابع للمجلس الأطلسي، أن أوروبا ليست في مأزق لأن الكونغرس ستكون لديه فرصة أكبر للخلافات الداخلية مع التركيز على القضايا المحلية مثل الاقتصاد، وحتى الاقتتال الداخلي داخل الحزب الجمهوري، لذلك لن تكون أوروبا في مفترق طرق كما كانت خلال رئاسة ترمب، ومع ذلك سيظل من المهم مراقبة قضايا التجارة، بخاصة تأثيرات قانون خفض التضخم الأميركي واتهامات واشنطن لأوروبا بفرض سياسات تجارية حمائية، فضلاً عن أن استمرار الحرب في أوكرانيا، قد يشكل ضغوطاً على أوروبا في الدفاع والأمن مع إمكانية ظهور مزيد من الانتقادات والاتهامات في "الكابيتول هيل" بفشل أوروبا في تحمل مسؤولية أمنية ودفاعية توازي ثقلها الاقتصادي، وبما يؤهلها للقيام بدور أكبر كقوة عالمية.
تحدي بايدن في شأن الصين
من المتوقع أن يستخدم الجمهوريون في مجلس النواب أغلبيتهم الجديدة لاستهداف عدد من القضايا الحرجة المرتبطة بالعلاقة بين الولايات المتحدة والصين، حيث سيكون تركيزهم الأولي منصباً على المنافسة التقنية مع بكين، ومرونة سلاسل التوريد، وتدقيق ومراجعة فاعلية ضوابط الصادرات الأميركية للصين.
ويرى كيت كونكلين الخبير في مركز "جيوتك" والمسؤول السابق في مجلس الأمن القومي الأميركي، أن عديداً من الجمهوريين يعتبرون أن قيود التصدير الأخيرة المفروضة على أكبر شركات تصنيع أشباه الموصلات في الصين هي استمرار لنهج قديم، ما يتطلب تحديد مناهج جديدة، لهذا يتوقع كونكلين أن تبدأ لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، إجراء مراجعة لمدة 90 يوماً لمعالجة مكتب الصناعة والأمن لضوابط التصدير، وخلال هذه الفترة يمكن لمجلس النواب اقتراح تغييرات جديدة مهمة على تشريعات مراقبة الصادرات الحالية.
وبشكل عام، سينظر مجلس النواب الذي يقوده الجمهوريون إلى المنافسة التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين كأولوية رئيسة، وقد يعملون على إدخال تشريعات جديدة سيكون لها تأثير كبير على التجارة ومرونة سلاسل التوريد.
لا تغيير حول إيران
وفقاً لباربرا سلافين مديرة مبادرة "مستقبل إيران" فإن الكونغرس الجديد لن يغير مسار بايدن في شأن طهران، حيث كانت السياسة الخارجية وبخاصة تجاه أوكرانيا والشرق الأوسط متفق عليها من الحزبين بدرجة كبيرة في أول عامين من حكم بايدن، وبالنظر إلى أن الموجة الحمراء التي تشير إلى فوز جمهوري كبير لم تتحقق، فمن غير المتوقع أن يكون هناك تأثير كبير على السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه إيران.
فمن ناحية، لن يكون الكونغرس في وضع يسمح له بعرقلة اتفاق نووي معها وهو أمر مستبعد حالياً، كما لن يستطيع الكونغرس معاقبة إدارة بايدن التي تعمل بالفعل بشكل استباقي على دعم المتظاهرين الإيرانيين، وفي معارضة تزويد إيران لروسيا بطائرات وصواريخ في حربها مع أوكرانيا.
مع ذلك، من المتوقع أن يعمد الجمهوريون في مجلس النواب إلى تضخيم وجهات النظر الصقورية المتوقعة لبنيامين نتنياهو الذي عاد من جديد كرئيس للوزراء في إسرائيل، وتظل إيران بالنسبة له وسيلة مفيدة لصرف الانتباه عن التوترات الإسرائيلية- الفلسطينية وانتقاد الولايات المتحدة في شأن معاملة إسرائيل للفلسطينيين وعرب إسرائيل.
تداعيات أمنية كبيرة
من المتوقع أن يكون لسيطرة الجمهوريين على مجلس النواب تداعيات كبيرة بالنسبة لمؤسسة الأمن الداخلي، ذلك أن إبقاء الولايات المتحدة في مأمن من التهديدات غير العسكرية التي تشمل الأمن السيبراني والحدود والهجرة والإرهاب المحلي وتغير المناخ، لا يقل أهمية عن الحزب الذي يسيطر على غرفتي الكونغرس، الذي سيرأس 11 لجنة رئيسة في مجلس النواب، وتسع لجان في مجلس الشيوخ لها سلطة على كل أو جزء من وزارة الأمن الداخلي، الأمر الذي يظهر العقبة الكبيرة التي تواجه الكونغرس في محاولة معالجة المشكلات في هذه الوزارة.
ويعتقد توماس واريك الخبير في مركز "سكوكروفت" للاستراتيجية والأمن، أنه يتعين على الكونغرس الجديد لكي يكون فعالاً التنسيق الوزارة في شأن أي تشريع متعلق بوزارة الأمن الداخلي، مشيراً إلى أن الإشراف على وزارة الأمن الداخلي وإجراء التحقيقات مهام منفصلة تتطلب تركيزاً خاصاً.
اتفاق على السياسة التجارية
سوف يجادل مجلس النواب الذي يديره الجمهوريون بأن سياسة الولايات المتحدة السابقة تجاه البلدان النامية القائمة على المساعدات المالية والأفضليات التجارية، يجب أن تستبدل بسياسة تعزز الشراكات الاقتصادية، وبخاصة تلك التي يلعب فيها القطاع الخاص دوراً رئيساً، بما يؤدي إلى فوائد واضحة للأميركيين، ومن المرجح بحسب دان نيغريا الممثل الخاص السابق للشؤون التجارية في وزارة الخارجية الأميركية، أن يجد الجمهوريون والديمقراطيون أرضية مشتركة في هذا المجال حيث لم تكن إدارة ترمب ولا بايدن متحمسة في شأن الصفقات التجارية التفضيلية الجديدة.
ويعد أحد الأمثلة الواضحة على الشراكة ودعم الأصدقاء، هو نقل سلاسل إمداد الشركات الأميركية من الصين المتزايدة الخصومة مع واشنطن إلى البلدان الصديقة التي تقدم حوافز اقتصادية للشركات الأميركية، مثل توقيع بايدن، أخيراً، على الإطار الاقتصادي للازدهار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، الذي يضم 12 دولة تمثل 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
ويأتي هذا التحول بالنظر إلى المشكلات التي تواجه تسليم المساعدات المالية إلى البلدان النامية، التي تجري عادة من خلال المنظمات الحكومية وغير الحكومية الدولية وبعضها تم استدراجه من قبل الصين، بينما يسعى آخرون لتحقيق أهدافهم الخاصة بدلاً من مساعدة البلدان المتلقية للمساعدات.
وعلى مدى سنوات طويلة، افترضت سياسة الولايات المتحدة أن الصفقات التجارية تفتح الأسواق الخارجية أمام الصادرات الأميركية بالتالي تزيد من الازدهار داخل الولايات المتحدة، بينما يساعد ذلك في أن تصبح البلدان الأخرى أكثر ديمقراطية من خلال التجارة مع الولايات المتحدة، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى السلام في العالم، لكن العولمة الاقتصادية في العقود الأخيرة أدت إلى فقدان وظائف التصنيع ما أدى إلى إفقار عديد من الأميركيين، ولم تصبح الصين الشيوعية ولا روسيا الديكتاتورية أكثر ديمقراطية أو أكثر سلمية.
معركة سقف الديون
قد يكون لتغيير عدد قليل من المقاعد في مجلس النواب تداعيات اقتصادية عالمية كبيرة على أرض الواقع، لكن التحدي الأكثر إلحاحاً هو إيجاد طريقة لرفع سقف الديون الأميركية حيث من المحتمل وفقاً لوزيرة الخزانة الأميركية جانيت يالين، أن تصل الولايات المتحدة إلى الحد الأقصى للديون بحلول صيف عام 2023، وإذا لم يتم رفع سقف الديون قبل ذلك الحين، فقد تكون العواقب هي تخفيض التصنيف الائتماني، وتصاعد أسعار الفائدة، ومزيد من الصدمات في سوق الأسهم.
ولأن الجمهوريين والديمقراطيين يعرفون ذلك، ولا أحد يريد زيادة الألم أثناء التباطؤ الاقتصادي، قد يجري التفاوض بين الطرفين على أولويات أخرى مثل خفض الإنفاق، وبحسب جون ليبسكي مدير مركز "الجغرافيا الاقتصادية" والمستشار السابق في صندوق النقد الدولي، فإن الكونغرس الجديد سيركز على مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي)، بخاصة إذا ظل التضخم مرتفعاً أو دخلت الولايات المتحدة في ركود، حيث من المتوقع عقد جلسات استماع أكثر صرامة وأسئلة أكثر حدة موجهة إلى مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وقد تكون هذه إحدى القضايا النادرة لتوافق الحزبين في الكونغرس الجديد.
تسوية الخلاف حول الطاقة والمناخ
من المسلم به أن بيئة الطاقة والمناخ التي سيرثها أعضاء الكونغرس الجديد في عام 2023 قاتمة، وذلك نتيجة لمزيج من الآلام الاقتصادية التي أعقبت وباء "كوفيد-19" وحرب روسيا على أوكرانيا، ومع التقلبات قصيرة المدى في سوق الطاقة، التي تجعل العالم في حال توتر، تتصاعد التوقعات السيئة بالفعل حيال الجهود العالمية الساعية إلى الحد من ارتفاع درجة الحرارة 1.5 درجة مئوية عن المستويات الحالية، ومع ذلك قد يكون حجم هذه التحديات مدعاة للتفاؤل السياسي، بخاصة مع وجود سابقة للتسوية في مجال الطاقة والمناخ على الرغم من الانقسام السياسي بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في واشنطن.
يشير لادنون ديرينتز مدير مركز الطاقة العالمي والمدير السابق لشؤون أفريقيا والشرق الأوسط في وزارة الطاقة الأميركية إلى أنه على الرغم من أن الكونغرس الجديد يميل إلى اليمين، يبقى الأمل في أن القيادة الجديدة لمجلس النواب قد تساعد على تحفيز السماح بالإصلاح الذي من شأنه أن يعزز مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى تقليدية رئيسة تعمل بالطاقة النظيفة.