أظهرت تحليلات تجرى للمرة الثانية على هيكل طير يعتقد علماء الحفريات أن عمره 66.7 مليون سنة، وتم العثور عليه خلال تسعينيات القرن الماضي عند حدود بلجيكا وهولندا، أن الافتراضات السابقة المتعلقة بتطور الطيور الحديثة قد تكون غير دقيقة، فحتى وقتنا الراهن ظل الاعتقاد أن مناقير الطيور المتحركة التي يمكن التحكم بها وتحريكها من دون رؤوسها تطورت في وقت لاحق، وأن طيوراً مثل طير الإيمو الأسترالي وطير النعام التي تتميز بفكها العلوي الثابت، كانت السباقة في تطوير مناقيرها.
ومع ذلك فقد كشفت دراسة حديثة لهياكل الطيور التي عثر عليها خلال الحفريات عن أن مناقير الطيور المتحركة شهدت تطوراً قبل عصر الانقراض الجماعي الذي قضى على الديناصورات، وهذا معناه وفقاً للعلماء أنه عوضاً عن تقريب الفجوة في عصر التطور، كانت أشكال طير الإيمو الأسترالي وطير النعام قد شهدت تطوراً سابقاً مكنها من المحافظة على تصميم شكل مناقيرها الأكثر بساطة، واليوم تتمتع 99 في المئة من جميع الطيور بمناقير متحركة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الدراسة أجراها باحثون من "جامعة كامبريدج" و"متحف ماسترخيت" للتاريخ الطبيعي في هولندا، واعتمدت على تقنية الأشعة المقطعية المتطورة لتمييز عظام هياكل طيور ضخمة مجهولة عن أحناكها (سقف أفواهها) وكانوا قد أطلقوا عليها اسم "جانافيز فينايدينس".
وقال فريق البحث إن تلك الطيور كانت موجودة منذ نهاية عصر الديناصورات، وكانت واحدة من أندر الطيور ذات الأسنان التي عاشت في ذلك الزمان.
ووفقاً للباحثين فإن ترتيب عظام الحنك أظهر أن هذه الطيور التي عاشت في عصر الديناصورات لديها مناقير متحركة، وأن أشكالها تقترب كثيراً من مناقير الطيور الأكثر حداثة.
ورأى فريق البحث أن دراستهم "تقترح أن ما علمناه حول كيفية نشوء الهياكل العظمية للطيور الحديثة في حاجة إلى إعادة نظر".
وخلال الوقت الراهن يتم تصنيف قرابة 11 ألف نوع من الطيور التي تعيش في كوكب الأرض وفقاً لانتمائها لإحدى مجموعتين، استناداً إلى ترتيب وضع عظام أحناكها، فطيور الإيمو الأسترالية وطيور النعام وما يندرج ضمن فصيلتها تصنف على أنها من مجموعة ذوات الفك القديم أو "يوغناث"، ومعناها أنها مثل البشر تشكل عظام أحناكها كتلة صلبة.
أما المجاميع الأخرى من الطيور فتصف على أنها من مجموعة ذوات الفك المتطور أو "نيوغناث"، مما يعني أن عظام أحناكها ترتبط بمفصل متحرك، فامتلاك منقار أكثر قدرة على الحركة يساعد الطير في بناء عشه والتقرب من أنثاه وجمع الطعام والدفاع عن نفسه.
غير أن اكتشاف الفك الصلب بعد التعرف على الفك العلوي المفصلي القابل للحركة قد يتطلب القيام بإعادة صياغة كتب التاريخ المتعلقة بهذه المسألة.
ولاحظ فريق البحث أن التمييز بين تصنيف الطيور استناداً إلى نوعي الفك كان وضعه عالم الأحياء البريطاني توماس هوكسلي، الذي أصبح معروفاً بـ "كلب داروين الوفي" لتأييده الأعمى لنظرية " التطور" التي وضعها تشارلز داروين، ففي عام 1867 كان هوكسلي قد صنف جميع الطيور وفقاً لنوع عظام أحناكها وفكها "قديم" أو "حديث". واستند في فرضيته إلى أن شكل الفك القديم هو الوضع الأصلي للطيور الحديثة، وأن الفك الحديث تطور في وقت لاحق.
وقال الدكتور دانييل فيلد الباحث لدى قسم علوم الأرض في "جامعة كامبريدج" وكبير واضعي الدراسة الأخيرة، إن الافتراض الذي وضعه هوكسلي تم اعتماده كنظرية منذ ذلك الوقت، وأن السبب الرئيس للتمسك بذلك الافتراض هو أن دوائر البحث لم تكن لديها حفريات لهياكل طيور يعود تاريخها لبداية ظهور الطيور الحديثة وتمت المحافظة عليها بعناية، فالحفريات التي تمت تسميها بـ "جانافيس" عثر عليها في موقع حجر جيري قديم قرب حدود بلجيكا وهولندا خلال تسعينيات القرن الماضي، وبدأت عملية درسها عام 2002.
ولما كانت الحفرية مغلفة بالصخور، فقد تمكن العلماء حينها من وضع وصفهم لما شاهدوه من الخارج فقط، إذ وصفوا حال بقايا العظام التي برزت من الصخور واعتبروها قطعاً من الهيكل العظمي ومن عظام الكتف، ولم يتمكنوا من وصف بقية الحفرية في الخلف والتي لم يشاهدوها.
وبعد قرابة 20 عاماً لاحقة تمت إعارة الحفرية لمجموعة الدكتور فيلد في "جامعة كامبريدج" وللدكتور خوان بينتو الذي كان حينها دارس دكتوراه، ليلقي عليها نظرة أخرى.
وقال بينيتو وهو اليوم باحث بعد الدكتوراه في "كامبريدج" وأحد المشاركين الأساس في الدراسة الأخيرة، "منذ بدأت عملية وصف هذه الحفرية بدأنا استخدام تقنية الأشعة المقطعية على بقية الحفريات، وهو ما مكننا من التعرف على تفاصيل الصخرة ومشاهدة تفاصيل الحفرية بدقة".
وأضاف بينيتو "كانت لدينا أمال عريضة في هذه الحفرية التي قيل في البداية إنها تضم جزءاً من الهيكل العظمي لا يبقى طويلاً في الغالب، لكننا لم نشاهد شيئاً من هذا القبيل في الهيكل العظمي خلال استخدام الأشعة المقطعية، ولذلك فقدنا الأمل ووضعنا الحفرية جانباً".
وخلال عملية الإغلاق بسبب جائحة كورونا قام الدكتور بينيتو بإلقاء نظرة أخرى على الحفرية، إذ توصل إلى أن المواصفات السابقة التي وضعت لها لم تكن مقنعة، فقد كانت هناك قطعة من العظام جعلته يشعر بالحيرة، ولم يكن متيقناً من أن وصف ما تم اكتشافه بأنه عظم كتف قد يكون بالفعل عظم كتف.
وقال الدكتور فيلد إن تلك كانت مشاهدته الشخصية الأولى للحفرية خلال أشهر، موضحاً أنه والدكتور بينيتو كانا ملتزمين بقرار التباعد الاجتماعي خلال الجائحة، وعقدا اجتماعاً عن بعد وطلب منه بينيتو أن يشاهد الحفرية.
وأضاف الدكتور فيلد أنه تمكن من رؤية عظم الكتف، لكنه شعر بأن هناك شيئاً مألوفاً في شكله.
وأوضح الدكتور بينيتو أنه والدكتور فيلد أدركا أنهما شاهدا من قبل عظماً مشابهاً في هيكل ديك رومي، ولأن البحث الذي يجريانه معاً في "كامبريدج"، فقد تصادف أن لديهما في المختبر هياكل عظمية للديك الرومي، فأحضرا أحدها وقاما بإجراء مقارنة بالحفرية ليكتشفا تشابهاً ملحوظاً بينهما.
هذا الاكتشاف دفع فريق البحث إلى استخلاص أن حال الفك الحديث غير المدروس، والذي يشبه حال الديك الرومي، تطورت قبل حال الفك القديم المرتبطة بطيور النعام وما شابهها أو اقترب منها.
ولسبب ما غير معلوم حتى اللحظة، فإن أحناك النعام والطيور المشابهة لها المكتشفة تطورت في وقت ما بعدما كانت الطيور الحديثة قد اكتشفت بالفعل، وقال الدكتور فيليد إن "التطور لا يحدث بصورة مباشرة، وقد تبين من الحفرية أن المنقار المتحرك، وهي حال اعتقدنا دائماً أنها ظهرت خلال تاريخ ظهور أصل الطيور الحديثة، تطور في الواقع قبل وجود الطيور الحديثة، وهذا جعلنا نشعر بأن افتراضاتنا المتعلقة بتطور هياكل الطيور الحديثة كانت دائماً متأخرة لما يزيد على قرن من الزمن".
وأضاف الباحثون أنه بينما قد لا يعني هذا الاكتشاف أن شجرة عائلة الطيور بأكملها تحتاج إلى إعادة رسم، إلا أنه يعيد صياغة فهم عنصر مهم يتعلق بتطور الطيور الحديثة.
ولاحظ الباحثون أن أنواع الطيور من فصيلة "جانفيز" لم تنجو من عصر انقراض الطيور الجماعي الذي شكل نهاية العصر الكريتاسي (قبل قرابة مليون عام)، وأنها اختفت في الوقت نفسه الذي انقرضت فيه الديناصورات الهائلة وغيرها من الطيور ذات الأسنان.
وتلك الطيور قد يكون وزنها قرابة كيلوغرام ونصف الكيلو غرام، كما قد يكون حجمها كحجم الطيور الحديثة نفسها، غير أن شح الطعام بسبب انهيار منظومة الغذاء قد يكون على الأرجح أسهم في القضاء عليها وتمكينها من النجاة، بحسب رأي فريق البحث.
والجدير بالذكر أن الدراسة نشرت في مجلة نيتشر.
© The Independent