من المستغرب نوعاً ما عدم وجود كثير من الوثائقيات عن روبرت داوني جونيور. يعد الممثل الذي يلعب دور آيرون مان Iron Man موضوعاً ممتازاً لكونه يحتل مكانة أكبر نجم سينمائي على كوكب الأرض خلال العقد الماضي. انسوا كل مقالات الرأي تلك التي تتحدث عن "انطفاء نجم الصف الأول"، إذ إن جونيور يتمتع بالقدر نفسه من الأهمية كما فعل دائماً: إنه ممثل جعلته جاذبيته غير المتكلفة على الشاشة نجماً مضاعفاً. بحلول عام 2018 تردد أنه يتقاضى ما يصل إلى 75 مليون دولار (ما يعادل 61 مليون جنيه استرليني) عن المشاركة في فيلم واحد لصالح مارفل، لكن عند الخوض في ماضيه، تجدون أنه ليس بهذا الجمال: الكثير من الألم، معاناة مع الإدمان، مهنة على شفا الانهيار التام، لذلك عندما تواصل معه المخرج كريس سميث في شأن جعله محور فيلم وثائقي جديد، بدا الأمر بالتأكيد كضربة مباغتة. يتذكر سميث: "وصلت الإجابة بعد نحو أسبوعين وكانت "قطعاً لا"...، لكنه أعتقد أنه ينبغي أن يقوم شخص ما بتصوير والده".
بالطبع ليس روبرت داوني الأب "والده" فقط. كان الأب فناناً، ومخرج أفلام خارجة عن المألوف راديكالياً لا مثيل له، اشتهر بفيلمه الهجائي "باتني سووب" Putney Swope الذي أخرجه سنة 1969، هذا الفيلم الذي يحكي قصة رجل أسود يحمل الاسم نفسه يعمل مديراً تنفيذياً لوكالة ماديسون أفينيو للإعلانات يتحول بشكل غير متوقع إلى رئيس للشركة عقب الوفاة المفاجئة لرئيسها، اختارت مكتبة الكونغرس عام 2016 الاحتفاظ به لكونه يتمتع "بأهمية ثقافية أو تاريخية أو جمالية". تشمل أفلامه الأخرى "الأكواع المسحوجة" Chafed Elbows (عن رجل يقيم علاقة مع والدته)، و"قصر غريسر" Greaser"s Palace (فيلم "ويسترن لاذع" يتناول حياة يسوع بأسلوب ساخر) و"كثير من الشمس" Too Much Sun (كوميديا هدامة يشترط فيها أب إنجاب حفيد أولاً حتى يحصل ابنه اللوطي أو ابنته السحاقية على تركته).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رغم أن أفلامه حظيت بدعم عدد قليل من الشخصيات البارزة في الصناعة، بمن فيها المخرج بول توماس أندرسون، وأن عديداً منها شهد مشاركات مبكرة لابنه، فإن أعمال داوني الأب ما زالت تحظى بمشاهدة قليلة بين عامة الناس. ربما يشرع الوثائقي الجديد الذي يحمل عنوان "الأب" "Sr." من إخراج سميث وأطلقته نتفليكس على منصتها هذا الأسبوع في تغيير هذا الواقع.
يتضمن فيلم "الأب" عناصر قد تجدونها في أي فيلم وثائقي يستعرض مسيرة شخص ما: مقاطع قصيرة من أفلام داوني الأب، مشاركات لبعض الضيوف (بمن فيهم بطل فيلم "ليتل ميس صنشاين" Little Miss Sunshine آلان أركين وكاتب السيناريو الحائز على جائزة إيمي نورمان لير)، استعراض سخي لتفاصيل السيرة الذاتية، من وقت تمرده عندما كان في الجيش إلى الدور الذي لعبه في الثقافة المضادة في الستينيات، لكن سميث، الذي أخرج سابقاً وثائقي "جيم وآندي" Jim and Andy لصالح نتفليكس حول صناعة فيلم "رجل على القمر" Man on the Moon الذي يؤدي فيه جيم كيري شخصية آندي كوفمان، تمكن أيضاً من الوصول إلى داوني الأب والابن على نطاق واسع، ويتألف الفيلم في معظمه من لقطات صورت خلال السنوات الأخيرة لداوني الأب.
أثناء عملية الإنتاج، بدأ داوني الأب في الوقت نفسه بصناعة نسخته الخاصة به من الوثائقي (نسخة تجريبية أكثر إلى حد ما) وستتسنى لنا مشاهدة مقتطفات من عمله هذا أيضاً، لكن في عز رحلة الإنتاج هذه، أدرك كل من سميث وداوني الأب والابن أنهم كانوا يصنعون فيلماً يختلف عن ذلك الذي خططوا لإنتاجه. يقول سميث: "بدأ الفيلم كتصوير لفنان - لصانع أفلام متمرد من أواخر الستينيات والسبعينيات... ولاحقاً، عندما بدأنا في قضاء مزيد من الوقت مع الأب، تغيرت الأمور". الشيء الذي تغير بالتأكيد كان صحة الأب.
كان مريضاً يعاني داء باركنسون، وكانت حالته تزداد سوءاً. وظلت الكاميرا ملازمة له. مع مرور الوقت في فيلم "الأب"، يتحول إلى وثائقي عن الشيخوخة، والتدهور الجسدي، والمشاعر المعقدة التي لا حصر لها المصاحبة لذلك. يوضح سميث: "إحدى [نتائج هذا] هي أن روبرت داوني جونيور احتل جزءاً في الفيلم أكبر بكثير في نهاية المطاف... تغير العمل من كونه نظرة على الحياة المهنية لصانع أفلام إلى النظر في العلاقة بين الأب والابن". توفي روبرت داوني الأب في 7 يوليو (تموز) سنة 2021.
مع أن الوثائقي يظهر بالعموم ديناميكية متناغمة ومحبة بين الرجلين، إلا أن داوني جونيور يقلل من قيمة ذلك عندما يصف علاقته بوالده بـ"المعقدة". سمح داوني الأب لابنه دائماً بالدخول في جميع جوانب حياته، وبخاصة صناعة الأفلام. خلال طفولة جونيور، كان سريره موجوداً في غرفة المونتاج بينما كان والداه، داوني الأب وزوجته الأولى الممثلة إلسي آن فورد، يستعرضان اللقطات غير المنقحة ليلاً. ظهر داوني جونيور لأول مرة على الشاشة عندما كان في الخامسة من عمره في فيلم "حيوانات ضالة" Pound الذي أخرجه والده عام 1970، وهو عمل كوميدي غريب يلعب فيه ممثلون بشر أدوار كلاب في ملجأ تنتظر القتل الرحيم.
من المصيب افتراض أن تعرض داوني جونيور المستمر والساحق لصناعة الأفلام منذ صغره ساعد في جعله النجم السينمائي الذي صار عليه، لكن خارج نطاق العمل، كان نهج الأبوة عديم الحدود الذي اتبعه الأب مضراً أكثر بكثير. كان يعاني الإدمان (كان مدمناً بشكل رئيس الكوكايين والماريوانا)، وسمح لابنه بتعاطي المخدرات معه منذ سن السادسة. لقد تخلص داوني جونيور من إدمانه منذ نحو عقدين من الزمن، لكن صراعاته المفضوحة جداً مع الإدمان كادت تكلفه مهنته وحياته.
يتذكر سميث: "مرات عديدة خلال المقابلات مع روبرت [جونيور]، كان يقول بوضوح شديد إننا لا نستطيع القول إن كل الأمور سارت على ما يرام... علينا الاعتراف بذلك، ولا يمكننا رسم صورة وردية للغاية. أعتقد أن هناك مشكلات كان لا يزال يريد طرحها مع والده، لكن في الوقت نفسه، كانت هناك حقيقة تتكشف متعلقة [بصحته]. عليك أخذ ذلك في الاعتبار أيضاً، لذلك كانت موازنة بين هذين الأمرين".
هناك درجات معقدة من الإشراق والظلامية في حياة داوني الأب. يبذل الفيلم قصارى جهده لتسليط الضوء على التعاطف والتفاني اللذين أظهرهما عندما كانت زوجته الثانية، لورا إرنست، تعاني مرض التصلب الجانبي الضموري العصبي التنكسي (توفيت عام 1994)، بينما اتسمت علاقته بابنه في نهاية حياته وبأحفاده بالعناية والقرب. من المرجح أن يجد أي شخص اضطر إلى زيارة قريب مسن مريض تحت الرعاية بعض لقطات الفيلم مألوفة جداً. يتابع الفيلم الوثائقي داوني الأب حتى نهاية حياته، إلى المرحلة التي لم يعد يتعرف فيها إلى وجه ابنه. يقول سميث: "سترى في تسلسل المشاهد الأخير من الفيلم اللقطات التي أراد فيها روبرت قضاء بعض الوقت رفقة والده... لم يكن روبرت يعلم أن [المصور السينمائي والقائم بعمليات المونتاج كيفن فورد] قد وضع هاتفاً ذكياً في الزاوية. عندما تشاهد الفيلم، تدرك أنها لقطات لا تقدر بثمن. لا أعتقد أنه كان ينظر إلى هذا التفاعل على أنه مشهد، لقد كان شيئاً يفعله لنفسه لا أكثر".
هناك غرابة معينة في نجاح داوني جونيور في نهاية المطاف ضمن التيار السائد في هوليوود، إذ لطالما كان والده غريباً، وفردانياً ومناهضاً للتجارة حتى النخاع (أثبتت محاولته الوحيدة في إخراج عمل كوميدي سائد أكثر، هو فيلم "إلى الأكاديمية" Up the Academy الهجائي الذي يدور حول الجيش أنها كانت تجربة محبطة للأب، ووصفها لاحقاً بأنها "واحدة من أسوأ الأشياء اللعينة في التاريخ".) أما ابنه، فقد أصبح في هذه الأثناء التجسيد الحرفي للتيار السائد.
لكن الأمر الغريب هو أن هذا التفرق لم يكن مصدر توتر على ما يبدو. يقول سميث: "أعتقد حتماً أن هناك أفلاماً لم يهتم بها [داوني الأب]... وأظن، كما يعترف روبرت علانية، أن والده لما كان سيخفي ازدراءه إذا كان هناك شيء لم يعجبه، لكن كما تعلم، عندما سألناه عن أفلام مارفل – عن أيرون مان تحديداً - أتذكر أنه أحبها. قال "لديك رجل يريد التخلي عن أسلحته!". بصراحة، أظن أنه كان فخوراً حقاً برؤية نجاح روبرت". وكما نرى بشكل واضح في وثائقي "الأب" فإن الشعور بالفخر متبادل.
إذا تمكنت نتفليكس من جعل حتى جزء صغير من معجبي داوني جونيور يهتمون بأفلام مثل "باتني سووب"، فسيكون ذلك بمثابة انتصار للسينما المستقلة وبالنسبة إلى فنان أثبت عمله لفترة طويلة أنه شديد الغرابة ومتعنت بالنسبة إلى الذائقة التقليدية بالعموم. يقول سميث: "أعتقد أن الناس عندما رأوا ما الذي كان روبرت داوني الأب يصنعه، سمح لهم برؤية السينما بشكل مختلف... قد لا يتجلى ذلك في محاولة محاكاة أفلامه، لكنه طور العملية الإبداعية. أعتقد أنه لا يمكن إنكار هذا".
يمكن مشاهدة وثائقي "الأب" على نتفليكس حالياً
© The Independent