حل أنطونيو بانديراس ضيفاً خفيفاً على مهرجان "البحر الأحمر السينمائي" في دورته الثانية التي انتهت أمس، وكانت له جلسة حوارية استغرقت نحو ساعة أدارتها الإعلامية ريا أبي راشد، تحدث فيها بصراحته المعهودة، مصارحاً الجمهور السعودي والعربي والأجنبي بعديد من التفاصيل الشخصية عن حياته ومسيرته المهنية التي بدأها في مطلع الثمانينيات عندما كان في بداية العشرينيات. وشهد حضور الممثل والمخرج الإسباني إلى جدة عرض "القط ذو الحذاء: الأمنية الأخيرة"، وهو فيلم تحريك من بطولة بانديراس.
يعتبر بانديراس من رموز السحر اللاتيني على الشاشة. طموحه تخطى التربع على عرش شباك التذاكر في أفلام هوليوودية، فلم يكتف بالتمثيل بل تولى إخراج فيلمين طوال مسيرته. بدأت رحلته مع التمثيل في دور صغير في إدارة بدرو ألمودوفار. كان ذلك في "متاهات الشغف" قبل 40 عاماً. وفاء المخرج الإسباني لممثليه، إضافة إلى موهبة الشاب أنطونيو، جعلا التعاون يمتد على ثمانية أفلام، وتبلور تصاعدياً حتى البطولة المطلقة في أفلام مثل "ماتادور" و"اربطيني" و"نساء على حافة الانهيار العصبي". آخرون أيضاً أسهموا في خروج بانديراس إلى الضوء، بعد أن كان مجرد صبي يحلم أن يكون لاعب كرة قدم، ومنهم كارلوس ساورا وخوسيه لويس غارثيا سانتشيز.
في منتصف الثمانينيات انهالت عليه العروض من كل صوب، وله، نتيجة ذلك، أفلام إسبانية كثيرة معظمها لم يصنع ليخلد. أما "تبني" السينما الأميركية له فجاء من طريق الصدفة خلال حملة دعائية في أميركا لأحد أفلام ألمودوفار في أواخر الثمانينيات، وبدأت حكايته معها من خلال "مامبو كينغز" لأرنولد غليمشر (1991)، ثم كرت سبحة مجموعة أعمال. في تلك المرحلة لم يكن يتكلم الإنجليزية بعد، فتعلم نصوصه سمعياً، وصار ينتقل من فيلم أوروبي إلى أميركي فإسباني. منذ البداية صنفته هوليوود "عاشقاً لاتينياً" امتداداً لتراث قديم يعود الفضل في تأسيسه إلى رودولف فالانتينو، أيام السينما الصامتة. في البداية وظف هذا الإتيكيت لمصلحته طامحاً للشهرة، ثم استطاع تعطيل هذا التنميط نسبياً مذ تعاون مع سينمائيين أكثر جدية أمثال جوناثان ديمي ونايل جوردان وبيلي أوغست. وفي حين أطلقه "ديسبيرادو" لروبرتو رودريغيز و"مجرمون" لريتشارد دونر، فبلغ الذروة مع ميوزيكال آلان باركر "إفيتا" ودخل قلوب الملايين عبر العالم مع عمل "قناع زورو"، عمل محض تجاري لمارتن كامبل.
النوبة القلبيةالخدمة الإعالمية)
استهل بانديراس الجلسة الحوارية مع الأزمة الصحية التي تعرض لها. ففي عام 2017، نوبة قلبية ألمت به وأتاحت له أن يولد مجدداً ويستعد للعمل مع ألمودوفار، وكان يومها "ألم ومجد" الذي فاز عنه بجائزة التمثيل في مهرجان "كان" السينمائي. قال "عندما تعرضت للعارض الصحي كل شيء انهار من حولي، ما عدا ابنتي وعائلتي وأصدقائي والتزامي عملي. كل شيء عدا هذا ما عدت أهتم به". صفق له الجمهور بحفاوة، وعلقت ريا أبي راشد بأن لا شيء كالتواصل الحي مع الجمهور، عندما يكون المرء ممثلاً يقف على خشبة المسرح، فأكد بانديراس صحة هذا الكلام قائلاً بأنه يشعر جيداً كيفية تلقي الجمهور عمله، مضيفاً "حياتي كلها منظمة لخدمة الساعات الثلاث التي أصعد فيها على خشبة المسرح لأقابل المشاهدين".
لقاء ألمودوفار كان محطة مهمة في حياة بانديراس. يتذكر "من بعد ذلك اللقاء، تغيرت سينماه كلياً. ليس فقط فنياً، بل اجتماعياً. اتسمت أعماله بالجرأة. كنا في إسبانيا خرجنا لتونا من الديكتاتورية، وكنا ندفع بحدود السينما إلى الأمام. ظل ألمودوفار وفياً لأسلوبه ونمط عمله، لم يتراجع وهذا شيء نادر. أنجزنا معاً ثمانية أفلام. في إسبانيا كان معروفاً لكونه يخرج كوميديات لذيذة، وهكذا كان يعبر عن أفكاره. مع الزمن صار أكثر عمقاً وتعقيداً وبدأ يخسر حس الدعابة. دخلت هوليوود لكني عدت إليه لأصور تحت إدارته (الجلد الذي أسكنه). عرف ألمودوفار بكونه مخرجاً يعمل على إسقاط التابوهات، وكان يغضب كثيراً من الناس، وهذا شيء محبب في الفن، لعله وظيفة الفن الأولى، وإن كان هناك كثير من الأشياء التي تزعجني اليوم في هذا المجال".
عشاء مع مادونا
يتذكر بانديراس كيف جاءت المغنية مادونا إلى إسبانيا، ودعته إلى العشاء، وخلال العشاء راح طاقم تصوير يصوره. "لم أعر ذلك اهتماماً، لم أكن أفهم الهدف من التصوير. كانت مادونا تحب أفلام ألمودوفار التي كانت تضحكها كثيراً. ثم خلال وجودي في هوليوود لتصوير فيلم تلقيت مكالمة منها تفيد بأنها أنجزت فيلماً وثائقياً أظهر فيه، فكان (في السرير مع مادونا). بعد بضع سنوات شاءت الصدف أن نلعب معاً بطولة فيلم (إيفيتا). كان من المفترض لأوليفر ستون أن يخرج الفيلم. أتذكر أنه طلب مني أن أوقع عقداً على منديل مائدة الطعام، لكن آلان باركر هو الذي أخرجه في النهاية، بناءً على سيناريو لستون. سألني عن مادونا فقلت له إنها ممتازة للدور. أحببت هذا الفيلم، لأنني أميل إلى الميوزيكال. الصورة شكلها الكبير داريوس خونجي والفيلم يدرس اليوم في الجامعات".
عند ذكر "قناع زورو" الذي يلعب فيه شخصية المغامر الثري المقنع الذي يحاول فرض العدالة، صفق جمهور المهرجان بشدة. فالفيلم حقق شهرة دولية في نهاية التسعينيات، وكانت له تتمة في 2005. يروي بانديراس "عرض عليَّ الدور ليلة توزيع جوائز الـ(أوسكار) عام 1994. كنت أقدم الـ(أوسكار) لبروس سبرينغستين الذي نالها عن (فيلاديلفيا). مخرج إسباني أيضاً (فرناندو ترويبا) كان نال جائزة أفضل فيلم أجنبي، ثم ذهبنا لحضور حفل إلتون جون، هناك سئلت إذا كنت متفرغاً غداً للذهاب إلى استوديوهات (يونيفرسال)، فرددت بالإيجاب. يا إلهي، كنت مستعداً للذهاب زحفاً! التقيت سبيلبرغ الذي سألني إذا كنت أعرف زورو. نعم، كنت أعرفه، ثم أراد أن يعلم إذا كنت مهتماً بتجسيد هذا الدور. في البداية كان روبرتو رودريغيز هو الذي سيتولى الإخراج، لكن في ما بعد استقر الموضوع في يد مارتن كامبل".
يروي بانديراس أنه عندما وصل إلى هوليوود قال له كثر إنه إذا أراد أن يبقى في عاصمة السينما الأميركية ويعمل فيها فعليه التخصص في أدوار الأشرار، لكن في رأيه أن زورو غير كثيراً من المعادلة، مؤكداً أنه أعطى مكاناً تحت الشمس للجالية الإسبانية في هوليوود. فالخير هذه المرة، أي زورو، هو إسباني الهوية، يحارب أشراراً من ذوي العيون الزرقاء.
الممثل مخرجاً
أخرج بانديراس فيلمين في مسيرته. كانت سينما تعبر عن هواجسه بعيداً من خدمة مصنع الـ"الإنترتنمنت" الهوليوودي الذي ذاع صيته من خلاله. وإذا بدا نجاحه نسبياً في باكورته "كرايزي في ألاباما" (بطولة زوجته ميلاني غريفيث)، فالآفاق توسعت أمامه مع ثاني محاولاته الإخراجية، "طريق الإنجليز"، الذي عاد فيه إلى أيام الصبا في الأندلس تحت حكم فرانكو. عن هذا الجانب من عمله يقول "أفلامي كمخرج أتاحت لي العمل في المسرح. الإخراج يسمح لك بالعمل بالأدوات الحقيقية، ثم عندما تدير الممثل تفهم مشكلاته. عندما ترى من الخارج تفهم ماذا يحدث بالضبط، ويمكن أن يساعدك هذا في تحسين أدائك أيضاً. ذات مرة كنت أدير ممثلاً في ثاني أفلامي مخرجاً، وكان هناك مشهد دقيق على الممثل أن يظهر أحاسيسه فيه عبر البكاء حزناً على زوجته الراحلة. فخلال التصوير أعطيته حذاء الزوجة قائلاً له (هذا الحذاء أنت الذي أهديته لها)، فانهار بالبكاء. عندما توفي والدي شعرت بحزن عميق، لكن أكثر ما آلمني هو أني وجدت ذات يوم حزامه على سريره. في السينما لا يمكن معرفة من أين تنبعث الانفعالات".
هذا كله يوصلنا إلى الحديث عن أحد أفلامه الأخيرة ممثلاً، "مسابقة رسمية" لغاستون دوبرات وماريانو كون، الذي عرض في مهرجان البندقية العام الماضي. يتشارك بانديراس البطولة مع أوسكار مارتينيز للعب دور شقيقين متناحرين على خلفية حادثة سيارة تسبب بها أحدهما وأودت بحياة والديهما، فتبدأ عملية شد حبال طويلة ومضنية بين الممثلين اللذين ينتمي كل منهما إلى مدرسة مختلفة، سواء في كيفية التعامل مع الدور أو في النظر إلى العالم والجمهور والمهنة. يقول بانديراس "في هذا الفيلم الساخر تظهر سخافة عالم التمثيل وحماقته، لكننا استمتعنا جداً ونحن ننجزه، لأن كثيراً مما قيل فيه حقيقي ومستوحى من تجربتنا. لن أذكر أسماء، لكن هناك نوعين من الممثلين، ثمة منافسة مستمرة بين نهجين. أتذكر ممثلاً كان تدرب على منهج الـ(أكتورز استوديو)، وكان استعداداً لتصوير كل مشهد يطلق صوتاً غريباً من داخل حنجرته مثيراً خوفي. ممثل آخر وهو صديق لي شاركني في مسرحيات كان قبل كل جملة له خلال التمارين ينطق عبارة (كارتاخينا غراكو). في المقابل لم يوفق الفيلم في المهرجانات، لأننا شتمنا الجميع ولم نوفر أحداً. أي جائزة كان ممكناً أن نحصل عليها في مهرجان البندقية، ونحن قلنا كل ذلك السوء عن الجوائز؟".
عطر ومال
تجارة العطور، جانب آخر من حياة بانديراس تناولته ريا أبي راشد في أسئلتها، فكان رده "بالنسبة إليَّ هذا بزنس. أصدقاء لي يعملون في هذا المجال استعملوا اسمي ولم أمانع، هذا بزنس يدر عليَّ المال، وهو يستمر منذ 20 عاماً، وهي أطول علاقة بين شخصية عامة ومنتج. هذه التجارة سمحت لي بتأسيس مسرح في مدينتي مالقة، إنني فخور به، وهذا واحد من أهم الإنجازات التي حققتها في حياتي. إنه مشروع غير ربحي وهذا يرضيني جداً. يعمل فيه العشرات، ومن دواعي سروري أن أوفر فرص عمل لأبناء مدينتي. المشروع يتطور باستمرار. تمت دعوتنا إلى مسارح كثيرة حول العالم ومنها برودواي، ولي انطباع بأني أصنع شيئاً مهماً لمدينتي وانطلاقاً منها. العطور كانت مفيدة ورائحتها جميلة".
كشف بانديراس عن أنه صور أخيراً الجزء الخامس من "إنديانا جونز" الذي سيعرض في أواسط العام المقبل. دوره فيه كان صغيراً، لكن التصوير حمله إلى أماكن عدة وكان متعباً. يقول "لم يكن الوقوف أمام إنديانا جونز مع ما يمثله من هالة بالأمر العادي. خلال وجودي في مقصورتي، سمعته يصيح اسمي: أنطونيو، أنطونيو! فقط لهذه اللحظة، كان الأمر يستحق أن أشارك في الفيلم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على وسائل التواصل الاجتماعي يحاول بانديراس أن يحافظ على شيء من الحياد، كما يقول. يتجنب المشكلات ولا يفتعلها كبعض المشاهير والمؤثرين "أحافظ على الصواب السياسي. لا أدخل في صدامات ومهاترات. أعطي رأيي باعتدال في السينما والمسرح بشكل عام". خلال اللقاء الذي عقد بعد مرور ثلاثة أيام على فوز المغرب على إسبانيا رفض القول إن إسبانيا خسرت. "المنتخب الإسباني لعب جيداً. ثقافة المغرب كانت في منزلي منذ الطفولة، خصوصاً على مستوى الأكل، لكن المغاربة خربوا اللعبة. أحب الرياضة وهي تأتي بكثير من الأشياء الجميلة للمجتمع، لكني بت أفضل التزلج على كرة القدم، ما عدت أؤمن بالأخيرة، بعد أن رأيت فيها كثيراً مما يجعلني أنفر منها. تراجعت حماستي تجاهها، هي اليوم مجرد استعراض إلى حد أن الخسارة لم تؤلمني، خسارة مماثلة في السابق كانت تعني ثلاثة أيام إحباطاً".
اختتم بانديراس الجلسة الحوارية بالاعتراف بأنه حاول أن يعود إلى نقطة الانطلاق وإلى المكان الذي بدأ منه في الفترة الأخيرة من حياته، واصفاً مشاعره وهو على خشبة المسرح بالتفاصيل الدقيقة "عندما أقف أمام الجمهور أشعر بانفعالاته وبكل ما يمر به من أحاسيس. كل هذا يصبح ملموساً، لهذا السبب أنا ممثل. صرت اليوم في الثانية والستين، وأريد أن أعود إلى ما هي عليه مهنة التمثيل فعلاً لدوافع أشعر بها جيداً، على رغم أنه يصعب عليَّ شرحها".