تمثل آلة العود مكانة مميزة داخل الموسيقى العربية الحديثة منها والمعاصرة، ذلك أن أهميتها تبرز في قدرتها على نسج علاقة ساحرة مع الفنان العربي منذ أزمنة سحيقة، فإذا كانت آلة الغيتار قد دخلت من أوروبا خلال لحظات تحديث العالم العربي ومراحل المثاقفة التلقائية التي تمت بين بلدانه إبان الحقبة المعاصرة، فإن نظيره العود نشأ داخل بيئة عربية ودخل إلى أوروبا خلال مرحلة فتح الأندلس، فأثر في كثير من المقاطع الغنائية.
ولقرون طويلة ظل العود مؤثراً داخل الصناعة الغنائية العربية التي طالما اعتبرت رمزاً للالتزام، ورافق العديد من الشعراء في خلوتهم والموسيقيين في مهرجاناتهم، وراكم العرب على منواله آلاف الأغاني التي تحبل بها المدونة الفنية العربية اليوم، ولهذا يشكل العود حالاً استثنائية مقارنة بآلات موسيقية أخرى مثل الرباب والطبل وغيرها، بحيث أن الفنان العربي يجد نفسه دوماً مدعواً إلى الانغماس في تراثه الموسيقي، بحكم ما يتيحه العود من إمكانات على مستوى العزف وأيضاً للاشتغال على نصوص من التراث العربي، لا سيما قصائد التراث الصوفي لدى كل من الحلاج وجلال الدين الرومي.
من التاريخ إلى الذاكرة
ونظراً إلى المكانة المركزية التي بات يحتلها العود في الذاكرة الغنائية، أصبحت الآلة مطلباً حيوياً يومياً بالنسبة إلى الحرفيين وصناع الآلة الموسيقية الوترية، وهذا ما يفسر سرعة انتشاره داخل أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، إذ لم تعد هذه الآلة تتخذ صورتها القديمة بقدر ما ظهرت صور أخرى لها وأصبحت صناعتها تختلف من حضارة إلى أخرى.
وبالعودة لبعض الحفريات الأركيولوجية نجد أول صناعة له قد أخذت شكل هيكل عظمي جسدي في بلاد ما بين النهرين، ثم تطورت لاحقاً وفق أنواع مختلفة الشكل والحجم بعدما غدا العامل الزخرفي مهماً في تمييز آلة عن أخرى.
يقول بول هنري لانج، "أما الآلات الوترية التي تغمز أوتارها فقد حظي العود بكل تقدير وشاع عزفه في عصر النهضة وعصر الباروك وأصله مشوب بالغموض".
وعلى رغم الجهد الذي بذله صناع الآلات الموسيقية الكلاسيكية والدراسات الفكرية الوسيطية (العصر الوسيط) المهمة التي أنجزها كبار الفلاسفة العرب مثل الكندي والفارابي وابن سينا وصفي الدين الأرموي وغيرهم، فإن هذا المبحث الموسيقي لا يزال مهمشاً بسبب غياب دراسات تاريخية دقيقة أو تأملات فلسفية حول هذه الآلة ومكانتها في الذاكرة الغنائية العربية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فعلى رغم وجود مراكز موسيقية مهمة منتشرة في العالم العربي، لا يعثر الباحث إلا على دراسات قليلة تستعرض مسار العود وتحولاته التاريخية، لكنها تأبى بنفسها عن رصد السمات الجمالية وأبعادها النفسية على جسد المستمع في العالم، من موسيقيين ومؤلفين وملوك وأمراء ومفكرين.
إن هذا التهميش الذي ألم بالموسيقى العربية لم يرتبط فقط بآلة العود ولكن بالموسيقى ككل، على مستوى التأليف والآلات والمواضيع، وهو أمر ينم عن مدى غياب مؤرخي الفن وندرتهم في التعريف بالتاريخ الموسيقي العربي ورصد تاريخه الجمالي وما ينضح به من تجارب موسيقية فذة لا تزال طرق عزفها مؤثرة في خصوصيات الموسيقى العربية اليوم.
يقول مؤلف كتاب "عود على العود" نبيل اللو "اعتمدت الكتب النظرية الموسيقية العربية كلها التي ظهرت خلال العصر الوسيط العود ذا الأوتار الأربعة بدوزانه بأربعات أساساً في التنظير الموسيقي العربي، وقد أعطى التنظير علامة النبالة لهذه الآلة الفريدة التي ظلت الرابط الأكيد بين النظرية والتطبيق وبين الأكاديمية والشعبية وبين الخاصة والعامة، الآلة هي هي، وزاوية النظرة إليها هي التي تختلف".
الملامح الجمالية
يصنف العود ضمن الآلة الوترية المصنوعة من الخشب الذي قيل إنه السبب وراء التسمية بـ "العود" على رغم أن فريقاً آخر من الباحثين يرون أن أسباب التسمية تعود أساساً لأصلها الفارسي "رود" التي يراد بها الآلة الوترية.
وبغض النظر عن أصله الذي يستحيل الوصول إليه في غياب تأريخ فني دقيق لهذه الآلة، يعاين المرء داخل الأسواق الفنية أنواعاً عدة من الأعواد مثل المصري والتركي والمغربي والعراقي، وهي نماذج كثيرة إذ يجد الفنان داخل البلد الواحد أنواعاً عدة متباينة الشكل ومختلفة الأوتار.
يقول أبو حامد الغزالي، "من لم يهزه العود وأوتاره والربيع وأزهاره والروض وأطياره فهو مريض المزاج يحتاج إلى علاج".
وإلى جانب الموهبة وطريقة العزف الجيدة تلعب الأوتار دوراً بارزاً في إحداث رنة مختلفة، بما يجعل مجمل الفنانين يتسابقون إلى تحسين أوتار الآلة والبحث عن أنواع جيدة تمكنهم من إحداث موسيقى مغايرة تتماهى بقوة مع شعرية الكلمة، والأمر نفسه ينطبق أيضاً على باقي أعضاء جسد العود الأخرى مثل الصندوق والصدر والفرس والرقبة وزند العود والمفاتيح والريشة وغيرهما من المكونات التي تتشكل منها آلة العود، إذ كلما مرت فترة معينة تتطور آلات العود بعد أن يتم تطوير دوزانه، فقد كان في بداية عهده رباعي الأوتار يعطي أربع نغمات، وبعد قرون أصبح العود بخمسة أوتار، لكن العود العربي المعروف من القرن السابع الميلادي يتكون من أربعة أوتار مزدوجة ومتناسقة.
ويرى صاحب كتاب "عود على العود" أنه "في القرن التاسع الميلادي اقترح الكِندي إضافة وتر خامس إلى العود ليغطي صوتياً ديوانين اثنين كاملين، كان السعي دوماً نحوهما لضرورات مصاحبة الغناء، وجاء الاقتراح الثاني من زرياب المغني سعياً منه إلى جعل ضربه بالعود أجود وأدق وأوضح، ولهذا قلنا إن المحاولات الأولى في إضافة الوتر الخامس على العود القروسطي رباعي الأوتار جاءتنا من المنظر الفيلسوف الكِندي ومن مغن عازف وصانع ألحان وهو زرياب، غير أن الأهداف لم تكن دوماً متناغمة، فما قصده الكِندي من إضافة وتر خامس إلى العود غير ما قصده زرياب في ذلك".
زرياب أسطورة العود
ويعد أبو الحسن علي بن نافع الموصلي (زرياب) أهم مطرب عربي اشتهر بالعود، إذ تنسب إليه شهرة هذه الآلة بمختلف مظاهر الفن والجمال التي التصقت بشخصيته، وعلى رغم المكانة التي تنزلها زرياب في تاريخ الموسيقى العربية، لم يحظ الرجل باهتمام بالغ من طرف المؤرخين القدامى والباحثين المحدثين، لكن شهرته كانت خارج بلده، أي أن الغرب هو من اعترف بقوة بسيرته الفنية وإمكاناته التجديدية المرتبطة بآلة العود، بعدما أفردت له العديد من الأطاريح الإسبانية والمتون التاريخية الفرنسية كثيراً من الصفحات، وأعادت قراءة دوره التاريخي في تشكيل ذاكرة الموسيقى العربية القديمة.
وحتى في السينما لم يأخذ زرياب ما يستحق من النظر والتخييل، فمعظم الأفلام التي حاولت أن تقترب من عوالم زرياب الموسيقية ودوره التاريخي المؤسس لم تتعامل معه إلا بشكل هامشي عرضي، إذ تظهر بعض الأفلام شخصيته عابرة إما كدور ثانوي في تاريخ الأندلس أو أنها تعمل على شخصية موسيقية فتحاول أن تستوحي ملامحها من زرياب، مما جعلها تظهر بمظهر الضعف والارتباك.
لكن غياب السينما الـ "أوتوبيوغرافية" حول زرياب يعود لكون المخرجين لا يعثرون على معلومات كافية لإعادة تخييل هذه الشخصية وكيف تعاملت مع آلة العود، بعدما جعلتها رمزاً من رموز التراث الموسيقي العربي.
عاش زرياب حياته في العراق إلى أن جاء ذلك اليوم الذي خيره فيه أستاذه ومعلمه إسحاق الموصلي الذي غلبه الطمع والحسد من شدة قوة زرياب، بعد سهرة ليلية قضاها زرياب مع الخليفة هارون الرشيد بالخروج من وطنه متوجهاً صوب الأندلس، وهناك سيشتهر زرياب أكثر من خلال تأسيسه مدرسة لتعليم آلة العود.
وبحسب بعض المصادر التاريخية فإن جمال زرياب لم يتوقف على الغناء وطريقة العزف، بل حمل معه من بغداد مظاهر الزينة التي عمل بها داخل حياته اليومية في الأندلس، فقدم للأندلسيين صورة جديدة عن الفنان العربي وما ينبغي أن يكون عليه في حضرة الموسيقى والغناء والإنشاد.
وينسب إلى زرياب أنه أول من أسس معهداً لتعليم آلة العود في قرطبة وجعل العود بخمسة أوتار، ثم عمل على اجتراح مقامات كثيرة داخل الموسيقى العربية وتفنن في صناعة العود وطرق الجلوس بين الناس و"ميكانيزمات" الغناء وغيرها.
البحث عن لغة جديدة
على مدى قرون طويلة ظل العود من دون غيره أكثر الآلات الموسيقية شهرة داخل البلاد العربية، وطالما اعتبره العرب في الفترة الحديثة رمزاً للالتزام للسياسي وسيد الآلات الموسيقية المعاصرة.
ففي أعمال الموسيقار اللبناني مارسيل خليفة يبرز العود باعتباره علامة وجود عن تاريخ وذاكرة، فهو من يوجه فعل التأليف ويجعله يبدع عزفاً مستقلاً عن النص الشعري، فقد حقق مارسيل نهضة موسيقية حداثية لآلة العود بعدما تركها تخط بوحاً شجياً يعجب له المرء، وهو ما جعله يحرر بشكل خفي الأغنية العربية من الإيقاع الغربي، فإلى جانب تبنيه القصيدة الغنائية التي تستوحي وجودها من الشعر العربي، استطاع عبر العود توجيه النغم وضبط العزف ليغدو أكثر انفصالاً عن الإيقاع الغربي الذي اكتسح الموسيقى المعاصرة.
ليس عود مارسيل مجرد آلة موسيقية تنتج عزفاً مختلفاً ومغايراً، بل جسد يتألم وأداة تفكر وتنتقد وتعيد رسم ملامح تراثي عربي زاخر بالحب والأنغام والألوان، فاختيار مارسيل للعود جاء من عشقه له وما يحمله من دلالات جمالية بالنسبة إلى الموسيقي العربي، فهو يجعله يبدع من داخل لغة موسيقية تربى عليها أجداده واستنشق حبها من المقاهي العتيقة.
وعلى رغم أن الإيقاع الغربي يعد مكوناً رئيساً للأغنية العربية اليوم، إلا أن التخفف منه من طريق آلة العود جعله يبحث عن لغة موسيقية جديدة أكثر تعلقاً بالتراث العربي، ولهذا شكل العود بالنسبة إلى الموسيقيين العرب قاطرة صوب تنمية الأغنية العربية وجعلها منفلتة من قبضة التدوير الغربي.