تعد الموسيقى الأندلسية أحد أبرز الألوان الموسيقية التي يتميز بها المغرب ويصنفها معظم الباحثين ضمن الموسيقى التراثية ذات النفس التاريخي، نظراً إلى الدور الكبير الذي لعبه هذا اللون الموسيقى في تقريب المغاربة من طبيعة الحياة اليومية في الأندلس، لا سيما أنها ترعرعت في ظل الحكم الإسلامي بالأندلس إبان عهد الدولة الأموية الذي شهد حركة فنية قوامها الإبداع والابتكار.
برزت الموسيقى الأندلسية كأحد ألمع الأشكال الموسيقية التي تميز الحضارة العربية بعد أن أصبحت الحياة الأندلسية تتخذ ميسماً جمالياً، وكثر السهر والحفلات والزهو بهذه الموسيقى التي تعتبر اليوم في نظر الباحثين خليطاً من الأنماط الموسيقية التي مزجت شكلها العربي بالإيبيري، والمشرقي بالأمازيغي.
تاريخ عريق يتهادى
لذلك تمثل الموسيقى الأندلسية بالنسبة إلى المغرب أو "موسيقى الآلة" كما كانوا يسمونها إلى حدود القرن الـ20 تراثاً فنياً أصيلاً، يضمر في طياته تاريخاً موسيقياً عريقاً يتميز بالغنى والتنوع على مستوى التركيبات اللحنية وزخمها الإيقاعي، بل صفحة أصيلة مليئة بالموشحات والأزجال والأشعار التي تغنى بها كبار المغنين والشعراء الوافدين من ربوع العالم الإسلامي صوب زمن الأندلس.
لهذا يصنف جميع الباحثين هذا النمط الموسيقي ضمن "الموسيقى التراثية" التي أضحت في السنوات الأخيرة محتفى بها عربياً وعالمياً، بعد الحصار الرهيب الذي فرضته الموسيقى الإلكترونية المعاصرة اللاهثة وراء الترفيه والإيقاع السريع المندفع.
من ثم، فإن هذه الصبغة التراثية تجعلها تتنزل منزلاً عميقاً في أفئدة الناس وذاكرتهم، إذ يستحيل العثور على مؤلف تاريخي يستعرض اللحظات التي انتصر فيها العرب من دون أن يقف طويلاً عند العهد الأندلسي باعتباره لحظة مفصلية في التاريخ العربي.
وعلى رغم ما تميزت به الأندلس من وجود شعراء ومغنين وملحنين وموسيقيين وزجالين عملوا على تكريس الموسيقى الأندلسية وسعوا إلى تطويرها، فإن للأمراء دوراً كبيراً للغاية بعد أن قاموا بمنح الهدايا وتنظيم الحفلات الموسيقية وبناء المدارس الموسيقية العتيقة حتى أصبحت مدينة غرناطة عاصمة للموسيقى والفن والجمال بالأندلس وبدأ يحج إليها يومياً عشرات الناس من كل بقاع المعمورة، ولولا عناية الولاة والأمراء بهذه الموسيقى لضاعت وتناثرت وغاب ذكرها بعد سقوط غرناطة.
لهذا يخيل لعدد من المؤرخين أن سقوط الأندلس وهجرة الموريسكيين صوب المغرب منح الموسيقى الأندلسية حياة جديدة ستتوطد معالمها ويتقوى بنيانها وتصبح أشهر لون موسيقي يتغنى به المغاربة في أعراسهم وحفلاتهم وأعيادهم.
يقول الباحث عبدالعزيز بن عبدالجليل "لقد لقي التوشيح على العهد الموحدي تشجيعاً يثير الإعجاب في وقت وقف الأدباء المحافظون موقف الرفض إن لم نقل الاستهجان من هذا الوليد الجديد. وهكذا احتضنت قصور الخلفاء ومجالس الأمراء بالمغرب والأندلس الوشاحين، وقد كان الوزير أبو بكر بن زهر منقطعاً إلى يعقوب المنصور، مثلما كان ابن باجة من قبل منقطعاً إلى إبراهيم بن تافلويت المرابطي، وعاشت في أوساط الناس موشحات القاضي أبي فحص بن عمر بفضل ألحانها".
ميكانيزمات "موسيقى الآلة"
أسهمت الموشحات في ازدهار الموسيقى الأندلسية منذ أواخر القرن التاسع الميلادي بعد أن انتشر الغناء والموسيقى في الأندلس ويعتبر فن الموشحات أقدم أنواع الشعر الغنائي، ويقال إنه سمي هذا الاسم لأن تعدد قوافيه على نظام خاص جعل له جرساً موسيقياً لذيذاً ونغماً حلواً تتقبله الأسماع وترتاح إليه النفوس.
والحقيقة أن هذا المكون الشعري (الموشح) شكل أحدث الطرق التعبيرية التي تماشت وتماهت مع الموسيقى الأندلسية، إذ لولاه لما تطورت هذه الموسيقى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول الأكاديمي عباس الجيراري "الموشح هو قصيدة شعرية ولكنها لا تخضع لوحدة البيت ولا القافية، ولكنها مقسمة إلى أقسام أو مقاطع، بعضها يسمى أقفالاً وبعضها يسمى أبياتاً".
لكن إذا تأملنا السياق التاريخي الذي أسهم في ظهور الموشح فسنجد أنه كان نتيجة ثورة جمالية داخل نظام القصيدة العربية ورغبة ملحة في تجاوز قواعد الموسيقى العربية وأنظمتها البلاغية القاهرة. ولم يكن الموشح إلا ما يمكن أن نسميه اليوم "حداثة النص الشعري" المنفلت من كل التقعيدات البلاغية التي لا تتماشى مع جوهر الموسيقى الأندلسية. فهو عبارة عن مقاطع جعلها شعراء الأندلس مفارقة للقصائد التقليدية السائدة في المشرق على سبيل كسر رتابتها الوزنية وضيق قافيتها.
وتنقسم هذه الموشحات إلى مجموعة من الأقسام مثل "المطلع" و"القفل" و"الدور" و"البيت" و"الخرجة". أما من ناحية الجانب الموضوعاتي، فإنها لا تخرج عن بقية الثيمات والأغراض الأخرى المعروفة في الشعر العربي، إذ يغلب عليها الغزل بسبب ما كانت تلقاه بعض القصائد الغزلية من استقبال مبهج من لدن بعض الولاة والأمراء وعلية القوم داخل المجتمع الأندلسي.
عناصر فنية وجمالية
وإذا كان زرياب هو من اخترع الموشحات، فإن الفيلسوف العربي ابن باجة (1085-1138) لعب دوراً كبيراً في تقعيد هذه الموسيقى وجعلها باقية في وجدان الناس، مستفيداً من الإرث الفكري الذي تركه كل من الكندي والفارابي، عاملاً على التفكير في مصيرها وفي نظمها وعناصرها الفنية والجمالية، لكن إلى جانب هذه الوظيفة الفكرية، يورد لنا الباحث أحمد التيفاشي معلومة نادرة عن هذا العلامة بقوله "لا يلحن عندهم شعر محدث غير ما كان يفعله ابن باجة، فإنه كان يصنع الشعر ويلحنه".
ويقول ابن عبدالجليل "لقد كان ابن باجة أول من أدخل التلاحين الأندلسية إلى المغرب وقد مكنه طول استقراره بفاس من نشرها وتعليمها في ظل تشجيع الدولة الحاكمة ورؤسائها الذين لم يستنكفوا قط أن يجمعوا بين الوزارة وممارسة الفن. وإذا كانت رسالة ابن باجة في الموسيقى في عداد التراث الضائع، فقد أسعفنا التيفاشي ببعض محتوياتها، ومن ذلك طريقته في تسوية العود".
ويعتبر بعض الباحثين أنه على رغم الطابع التركيبي الذي تميزت به الموسيقى الأندلسية، فإنه لا يمكن اعتبارها إلا تراثاً موسيقياً مغربياً، بالتالي لا يجوز في نظرهم القول إنها موروثة من حضارة أخرى لكون المغرب أسهم في العهدين المرابطي والموحدي على يد عدد من الفنانين بتطوير هذه الموسيقى وجعلها تأخذ طابعاً مغربياً محضاً.