اهتزت عوالم الطاقة وعلومها ومن خلفها ربما عوالم السياسة، بالخبر عن تحقيق علماء أميركا اختراقاً علمياً ضخماً في مجال الاندماج النووي، يتمثل في إمكان تحقيقه وتوليد كميات هائلة من الطاقة بواسطة إشعال تشغيلي لا يستخدم سوى القليل من الطاقة.
للتشبيه، تنطلق السيارة عبر إطلاق شرارة إشعال صغيرة تتولى حرق البنزين في أسطوانات المحرك، فتتولد طاقة كبيرة فتندفع السيارة إلى سرعاتها.
ويذكّر الخبر بالمسار العلمي الهائل الذي لا يزال الاندماج النووي مندفعاً فيه، بما في ذلك الظلال الملتبسة للاندماج النووي البارد، لكنه يحرك ظلالاً كثيرة في عوالم السياسة والاقتصاد وصراعات الدول والمصالح، ولربما يتبادر إلى الذهن أولاً أن الخبر وتداوله والاحتفاء به يسهم في تكريس الطاقة النووية بوصفها من الطاقات البديلة الخالية من الكربون.
من سيسعد ذلك الآن أكثر من فرنسا التي تبذل جهوداً جبارة، خصوصاً إبان رئاستها الأخيرة للاتحاد الأوروبي، لفرض ذلك المفهوم في عوالم الطاقة، مع ملاحظة أن الانتقال إلى الطاقات النظيفة يفرض أولاً تعريف ما الذي يندرج تحت ذلك البند. لماذا الاهتمام الفرنسي؟
الأرجح لأن ذلك يتصل بالمفاعلات النووية المعيارية الصغيرة Modular Nuclear Reactors التي تسعى فرنسا إلى بيعها في العالم لتكون مصدراً للطاقة النظيفة، ويصعب عدم تذكر المسافة الزمنية القصيرة بين زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى أميركا والخبر المحتفي بالاختراق في الاندماج النووي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استطراداً، قد يضحك الخصم العنيد الدموي للغرب فلاديمير بوتين للخبر لأسباب كثيرة، من بينها أن روسيا تعتبر أكبر مشيد للمفاعلات النووية في البلدان غير الغربية.
ألا يذكر ذلك بمفاعلي بوشهر في إيران والضبعة في مصر مثلاً؟
وعلمياً تشارك روسيا في أضخم مشروع للاندماج النووي، مفاعل "آيتر" ITER الذي تتعاون فيه مع معظم بلدان الغرب، وهو يستند إلى تقنية تعرف باسم "توكاماك" صنعتها أيدي علماء الاتحاد السوفياتي السابق.
استطراداً، مع ما تورده إدارة الرئيس جو بايدن عن البيئة، ربما أمكن تذكر أن ألمانيا وعدت العالم بمفاعل اندماج نووي حمل اسم "شلاتلاريتور" stellarator، لكنه لم ير النور عقب الإعلان عنه قبيل مؤتمر المناخ "كوب-21". لماذا؟ لم يأت الجواب، ليس بعد.
حلم الاندماج النووي البارد لكن بحرارة الليزر
منذ أن فجرت القنبلة الذرية في هيروشيما إبان الحرب العالمية الثانية، تبدى بوضوح أن الذرات تختزن طاقة هائلة، وانطرح سؤال حول إمكان توظيفها في غير القتل والدمار.
بالطبع، في أدمغة العلماء وعلى أوراقهم كانت تلك الطاقة بادية بوضوح منذ أن صاغت عبقرية آلبرت أينشتاين المعادلة الشهيرة عن الطاقة E=mc2، وفي زمن "الحرب الباردة" تطورت القنبلة الذرية إلى قنبلة هيدروجينية تستخدم طاقة توجه إلى قلب نواة ذرة الهيدروجين فتشطرها، لتخرج منها طاقة هائلة، والأرجح أن ذلك حرك حلماً ضخماً، إذ إن الهيدروجين أبسط المواد المعروفة في الكون ويتوفر بكميات وافرة في أرجائه كافة.
ماذا لو أصبح الهيدروجين الرخيص والشائع مصدراً للطاقة النووية بدل اليورانيوم الذي يستعمل في المفاعلات الذرية، وكذلك القنابل المشؤومة، فتوجه طاقة تفجيرية إلى نواته كي تنشطر وتخرج منها سيول الطاقة؟
وفكرت عقول العلماء أيضاً في إمكان إدماج أنوية ذرات الهيدروجين لاستخراج طاقة نووية تغني عن الحاجة إلى اليورانيوم ولا تخلف نفايات نووية قاتلة وملوثة للبيئة.
في الاتحاد السوفياتي السابق صنع العلماء تقنية عرفت باسم "توكاماك" Tokamak لم تكن غير معروفة لدى العلماء في الجانب الآخر من زمن "الحرب الباردة"، وضمن سياقات متقاطعة ظهر مشروع "آيتر" الدولي الذي يعتبر أضخم مفاعل للطاقة النووية الاندماجية في العالم، ثم تكاثرت المشاريع المماثلة، بما في ذلك ما أعلنته الصين قبل سنتين.
ثمة خيط صعب يربط مشاريع الاندماج النووي كلها ويتمثل ذلك في أن "إجبار" أنوية الذرات على الاندماج يحتاج إلى طاقة ضخمة، فمثلاً لا يحدث ذلك في الطبيعة إلا في الأفران الشمسية الهائلة التي تستعمل فيها الطاقة الذرية في توليد اندماج نووي.
هل يمكن إجبار أنوية الذرات على الاندماج بصورة هادئة؟
في عام 1989 أصيب العالم بصدمة إيجابية مفرحة حينما أعلن عالمان أميركيان هما ستانلي بونز ومارتن فليشمان أنهما تمكنا من إدماج أنوية ذرية في حرارة غرفة عادية، وآنذاك خايل حلم الاندماج النووي الخالي من الكربون والنفايات والأشعة النووية الأدمغة والقلوب، خصوصاً في زمن سار فيه العالم إلى ما بدا أنه تقارب وسلام بين خصوم "الحرب الباردة".
لم تدم الفرحة طويلاً، فبعد أسابيع قليلة أُعلن عن فشل تلك التقنية، ونشرت مجلة "نيوزويك" نعياً للاندماج النووي البارد، ووصفته مجلة "تايمز" بأنه "سيرك".
إذاً العقبة الكأداء في الاندماج النووي تتمثل أساساً في كمية الطاقة اللازمة لبدء ذلك التفاعل، بمعنى كمية الطاقة اللازمة للاشتعال التشغيلي للاندماج النووي باقتباس من الاشتعال التشغيلي الذي يحدث في سيارتك كل يوم ويحرق البنزين بكمية صغيرة من الشرارات الكهربائية لكنها تولد طاقة كبيرة، وبعبارة أخرى فإن الشعلة الأولى الكفيلة بإطلاق الاندماج النووي هي العقبة الكبرى لأنها يجب أن تحدث باستخدام أقل كمية ممكنة من الطاقة.
نعم، إن الإشعال التشغيلي هو العقبة الرئيسة في تحقيق الاندماج النووي.
سارت تجارب كثيرة عن تحقيق ذلك الاندماج بين أنوية الذرات في بلدان كثيرة، وبالطبع فهي تلك التي تملك من العلم والعلماء والتقنيات والمنشآت والتجهيزات ما يتيح لها إجراء تلك التجارب العلمية المتقدمة، وبصورة نسبية لا توجد خطورة كبرى في تلك التجارب لأن الاندماج النووي إذا فشل لا ينتج منه سوى طاقة حرارية كبيرة ونيران لاهبة، لكن من دون إشعاعات ذرية قاتلة أو مخلفات ذرية فتاكة.
الوعد الضخم الآتي من أميركا
في خبر لم تتأخر وكالات الأنباء عن تداوله، أعلن علماء أميركيون يعملون في "مختبر لورانس فيرمور الوطني" أنهم استطاعوا إحداث اندماج نووي في "المنشأة الوطنية للإشعال التشغيلي" عبر توجيه حزم ليزر قوية إلى أسطوانة صغيرة بحجم الكشتبان مملؤة بذرات الهيدروجين، وللتوضيح فكل غرام تقريباً من الهيدروجين يحوي قرابة 6.02 مضروبة بـ 10 مرفوعة إلى قوة 23، أي واحداً متبوعاً بـ 23 صفراً، أي 100 سيكستيليون Sextillion من ذرات الهيدروجين، ويعرف ذلك علمياً برقم أفاغادرو، وهو مألوف لهواة الكيمياء والفيزياء والرياضيات بالطبع.
وتفصيلاً تضمنت التجربة الأميركية ضرب أسطوانة صغيرة لا تزيد على أصبع اليد مملؤة بذرات الهيدروجين الصافي بـ 192 حزمة ليزر، وتطلب توليد تلك الحزم حوالى 2.1 ميغاجول من الطاقة الكهربائية، لكنها ولدت 2.5 ميغاجول من الكهرباء، أي أن الطاقة التي قطفت خلال هذه التجربة في الاندماج النووي ساوت قرابة 120 في المئة من الطاقة التي استعملت في الإشعال التشغيلي للاندماج.
هل بات حلم الاندماج النووي وسيول طاقته الوفيرة في متناول اليد؟
الأرجح أن ما تحقق في "مختبر لورانس فيرمور" خطوة نوعية، لكن الطريق لا يزال طويلاً، ووفق تعليق من عالم الفيزياء البريطاني جيرمي تشيتندين، تثبت التجربة الأميركية أن الاندماج النووي "البارد" نسبياً في متناول اليد ويمكن تحقيقه بالفعل، وقد استدرك تشيتندين بأن تحقيق طاقة الاندماج النووي بشكل مرض يتطلب أن تكون نسبة طاقة الإشعال التشغيلي إلى ما يتولد من الطاقة أكبر بكثير، ووفق مدير مشروع الاندماج النووي في "لجنة الطاقة الذرية" في فرنسا إريك لوفيفر، فربما يتطلب الأمر عقدين أو ثلاثة قبل أن يتحول الاندماج النووي إلى طاقة عملية تستخدم في حياة البشر اليومية.
هل يكون الأمر كذلك؟ أم ربما تفاجئنا عقول علمية أخرى بمفاجآت أكثر سروراً لإنقاذ البشر والحضارة من التلوث والإشعاعات الذرية والنفايات النووية؟ سؤال قد تحتاج إجابته إلى بعض الصبر.