بداية لا بد من الإشارة وتأصيل البعد الذي تقوم عليه هذه الورقة، الذي ينطلق من مسلمة أساسية، وهي التعامل مع النظام الإيراني كمنظومة سلطة سياسية تتخذ من الدين هوية لها، لذلك فهي تدور حول قراءة الحدث الإيراني من زاوية نقد السلطة بعيداً من هويتها الدينية، أي التعامل مع نظام يعتمد في سياساته آليات سلطوية لا علاقة لها بالدين، وبعيداً من صفة القداسة التي حاول ويحاول تكريسها، ومن المفترض أن تجعله محصناً أمام النقد والانتقاد وحتى المعارضة.
هزيمة رفسنجاني
عندما أخذ المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي ومنظومة السلطة عام 2005 قرار إلحاق الهزيمة بهاشمي رفسنجاني الذي يعد أحد أعمدة النظام والثورة التاريخيين في الانتخابات الرئاسية أمام المرشح محمود أحمدي نجاد الذي تم اختياره مسبقاً، كان القرار بمثابة إعطاء أمر عسكري لأحد جنود المرشد بإطلاق النار على الجنرال الذي كان حتى الأمس صمام الاستقرار والبقاء للنظام والثورة، ولم يكن يدور في خلد من كان وراء هذا القرار أن هذا الجنرال كان يشكل خط الدفاع الأول عن الجنرال الذي يقف خلف الجندي الذي أطلق النار، وأن استهداف الجندي لاحقاً ستصل شظاياه للجنرال الذي يدعمه، ويسهل عملية استهدافه لاحقاً بعد أن تسقط الخطوط الأولى لدفاعاته.
النظام أو السلطة الساعية للاستحواذ على مفاصل القرار وتأمين مصالحها، وإلغاء وإقصاء المنافسين وسد مصادر الخطر التي قد تهدد مركزية السلطة وصلاحيات ومخططات المرشد في بناء حكومة إسلامية مطلقة الصلاحية، وتمهد الطريق للتخلص من الآليات الشكلية للديمقراطية الموروثة، وصلت إلى حالة من الانتشاء بما حققته على هذا الطريق بعد وصول إبراهيم رئيسي إلى رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية، بعدما مهدت لذلك بالسيطرة على السلطة التشريعية والإصرار على استبعاد أي إمكانية أو احتمال وصول أي من المعارضين أو غير الموالين.
دائرة الخطر
هذه السياسات والتوجهات تمت هندستها وإخراجها على يد سلطة غير منتخبة يختارها المرشد هي "مجلس صيانة الدستور"، الذي من المفترض أن يكون مشابهاً في آلياته للمجالس الدستورية في البلدان الديمقراطية والأنظمة الدستورية، إلا أن النسخة الإيرانية حولته إلى مقصلة لاستعباد وإقصاء المنافسين أو مصادر الخطر من خلال لجنة دراسة "أهلية المرشحين" لانتخابات رئاسة الجمهورية والبرلمانية، أو بتسميتها الفارسية "نظارت استصوابي"، أي استصواب من يحق له الترشح ويملك الأهلية للمشاركة في الانتخابات البرلمانية ورئاسة الجمهورية من عدمها حسب معايير النظام ومحدداته التي تخدم مشروعه السلطوي.
و في ظل الخوف من التغيير أو بتعبير مختلف، محاولة النظام الابتعاد من دائرة أي خطر أو مفاجأة غير مطلوبة وغير مرغوب بها تعكر عليه المسار الذي رسمه للسلطة، عمد المرشد الأعلى لإعادة تكليف الشيخ أحمد جنتي على الرغم من تجاوزه سن السادسة والتسعين برئاسة مجلس صيانة الدستور، وهو الشخص الذي سبق له أن سوغ قرار استبعاد رفسنجاني من السباق الرئاسي لكهولة السن، إضافة إلى المطالعة التي تقدم بها وزير الاستخبارات السابق حيدر مصلحي الذي أكد في تقرير أمام هذا المجلس أن عودة رفسنجاني إلى دائرة القرار ستؤدي إلى خلط أوراق النظام والأهداف التي يسعى إلى إرسائها في السلطة.
حتى الأمس القريب، وإلى ما قبل التاسع من شهر يوليو (تموز) الماضي، كان النظام وأجهزته ينظرون إلى حالة التململ والغضب التي تبرز بين حين وآخر في الشارع الإيراني نتيجة الأوضاع الاقتصادية بأنها لا تشكل مصدر قلق أو خطر على النظام والسلطة، لاعتقاده بالقدرة على التعامل معها ومع تداعياتها وكل الأصوات التي تصدر عنها مهما كانت عالية وحادة في انتقادها للحكومة وأجهزتها، بعيداً من أي إشارة للمرشد الأعلى.
حجم القلق
لكن قرار اعتقال مصطفى تاج زاده القيادي الإصلاحي والمعاون السياسي لوزير الداخلية في عهد الرئيس محمد خاتمي وأحد الأسماء التي رشحها المجلس الأعلى للأحزاب الإصلاحية للانتخابات الرئاسية في مواجهة رئيسي ورفضه من قبل مجلس صيانة الدستور برئاسة جنتي، كشف حجم القلق والتوتر التي يعيشه النظام والأجهزة الأمنية، بخاصة وأن النقاشات والمواقف التي شكلت المادة السياسية لنشاط تاج زاده كانت تدور حول ضرورة إعادة النظر في مباني النظام الإسلامي وصلاحيات المرشد الأعلى بصفته "الولي الفقيه" المطلق الصلاحية والسلطة، انطلاقاً من كونه المسؤول الأول والأخير عن كل الإجراءات والسياسة الداخلية الاجتماعية والاقتصادية والمالية والثقافية، والخارجية واستراتيجية النفوذ الإقليمي وعرقلة التوصل إلى اتفاق مع المجتمع الدولي حول البرنامج النووي الذي يساعد في الخروج من دائرة العقوبات.
ما ميز تاج زاده، أنه امتلك الجرأة للحديث مباشرةً ومن دون مواربة أو تلميح، مصوباً على موقع المرشد والولي الفقيه، الأمر الذي يخرج عن قدرة المرشد وأجهزة النظام على تحمله، نظراً لما يؤدي إليه من نتائج تحطم القدسية التي أحيط بها هذا الموقع، ويضعه في معرض النقد والاتهام وتحمل المسؤولية، أي إن الجنرال الذي كان يقف خلف الجندي بات في معرض التصويب والاستهداف وهذا ما لا يمكن القبول به.
خلط الأوراق
على رغم تصاعد حملة الترهيب والملاحقة والتهديد للأصوات المعارضة وفتح باب السجون أمام عديد من السياسيين والصحافيين، التي كانت تسير في السياق الذي رسمته الأجهزة لقمع الأصوات المعارضة لسياسات النظام والتلويح لها بما يمكن أن تواجهه، جاءت حادثة مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني داخل مركز "شرطة الأخلاق" لتخلط أوراق النظام والأجهزة التي كانت تسعى لتمرير المرحلة بما فيها من مسار تفاوضي وما له من انعكاس على الوضع الاقتصادي ورهانات النظام على توظيفها لتحسين وتجميل صورته أمام الداخل كمنقذ يملك الجرأة لاتخاذ القرارات الاستراتيجية.
وإلى جانب الشعار الأساس والمحوري الذي شكل المطلب الاجتماعي الثقافي للحراك الذي انفجر بعد مقتل مهسا أميني، وهو منح المرأة حرية الاختيار بين ارتداء الحجاب ونزعه، وتلخص في معادلة "المرأة، الحياة، الحرية"، فإن صوت المطالبين بتغيير النظام والاعتراض على المنظومة الحاكمة لم يقف هذه المرة عن شعار "الموت للديكتاتور"، بل انتقل للتركيز على استهداف المرشد وتحميله مسؤولية عمليات القمع والقتل التي تقوم بها الأجهزة التابعة للنظام والعناصر الأمنية مجهولة الهوية التي يمكن تسميتها مجازاً بأصحاب "القمصان السود" كما في الأدبيات الصحافية اللبنانية حين يراد وصف أنصار "حزب الله".
قد تكون المرة الأولى التي يفرض الشارع على المرشد بما يمثله من موقع وصلاحيات والقدسية التي حاول النظام تكريسها وإضفاءها على موقعه كالولي الفقيه، أن يسمع الانتقادات مباشرةً من الشارع، وحتى من الناشطين السياسيين والاجتماعيين الذين اعتمدوا في السابق توجيه الانتقاد للمنظومة والابتعاد من التعامل المباشر مع موقع المرشد ودوره.
الصراع الخفي
أصوات الشارع التي وصلت إلى أروقة حسينية الإمام الخميني وغرف قصر المرمر، مقر إقامة المرشد وسط العاصمة طهران، أخرجت الصراع داخل النظام من دائرة المناكفات التي كانت تحصل بين المرشد ورؤساء الجمهورية، بخاصة محمد خاتمي وحسن روحاني في العلن، ومع رفسنجاني خلف الكواليس، لا سيما حول تفسيرات الاستراتيجيات السياسية والمصلحية وحتى الدينية في ثنائية النظام والدولة، أخرجته إلى دائرة أوسع، بحيث أصبحت ارتدادات ذلك الصراع أكثر تأثيراً، وتبعث على القلق الذي بات واضحاً على أداء المرشد ودوائر القرار المنسجمة معه والمنفذة لإرادته وتوجهاته.
حراجة الموقف الذي يواجهه النظام في مواجهة هذا الحراك الاجتماعي الثقافي، انعكست على أداء الأجهزة والقيادات والمواقع التابعة له التي تشكل في مجموعها منظومة السلطة والحكم، ولم تعد الطاعة التي اقتربت من توصيف "الطاعة الستالينية" التي كانت للمرشد، كما في السابق، الأمر الذي جعل من السهل التوقف ملياً أمام التردد الذي يسيطر على دوائر "الحرس الثوري" في التعامل مع حراك الشارع والمطالب التي يرفعها، بخاصة أن عقيدته العسكرية والأيديولوجية تقوم على محور وأساس الدفاع عن الثورة والنظام الإسلامي في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية، الأمر الذي دفع المرشد إلى إعادة التأكيد أكثر من مرة في خطاباته الأخيرة على حتمية الانتهاء والقضاء على حالة "الفوضى وأعمال الشغب التي يقوم بها عملاء وأدوات أجهزة الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية والإقليمية".
تحرر الحوزات؟
تردد قوات الحرس في التدخل المباشر، على العكس من الأحداث السابقة أثناء رئاسة حسن روحاني، انسحب أيضاً على موقف المؤسسة الدينية التي اختارت الإمساك بالعصا من وسطها، فمن ناحية تتمسك بإسلامية النظام ومن ناحية أخرى تحدثت عن تقصير الدولة والنظام في معالجة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية للمواطنين، لعلها وجدت في ما يحدث وما يتعرض له موقع الولي الفقيه فرصةً لاستعادة هامش الاستقلال الذي كانت تتمتع وتتميز به الحوزة العلمية، بالتالي الخروج من الإطار الذي سبق ورسمه المرشد لهذه الحوزات في إحدى خطبه عندما أكد أن "على رواد الحوزات العلمية أن يعتبروا أنفسهم جنود النظام، يعملون من أجل النظام، ويبذلون أنفسهم في سبيل النظام". وكان يشير إلى نفسه عند ذكر النظام وكأنه يريد تأكيد معادلة أنه "هو النظام والنظام هو" وهي معادلة كثيراً ما ترددت في عديد من خطبه بتعابير وصياغات مختلفة.
إحساس "التخلي" المتأتي من تردد "الحرس" في التدخل لحسم الموقف وإنهاء الاعتراضات، قد يكون وراء خطوة المرشد في اللجوء إلى استنهاض دور التعبئة الشعبية "الباسيج" وإعادة تضخيم وتسليط الأضواء على دورها في الدفاع عن النظام وحمايته من المؤامرات التي يتعرض لها من الداخل والخارج، فالأجهزة والمؤسسات التي استخدمت سلاح اتهام الآخرين بـ "معاداة المرشد" بهدف قمع المعارضين وإقصائهم من الحياة السياسية، تسعى إلى إبعاد نفسها من دائرة الاستهداف أو تقليل الأثمان التي قد تدفعها، وهذا الأمر بدأ ينسحب على أجهزة الأمن والاستخبارات، التي هبت منذ البداية وبعد 40 يوماً من مقتل مهسا أميني في البيان المشترك لجهاز مخابرات الحرس ووزارة الأمن لتقديم السردية الأمنية التي تنسجم مع رؤية المرشد، إلا أنها لم تتردد في اعتقال ابنة شقيقته، فريده مرادخاني، كريمة رجل الدين الشهير الشيخ علي طهراني المعروف مع عائلته بأنهم انتقلوا إلى صفوف المعارضة بعد انتصار الثورة، ولم يتردد طهراني حينها في مهاجمة المؤسس (الخميني) والهروب عام 1984 إلى العراق وتولي مسؤولية القسم الفارسي في إذاعة بغداد واستخدامه لمهاجمة النظام في طهران، ثم عمد إلى التقرب من جماعة "مجاهدي خلق"، ثم عاد لاحقاً إلى إيران في عام 1995 ليحكم عليه بالسجن 20 سنة، ثم يطلق سراحه بعد عشر سنوات، لكنه لم يتراجع عن موقفه المعارض للنظام بقيادة المرشد خامنئي حتى السنوات الأخيرة من حياته ووفاته في 19 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2022، وكأن هذه الأجهزة تريد إيصال رسالة مفادها أن الأمور وصلت إلى مستويات لم يعد بالإمكان إخفاؤها، وأن الانقسام وصل إلى الدوائر الخاصة والمقربة والقريبة من المرشد، فضلاً عن إمكانية أن يكون الهدف من وراء هذا الإجراء هو الإيحاء بأن هذه الأجهزة لن تتردد في اتخاذ أي خطوة للدفاع عن المنظومة والنظام، وأن اختيار التوقيت لتنفيذ قرار الاعتقال يصب في سياق أهداف هذه الأجهزة، بخاصة وأن القضاء سبق أن أصدر قراره بناءً على قضية لا علاقة لها بالحراك الاعتراضي، بل بناءً على مشاركة السيدة فريدة في لقاء مع أرملة الشاه السابق فرح بهلوي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هواجس التقصير
النظام أو منظومة السلطة والمرشد الأعلى، وفي محاولة لإبعاد الأنظار عن الأسباب الداخلية والتحديات الثقافية للأزمة التي يواجهها، سعى إلى تضخيم العامل الخارجي وتقديم سردية تقوم على وجود مؤامرة تستهدف أساس النظام وموقعه ودوره ونفوذه الإقليمي، وأن أعداءه بخاصة "العدوين الأميركي والإسرائيلي، يسعيان إلى تقسيم إيران"، وهو هاجس لا شك يسيطر على هذه المنظومة نتيجة لمعرفتها بحجم التقصير والحيف الذي ألحقته سياسات النظام بمناطق الأطراف التي تشكل مناطق انتشار الأقليات القومية والعرقية، آذرية وكردية وبلوشية وعربية.
وهذا الأمر سمح للمؤسسة العسكرية بالتركيز على تحديات هذه الأطراف، وتضخيم دور الأحزاب الانفصالية التاريخية وأجنحتها المسلحة، واختراع معركة معها لقطع الطريق على أي مصدر محتمل للخطر.
البحث عن مخارج وجهود إطفاء الحراك الشعبي، وعجز أجهزة النظام عن حسم الموقف، ربما كان العامل الكامن في خلفية الحوارات التي حصلت أخيراً، بين قيادات إصلاحية وسكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني ورئيس السلطة القضائية محسني ايجئي، وما دار من كلام عن تواصل بين نجل المرشد مجتبى وأفراد من عائلتي المؤسس الخميني والشيخ رفسنجاني، سارعت دوائره إلى تكذيبها وطلبت من المعنيين التكذيب أيضاً، ما يكشف عن عدم تحقيق أي خرق يقنع المعارضة الداخلية في تحمل فاتورة تفكيك الحراك، بخاصة وأن هدف المنظومة الحاكمة من هذه الخطوة هو تمرير المرحلة وتفريغ الشحنة الاعتراضية للشارع من أجل التقاط الأنفاس، ومن ثم الانقلاب على أي تفاهمات وتنازلات قد تكون قدمتها للإصلاحيين في الغرف المغلقة، بخاصة وأن طبيعية النظام والمرشد لا تسمح له بتقديم أي تنازلات قد تعيد فرض الطرف الآخر شريكاً في السلطة وتفتح الباب أمام تنازلات أخرى.
صراع من نوع آخر
وليس بعيداً من الشارع وحراكه، فإن صراعاً وحراكاً من نوع آخر يدور في كواليس النظام حول مستقبل السلطة والخلافة، هذه المرة داخل التيار المحافظ والحامل للنظام، ومن أولى نتائجه وآثاره أنه أخرج الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي من السباق للعب دور في مستقبل إيران والنظام بناءً على إمكانية أن يكون أحد المرشحين لخلافة المرشد، بعدما تحول الهمس حول فشله في إدارة الدولة إلى مطالبة علنية بإعادة الهيكلة، وحتى إلى سحب الصلاحيات التنفيذية منه والإبقاء عليه رئيساً رمزياً، حتى لا يشكل قرار عزله ذريعةً لفتح ملف صوابية خيارات المرشد وقراراته، وقد يكون هذا الأمر هو العامل الذي يدفع عديداً من أقطاب هذا التيار للابتعاد والنأي عن التورط في موقف متشدد، لكي لا يتحملون مسؤولية أي إجراء قد يؤثر في إمكانية انتقال السلطة إلى أحدهم بخاصة المؤسسة العسكرية الممثلة بالحرس الثوري، التي قد تكون مجبرة في حال انفلات الأمور على التدخل الحاسم وقلب الطاولة على الجميع والإمساك بالقرار بكل تفاصيله، ما يتيح لها إيصال من تريده إلى موقع القيادة، لكنه هذه المرة لن يكون بصلاحيات مطلقة، بل محكوم بسقف التسويات التي أوصلته.
تحد حقيقي
يمكن القول إن الحراك الاعتراضي الذي تشهده إيران منذ قرابة الأشهر الثلاثة، هو تحد حقيقي للنظام وهويته الدينية والثقافية، لجهة أن المطالب التي يرفعها الشارع تحمل هوية ثقافية مختلفة تعارض أيديولوجية النظام، وقد لا يكون بمقدور الفاعلين في هذا الحراك الوصول إلى النهايات التي يريدونها، وقد تستطيع المنظومة السيطرة على الأوضاع عاجلاً أم آجلاً، إلا أنه استطاع تكريس حقائق لا يمكن العبور عنها، في مقدمتها أن منظومة السلطة ستكون مجبرة على التعامل مع مطالبهم وهواجسهم والاعتراف بها، بالتالي البحث عن تسميات أخرى أو كما في الفقه والتشريع، عن عناوين ثانوية، لتوصيف التنازلات التدريجية التي ستكون مرغمة على تقديمها، والتي قد تفتح الطريق أمام تنازلات أخرى كما حدث في موضوع الحجاب، الذي تراجعت قبضة السلطة في تطبيق إلزاميته وتحول إلى أمر واقع اختياري، فيما سينسحب القانون المتعلق به إلى الظل ويدخل في حالة التعليق أو المسكوت عنه.
هذا الحراك كشف حقيقة لا يمكن إغفالها، وهي أن التغيير في إيران محكوم بالفعل الداخلي، لأن الداخل هو الأقدر على اجتراح آلياته وأدواته، بالتالي لم تكن المعارضة في الخارج بحجم التحدي ولم تستطع مضارعة فعل الشارع الداخلي، وفشلت في أول اختبار حقيقي يحمل إمكان الوصول إلى إنجاز واضح.