Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شخصيات أشبه بالدمى في رواية "عصور دانيال" الكافكاوية

أحمد عبد اللطيف يجعل من الموسيقى خلفية سردية

الدمى وما توحي به روائياً (موقع فن الأراجوز)

قبل عصور شرعت الموسيقى بالظهور كعلامة فارقة للحداثة الروائية العربية، كما في روايات غائب طعمة فرمان (خمسة أصوات) أو جبرا إبراهيم جبرا (السفينة) أو مطاع الصفدي (جيل القدر) أو نجيب محفوظ (ميرامار). وقد تعزز هذا الظهور وتطور من بعد، سواء في البناء الروائي أم في الشخصية الروائية، كما في روايات أسعد محمد علي (الضفة الثالثة) أو إدوار الخراط (رامة والتنين) أو لطفية الدليمي (عشاق وفونوغراف وأزمنة) أو إبراهيم عبد المجيد (أداجيو) وسواها كثير. ومما اعتور هذه العلامة للحداثة الروائية: الاستعراض أو الإثقال أو التزويق والانبهار، وبخاصة في ما يتصل بالموسيقى الغربية.

لأن الموسيقى عامل حاكم في رواية أحمد عبد اللطيف الجديدة" عصور دانيال في مدينة الخيوط"، آثرت أن أقدم للحديث عنها بهذه السطور. فمنذ العتبة الأولى يحضر شوبان وتحضر سيمفونية رومانس لارجيتو، ونقرأ: "هذه ليست معزوفة موسيقية، لكنها حنين شخص للعودة إلى ذاته". وبعد لأيٍ تتسرب هذه السيمفونية في الظلام مثل عزف كوني. وفي لحظة ما تراءى للراوي (الفقرة 10) أنه هو شوبان نفسه في الهواء، في المسافة بين البناية التي يسكن فيها وجارتها، كما تراءى له أنه يعزف السيمفونية بنفسه. وقد تنبه الراوي من بعد، إلى الشبه بين قرينه البطل الثاني ــ أم الأول؟ ــ للرواية، دانيال، وبين شوبان نفسه، وذلك في فيلم: "أغنية لا تنسى" (أي سونغ تو ريميمبر)؟

من قام بدور شوبان ــ وهو كورنيل وايلد ــ ليس الشبيه. ولئن كان الراوي قد خاف من ظله على السقف، إذ بدا وحشاً "رأيت فيه ذاتي، وقلت لنفسي أنا ذلك الوحش الذي لا يظهر إلا في الظلام". فالرومانس لارجيتو تظل تصدح، بينما دانيال يكتب سريعاً على وتيرتها. وهنا يبرق ما يبلور أو يجلو العلاقة بين الراوي ودانيال ــ أم يزيدها تعقيداً؟ ــ فالعالم انتهى بينما الرومانس لارجيتو مستمرة، مستمر أيضاً جهل الراوي بمنبع السيمفونية، لكن شبح شوبان الذي يشبه الراوي ويشبه دانيال اختفى.

100 متر

حسناً، الراوي هو دانيال ودانيال هو الراوي، لكن مئة متر تفصل بينهما، بينما يسمع الراوي صوت دانيال يستنجد هاتفاً: "يا دانيال أنقذني يا دانيال". وقد سمع الراوي عواء الكلب كأنما هو صوت دانيال. وسوف ينقذ الراوي حقيبة دانيال الذي قتل برصاصة، بينما قتل الآخرون ذبحاً، والراوي يجلجل: "لكن دانيال هو ظلي، وهو شبحي. هو جسدي، ودانيال هو القطعة التي مني غير أنها منفصلة عني".

قبل أن نتابع هذا الإلغاز الذي يعدد الدلالات ويزيدها غموضاً وتذريراً، يحسن أن نتأمل البناء الروائي، حيث كان مبتدأ الرواية هو منتهاها (في العصر الرابع الأيام الأخيرة في حياة دانيال). فالرواية تنفتح على مشهد البشر/الدمى إذ يطلون/تطل على الميدان: أربعون جثة حول النافورة، عارية ومتشابكة الأيدي، وأعمدة الإنارة هي سلسلة من الجثث المنصوبة. وكان المطر قد أغرق المدينة قبل ثلاثة أيام.

الناس إذاً هم الدمى، إنه عالم من دمى، وإنها الحضارة الدميوية. إنها الكابوسية، أين منها الكافكاوية؟ هي ذي دمى آباء، دمى أمهات، دمى أطفال، أسر من الدمى: "المرضى الدمى والأطباء الدمى والمساجين الدمى والسجانين الدمى". والزمن من الإلغاز أيضاً، فالمستقبل: ما بعد الظلام، بعد شهر من الآن أو سنة، فالراوي لا يعرف تقدير الزمن، والشمس طلعت بعد يوم أو سنة، لا يعرف هذا الذي سيصير جهله بالزمن واحداً من إيقاعات الرواية، ومثله العبارة التي تذكرنا بالجثث والذبح: "وفي ليلة الحادثة".

من العصر الرابع ننتقل إلى العصر الثالث (تقرير عن دانيال في الأرشيف السري)، حيث يظهر الراوي شاباً يعمل في مصلحة الأرشيف المركزي في ديسمبر (كانون الأول) عام 2001، لسانه مبتور، فقد قطعه والده عقاباً لابن العاشرة. ويتطور هنا مما سبق في العصر الرابع ــ لمن يشاء. الفصل الأول ــ فالراوي لم يحمل ساعة أبداً "ولا كنت أعرف تقدير الزمن". وقد طلبه الأرشيف السري الذي هو قلب الدولة "بعد يومين أو أسبوع، لا أعرف كيف، فأنا لا أعرف تقدير الزمن". والموظف الذي استقبله خاطبه: "وراي يا دانيال". ولنتذكر المذبحة والمذبوحين الأربعين، فعدد زملاء الراوي أو دانيال في قلب الدولة أربعون والمدير هو الصفر، أما الراوي فهو الرقم 41، الذي يبدو له الآخرون موتى لا يزالون أحياء. وسيتدرب على (دجتلنة) مستندات صغيرة، ويتخصص بالملفات الجنسية. وفي فبراير (شباط) 2002 يأتيه الأمر في المنام بقراءة ملفه/تاريخه: "القراءة جسد بين ماضيَّ ومستقبلي".

عصر تلو عصر

من العصر الثالث تعود الرواية إلى "العصر الأول: تقرير دانيال الحقيقي أو العكس". ويقوم هذا الشطر من الرواية على أرشيف دانيال، كما يسرد فيه الراوي قصص طفولته وطفولة دانيال، ويظهر هنا ثالثهما إبراهيم الذي اعتدى عليه معلمهم، فقضى، كما نصب دانيال للمعتدي فخاً في طريق السيارات ليموت كما مات إبراهيم، وقد التبس عليّ هنا أن يكون إبراهيم أكبر من دانيال والراوي، كما يقول الراوي الذي يضيف بعد أسطر أن إبراهيم ودانيال "كانا من السن نفسها".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من الآن فصاعداً، وبعدما بدا أن بناء الرواية قد انتظم عصراً فعصراً، من الرابع إلى الثالث إلى الأول، يبدأ هذا الانتظام بالتخلخل الذي يبلغ حد التتويه، فيعود الراوي إلى العصر الثالث (دانيال في الأرشيف) ليروي أن السلطة التي يعمل معها وصار جزءاً منها "تعرف كل شيء عن كل شيء وعن كل أحد". ثم يُستأنف الفصل الأول باعتراف دانيال لأبيه بمؤامرته على معلمهم، فيصفعه أبوه، فينبتر لسانه. وبعد العقاب صار دانيال يخرج مع الراوي الذي يشير إلى رجل ويقول إنه دمية، و: "هذه البنت دمية. هذا الولد دمية. هذه المرأة دمية. وكان يشير إلى أعلى ويسألني: عن أحلام الراوي بعدما "عزّل" دانيال من الحي. فالراوي يحلم بمدينة دمى متكاملة كان فيها مع إبراهيم ودانيال، والسماء مرصعة براحات يد كبيرة، بأصابع مهولة أكبر من الشمس نفسها "وكان يتدلى من الأصابع خيوط لا نهائية، في نهاية كل منها عقدة ملفوفة حول رقبة دمية".

متأخراً يأتي العصر الثاني (دانيال قبل وصوله إلى الأرشيف)، حيث يستعيد الراوي تاريخ أبيه، ثم يُستأنف العصر الثالث، حيث ينبش الراوي/دانيال في ملفات الأرشيف، ويختار ضحية، فيسلمه ملفه مقابل مكافأة، ثم يقتله، مذكراً ببداية الرواية. ويقضي الراوي/دانيال بعد كل ضحية ساعات على الجسر، متابعاً حركة السمك حول الطعم، ويسمع الرومانس لارجيتو "فتتسرب المزيكا إلى قلبي كالماء البارد وأشاهد أمامي شوبان وهو يعزفها على صفحة النهر، وأقول لنفسي يا شوبان كم أشبهك بوجهك النحيف وتسريحة شعرك وأقول لنفسي كل ما في الحياة مزيكا بعضها يخلق الجمال وبعضها يتخلص من القبيح ويا شوبان أعلم أني أموت في مثل عمرك القصير".

المدينة السفلية

تقوم في رواية أحمد عبد اللطيف المدينة التي سكانها عرائس ماريونت، وتحتها المدينة السفلية، مركز تحريك خيوط سكان المدينة الفوقية. وبذا تنادي هذه الرواية الروايات التي انتظم فضاؤها في مدينة فوق الأرض وأخرى في باطنها، مثل رواية إبراهيم الفرغلي (معبد الحرير) ورواية خيري الذهبي (المكتبة السرية والجنرال). ولا يكتمل اللعب في رواية أحمد عبد اللطيف بما سبق. فدانيال كرس حياته للكتابة، وهي ذي رواية، يقرأ منها الراوي الذي ينظّر للكتابة الروائية فينصّ على أن الفصول الأولى في رواية ليست إلا مصافحة القارئ والترحيب به. ولما فتح الراوي حقيبة دانيال عثر فيها على سي دي مدوّن عليها "رومانس لارجيتو"، وعلى ظرف فيه رزمة أوراق بدأ بقراءتها، وهنا ينتهي القسم الأول من "عصور دانيال في مدينة الخيوط" ويبدأ القسم الثاني، أي ما رأينا من العصر الثالث، ونحن إذن أمام رواية في رواية في أرشيف في رواية في متاهة سردية تنتهي بأن سادت في المدينة معزوفة رومانس لارجيتو، فيتساءل الراوي/دانيال: "هل تصدر من رأسي؟ أم صارت معزوفة الكون؟

وأُلفِتُ أخيراً إلى أن أحمد عبد اللطيف يوالي هنا ما سبق أن جربه في روايته "مملكة مارك" و"اليأس" حيث يغيِّب علامات الترقيم وتكون للسرد سيولته وتدفقه، كما في مواطن جمة وطويلة من رواية "عصور دانيال في مدينة الخيوط"، مما دعوته بصيغة السبيكة، وسبق إليه السابقون: صنع الله إبراهيم ــ هاني الراهب ــ إدوار الخراط، وآخرون من بينهم كاتب هذه السطور.

وقد قطعتْ علامات الترقيم مرة بعد مرة السيولةَ والتدفقَ في "عصور دانيال في مدينة الخيوط" التي عثر عليها الراوي في حقيبة دانيال بلا علامات ترقيم. وبلا علامات الترقيم جاء أيضاً العصر الأول "تقرير دانيال الخيالي عن دانيال الحقيقي أو العكس". أما "تقرير دانيال عن دانيال" من العصر الأول فتحضر فيه علامات الترقيم.

أطلق أحمد عبد اللطيف لمخيلته العنان. وسواء صح أم لم يصح ما تراءى له من المبالغة في التجريبية حد التتويه، تظل الرواية إضافة هامة ومجددة، وبخاصة بما كان لها مع الموسيقى، وما كان للموسيقى معها شأن روايات "سيدة المقام" لواسيني الأعرج، ومحمود عبد الغني "معجم طنجة" وجمال الغيطاني "خلسات الكرى" وربعي المدهون "مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة" وسواهم.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة