قد يكون من الصعب اعتبار الإيطالي فرانكو زيفيريللي واحداً من كبار المجددين في الفن السابع خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، ولكن سيكون من غير الإنصاف إنكار الدور الكبير الذي لعبه خلال العقود الأخيرة من حياته في التقريب بين المسرح والأوبرا من جهة والسينما من جهة أخرى، وأكثر من هذا، في تحريك مخيلة الناقد الأميركي الكبير والراحل لاحقاً روجير إيبرت إلى حد أن وصفه في مقال نشره عام 1968 عن اقتباسه مسرحية "روميو وجولييت" الشكسبيرية في فيلمه الأشهر، بأنه "السينمائي الذي حقق أكثر الأفلام المقتبسة عن مسرحية لشكسبير إثارة"، فيما كتب ناقد آخر يقول إن الأفلام التي اقتبسها زيفريللي عن مسرحيات لشكسبير عادت لتؤكد أن هذا الأخير إنما كان أعظم كاتب للسيناريوهات "السينمائية" في تاريخ هذا الفن. ولنضف هنا على أية حال أن زيفريللي كان من أعظم الفنانين الذين صالحوا بين الموسيقى كفن لا يستهدف مجرد تزيين الأفلام والسينما. ولم يكن ذلك غريباً على فنان ولد في أحضان الفنين معاً وقد احتواهما المسرح في بوتقة واحدة، وتحديداً في جوار مدينة فلورنسا ليجد المؤرخون لاحقاً نسباً بينه وبين واحد من أشقاء ليوناردو دا فنشي، ويكتشف هو لاحقاً أن أمه التي أنجبته من علاقة غير شرعية بأبيه المتزوج وكانت هي بدورها متزوجة من غير ذلك الأب، أطلقت عليه ومن دون أن تقصد ذلك، اسماً مستقى من إحدى أوبرات موتسارت وإن محرفاً بعض الشيء. فالاسم في الأوبرا هو زيفريتي تحول إلى زيفريللي لخطأ ارتكبه مسجل الأحوال الشخصية الذي لم يكن يعرف شيئاً عن موتسارت بالطبع.
في ظل عملاقين
مهما يكن من أمر، عاش زيفريللي كل حياته الفنية في ظل موتسارت وشكسبير. وهو، على رغم ارتباطه مبكراً بالسينمائي الكبير لوكينو فيسكونتي الذي كان بدوره سينمائياً ومسرحياً ورجل أوبرا كبيراً، وعمل زيفريللي مساعداً له في أول أفلامه "الأرض ترتعد"، مشتغلاً في الوقت نفسه على الأزياء والديكورات، وعلى رغم عمله مع دي سيكا وروسلليني وهما من أساطين "الواقعية الجديدة" في السينما الإيطالية، كان المسرح والأوبرا مدار شغفه الأكبر. وتحديداً المسرح الذي كان منه منطلقه إلى العالمية حتى في عالم السينما، تحديداً منذ عام 1976 حين كتب سيناريو يكاد يكون مسرحاً مؤفلماً لمسرحية شكسبير الكوميدية "ترويض النمرة" وهو يأمل أن يجمع ما يكفيه من المال لتحويله فيلماً يجمع فيه صوفيا لورين مع مارتشيلو ماستروياني، لكنه إذ عجز عن تحقيق ذلك الحلم الذي كان داعبه طويلاً، هبطت عليه نعمة من السماء، إذ وصلت أخبار المشروع إلى الزوجين إليزابيث تايلور وريتشارد بورتون وكان يعيشان حكاياتهما الصاخبة في الحياة بين مد وجذر، فوجدا أن المشروع يلائمهما تماماً وسيغري الملايين من متفرجيهما، فمولاه ليكون مدخله الحقيقي إلى السينما الشعبية وحتى قبل عام من دخول "روميو وجولييت" على الخط. وهكذا بصيغة أمينة لشكسبير أستاذه الكبير لا تهتم من قبل زيفريللي بأية تجديدات في لغة السينما، وجد شكسبير لنفسه على شاشة ذلك الشاب الإيطالي الموهوب والأمين للنصوص، حياة جديدة على الشاشة. ونعرف كم أن فيلم "روميو وجولييت" على طريقة زيفريللي شكل ظاهرة جمالية وجماهيرية مدهشة في حينه، ويمكننا القول إن حكم الناقد إيبرت لم يكن بعيداً من الصواب. ولكننا نعرف أيضاً كم كان زيفريللي موفقاً في ذلك التوفيق الذي حققه بين السينما والمسرح. وهنا لا بد أن نذكر ما حدث بين عام تحقيق "ترويض النمرة" والعام التالي له الذي سيشهد فورة "روميو وجولييت". ففي تلك الأشهر حدث أن غمرت مياه فيضانية منطقة فلورنسا حيث كان زيفريللي يصور "ترويض النمرة" مدمرة مباني بأكملها، فما كان من زيفريللي إلا أن اصطحب الفريق العامل معه ليحقق فيلماً وثائقياً عن الفيضان وما تسبب به. وهو في ذلك الفيلم رسخ مكانته كفنان متعدد المواهب بالتأكيد.
في حمى شفيع الفقراء
ومع ذلك ظلت موهبته مسرحية وأوبرالية في المقام الأول، ولعل خير دليل على ذلك الإخفاق الذي سيكون من نصيب معظم الأفلام الروائية الطويلة التي حققها – نتحدث هنا بالطبع عن الإخفاق الفني لا الجماهيري، وذلك لأن زيفريللي بقي سنوات طويلة قادراً بالسمعة التي كانت له على اجتذاب جمهور عريض هو الجمهور نفسه الذي فضل دائماً "شكسبيرياته" على شكسبيريات أورسون ويلز وحتى كينيث براناه وربما أيضاً لورانس أوليفييه، مع أن من المتعارف عليه أن شكسبير اتسم لدى هؤلاء بالانتماء إلى أرفع مستويات الفن! ومهما يكن إذا كنا نريد أن نبحث عن نخبوية ما في فن زيفريللي علينا أن نبارح عالمه السينمائي وأفلاماً شعبية له مثل "شاي مع موسوليني" أو "البطل" أو حتى فيلميه التاريخيين الدينيين اللذين جمع فيهما بين أداء تلفزيوني رائع ("مسلسل يسوع الناصري") وعمل سينمائي بالغ الشفافية والإتقان ("الأخ شمس والأخت قمر") عن سيرة القديس فرنسيس الأسيزي شفيع الفقراء الذي عرف العالم على ذلك القديس الإنساني قبل سنوات من ظهور البابا الحالي واتخاذه اسم الأسيزي لقباً له.
تحويلات هاملت
والحقيقة أن هذين العملين الأخيرين يعيداننا إلى زيفريللي كمبدع خاض الأوبرا والمسرح مخرجاً يحاول ألا يكون تقليدياً، ولا سيما في تلك الإنتاجات الضخمة التي عرف فيها كيف يجمع بين الحس الشعبي والأداء النخبوي حيث، حتى وإن كان ما يبقى لنا من أعماله في هذا المجال تلك الأفلام الفائقة الغنى التي تبدو في نهاية الأمر وكأنها شرائط لم تصنع إلا لتوثق الأداء الأوبرالي أو المسرحي أو حتى المزدوج لتلك الكلاسيكيات الكبرى (ونفكر هنا تحديداً بـ"هاملت" الشكسبيرية التي قدمها زيفريللي فيلماً في عام 1991 لكن الفيلم أتى وكأنه تصوير سينمائي لاقتباس أوبرالي لمسرحية المسرحيات هذه، بشكل أوصل فن زيفريللي البالغ الخصوصية إلى ذروة غير مسبوقة). ولعل في مقدورنا أن نرصد هذه الأبعاد في كامل رونقها على سبيل المثال في فيلمين أوبراليين مسرحيين له حققهما على التوالي عامي 1982 ("لاترافياتا" من موسيقى فيردي، وعن "غادة الكاميليا" لألكسندر دوما الابن) ثم عام 1986 ("أوتيلو" عن فردي مقتبسة كأوبرا عن مسرحية شكسبير الشهيرة بـ"عطيل"). ولعل من الطريف واللافت هنا أن زيفريللي اتبع ذينك الفيلمين اللذين يبدوان الأكثر موسيقية في تاريخه الفني، بفيلم غاص فيه في عالم الموسيقى بأكثر مما فعل في أي فيلم آخر من أفلامه، وهو بالتحديد فيلم "توسكانيني شاباً" الذي حققه عام 1988 عن حياة قائد الأوركسترا الأشهر عند مشارف القرن العشرين. وربما يكمن وجه الطرافة هنا في أن زيفريللي حول حياة القائد الأوركسترالي إلى مرافعة حول الشروط الاجتماعية التي يعيشها الفنان وقد اضطر للخضوع كعبد -والتعبير يستخدم حرفياً في حوارات الفيلم- لمن يمول إنتاجاته، مما جعل من هذا الفيلم الذي كان يجب أن يكون أبعد أعمال زيفريللي عن السياسة والهموم الاجتماعية إلى عمل "نضالي"، يبدو وكأنه حقق في الستينيات حين كان هذا النمط من الخطاب الأيديولوجي سائداً وكان زيفريللي من أبرز مناوئيه في الساحة الفنية في بلاده. بل نزيد على ذلك أن زيفريللي وفي الحقبة التي حقق فيها "توسكانيني" بأبعاده الأيديولوجية المستغربة هذه، كان قد بدأ يسير في ركاب سيلفيو برلسكوني السياسي الإيطالي الرجعي، بل انتخب مرتين نائباً في البرلمان ممثلاً حزب برلسكوني الذي كان يتعامل مع أعضاء حزبه -"فورسا إيطاليا"- وكأنهم عبيد يعيشون لخدمته لا لخدمة الشعب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقاء حاسم مع فيسكونتي
بقي أن نذكر أخيراً أن فرانكو زيفريللي الذي رحل عن عالمنا عن ستة وتسعين عاماً، كان ولد في عام 1923، وبدأ عمله الفني وهو بالكاد خرج من سنوات مراهقته جامعاً بين عديد من المهن في صالات المسرح والأوبرا، قبل أن يتحول إلى مساعد مخرج ويعمل مع أنطونيوني ودي سيكا وروسليني وغيرهم، حتى التقى فيسكونتي الذي أحدث في حياته ذلك التبديل الجذري الذي تحدثنا عنه في الفقرات السابقة، جاعلاً منه واحداً من أشهر مخرجي المسرح والأوبرا في الحياة الفنية الإيطالية.