على رغم مرور أكثر من 68 سنة على وقوع سلسلة تفجيرات في العاصمة المصرية القاهرة ومدينة الإسكندرية، إلا أنها لا تزال تثير التساؤلات والاتهامات والخلافات في إسرائيل حول من يقف خلفها والمسؤول عن إعطاء الأوامر بتنفيذها، لا سيما بعد نشر صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية وللمرة الأولى في تاريخ السياسة الإسرائيلية، معلومات كان يحظر تداولها أو الكشف عنها سابقاً.
ونشرت الصحيفة اعتراف رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) في خمسينيات القرن الماضي بنيامين جيبلي، أنه أصدر الأمر بتفعيل شبكة تجسس مؤلفة من مصريين يهود لتنفيذ تفجيرات داخل مصر "بإيعاز مباشر" من وزير الدفاع حينها بنحاس لافون، مما أثار موجة جدل وسط الشارع الإسرائيلي.
التفجيرات التي كانت وقعت في يوليو (تموز) عام 1954 بالتزامن مع الذكرى الثانية لإطاحة الجيش المصري بالحكم الملكي، استهدفت المكتب الثقافي الأميركي في القاهرة ومدينة الإسكندرية ومكتب بريد فيها، في حين فشلت محاولة لتفجير دار سينما في المدينة.
وأدى ذلك إلى تمكن السلطات المصرية من اعتقال العميل المكلف بتفجير دار السينما، وهو ما قاد إلى اعتقال الشبكة المسؤولة عن سلسلة التفجيرات.
ومع بداية عام 1955 دانت محكمة مصرية متهمين من اليهود المصريين، وحكمت على اثنين منهم بالإعدام، وعلى آخرين بالسجن لـ 15 عاماً، وتم إطلاق سراحهم عام 1968 في تبادل للأسرى مع مصر.
عملية "سوزانا"
وكانت الهجمات التي أطلق عليها في إسرائيل عملية "سوزانا" تهدف إلى تخريب علاقات القاهرة مع واشنطن ولندن وتقويض حكم الرئيس المصري حينها جمال عبدالناصر، ودفع بريطانيا إلى التراجع عن قرارها بسحب قواتها من قناة السويس.
لكن تلك العملية التي نفذتها الوحدة (131) في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) لم تؤد إلى تغيير السياسة الغربية تجاه مصر.
اعتقال مصر أعضاء الخلية الإسرائيلية حينها سبب ضجة في القيادة السياسية والأمنية الإسرائيلية مما دفع إلى تشكيل لجان تحقيق في عامي 1955 و1960.
ووقتها نفى رئيس الوزراء الإسرائيلي موشيه شاريت علمه بعملية "سوزانا"، كما قدم وزير الدفاع الإسرائيلي بنحاس لافون استقالته "لأنه لم يكن يعلم بالعملية".
وقررت اللجنة بإنه "ليس بإمكانها الحسم في هوية المسؤول عن إصدار الأمر بتفعيل الخلية".
غير أن مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) بنيامين غيبلي قال للجنة إنه كان يتلقى أوامره من لافون، وقدم إليها رسالة من رئيس أركان الجيش الإسرائيلي موشيه ديان جاء فيها أن لافون هو الذي "أصدر الأمر بتفعيل الخلية".
لكن لجنة تحقيق ثانية شكلت أواخر عام 1960 برأت وزير الدفاع الإسرائيلي بنحاس لافون من تهم إصداره الأوامر بتنفيذ العملية، وهو ما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها ديفيد بن غوريون إلى الاستقالة بسبب رفضه تقرير اللجنة الوزارية.
"تفعيل شبكة تجسس"
وجاء تشكيل اللجنة بعد الاشتباه بأن الرسالة التي قدمها غيبلي "مزورة" بحسب المعنيين بالقضية، وبأنه "زرعت أدلة من أجل تحميل لافون المسؤولية عن العملية الفاشلة".
وفي عام 2005 منح رئيس أركان الجيش الإسرائيلي موشي يعلون ثلاثة من المتهمين بتنفيذ سلسلة الهجمات الإسرائيلية في مصر، رتباً عسكرية "تقديراً للخدمات التي قدموها لإسرائيل"، بحسب يعلون الذي قال إن تلك الخطوة تشكل "عدالة تاريخية لأولئك الذين أرسلوا في مهمة نيابة عن الدولة ليصبحوا ضحايا لفضيحة سياسية معقدة".
فتلك "الفضيحة السياسية" لا تزال تتفاعل في إسرائيل كل فترة مع كل كشف يسمح بنشره لأطرافها في ذلك الوقت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد 14 سنة على وفاة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) بنيامين غيبلي، أفرجت السلطات الإسرائيلية عن جزء من مذكراته يتهم فيها وزير الدفاع الإسرائيلي بنحاس لافون بإعطائه أوامر "لتفعيل شبكة تجسس مؤلفة من مصريين يهود لتنفيذ تفجيرات في مصر".
وأشار غيبلي في مذكراته إلى أن لافون "تنكر له بعد كشف شبكة التجسس في مصر، وألقى بي إلى الكلاب وحولني إلى كبش فداء".
وذكر غيبلي أنه "لولا جهات معادية وفاشلة عدة لكان بالإمكان أن تبدو أمور كثيرة مختلفة تماماً"، واتهم "العنصر العملياتي الذي كان غير كاف وفاسد" و"ذوي مصالح أقوياء تدخلوا في الأمر".
كما اتهم غيبلي الضابط الذي أشرف على عمل خلية التجسس أفري إلعاد الذي أصبح بعد تفجر القضية مشتبهاً فيه وسجن في إسرائيل، بأنه "سلمها إلى السلطات المصرية".
هذا ويرى المؤرخ الإسرائيلي آدم راز أن "رئيس أركان الجيش الإسرائيلي موشيه ديان هو من أعطى الأوامر لتنفيذ سلسلة الهجمات الإرهابية في مصر".
السياسة الخارجية موضع خلاف
وقال راز إن ديان وبن غوريون وشيمون بيريز كانوا في خصومة سياسية مع موشيه شاريت وبنحاس لافون بسبب الخلافات على السياسة الخارجية لإسرائيل وموقعها في الشرق الأوسط وعلاقاتها مع العالم العربي.
وأوضح راز بأن شاريت ولافون كانا "يدفعان باتجاه أن تصبح إسرائيل دولة شرق أوسطية لها علاقات مع الدول العربية"، مضيفاً أن "بن غوريون وديان كانا يؤيدان بأن تكون إسرائيل جزءاً من أوروبا".
وتابع المؤرخ الإسرائيلي بأن بن غوريون وديان "يتحملان المسؤولية عن الهجمات في مصر بهدف تخريب علاقتها مع الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا".
فأول رئيس وزراء لإسرائيل ديفيد بن غوريون عمل على "إبقاء حال الحرب مع الدول العربية وإشهار السيف في وجهها" بحسب راز، مضيفاً أن "نهجه السياسي انتصر على نهج شاريت حينها".
لكن الأستاذ الجامعي في جامعة بار إيلان الإسرائيلية مردخاي كيدار أشار إلى صعوبة معرفة المسؤول عن إعطاء الأوامر لتنفيذ العملية في مصر على رغم مرور عشرات السنوات.
وأرجع كيدار ذلك إلى أن "إمكانات التوثيق خلال خمسينيات القرن الماضي كانت محدودة"، مضيفاً أن "أوامر تنفيذ العمليات كانت شفوية".
وأشار كيدار إلى وجود روايات متناقضة حول المسؤول عن تلك العمليات تجعل من الصعب معرفة الشخص الذي أعطى الأوامر بتنفيذها.