ثمّة كتب تبقى الكتابة عنها، مهما جهدنا وحاولنا، دون سطوة خطابها، وجمال لغتها وحكمتها. ولذلك، ربما علينا الاكتفاء بقراءتها وإعادة قراءتها. وإلى هذا النوع من الكتب ينتمي نصّ الروائي التركي أحمد ألتان، "أبداً لن أرى العالم من جديد"، الذي صدرت ترجمته الإنكليزية حديثاً عن دار "غرانتا"، وستصدر قريباً ترجمته الفرنسية عن دار "أكت سود". نصٌّ وضعه هذا الكاتب القابع في سجون أردوغان على شكل دفتر مذكّرات ويتناول فيه ظروف توقيفه وسجنه، وأيضاً تلك الرغبة في الكتابة والخلق التي لم تتمكن جدران زنزانته الضيّقة من خنقها.
لخطّ هذا النص، لجأ ألتان إلى فصولٍ قصيرة لا تتجاوز أحياناً الصفحتين، ويسرد في كلّ منها حادثةً اختبرها داخل السجن أو يمنحنا تأملاً منيراً في سلطة الأدب من داخل العتمة التي تحيط به، مستعيناً بكتابة مقتضبة، مقطَّرة ببراعة، لا تقع أبداً في الخطاب الحِكْميّ أو الوعظ. كتابة شفّافة، بصيرة، وحيّة بحيوية الحلم الذي لطالما صبغ نصوص الكاتب بصفاته، وخصوصاً روايتي "مثل جرحِ سيفٍ" و"نهاية اللعبة"، كي لا نذكر غيرهما.
في مطلع هذا النص، يسرّ ألتان بأن اعتقاله لم يشكّل مفاجأة له نظراً إلى وقوفه منذ فترة طويلة في الصف الأمامي لمعارضي النظام. فحين كتب مقالته الشهيرة "أتاكورد" في صحيفة "ملّيات" عام 1994، التي طالب فيها بمساواة الأكراد بالأتراك أمام القانون، حُكِم بالسجن عشرين شهراً وبغرامة قدرها 12 ألف دولار. وحين خطّ مقالته الشهيرة الأخرى، "يا أخي!" في صحيفة "تارا" الساخرة التي أسّسها عام 2007، رأى القضاء التركي فيها مساساً بـ "قدسية" الهوية التركية، فجرَّمه من دون أن يُدخِله السجن هذه المرة.
لكن هذه المعارضة الجريئة ليست حكراً على ألتان داخل عائلته، فوالده الصحافي والروائي والنائب، شتين ألتان، اختبر أيضاً الاعتقال والسجن قبل نحو نصف قرن على يد نظام تركي لا يقلّ تعسّفاً من النظام الحالي. وحين حضرت عناصر الشرطة إلى منزله لتوقيفه، قدّم لها الشاي بلطفٍ فرفضت شربه، وهو ما كرّره ابنه بعد 45 عاماً، في ظروفٍ مطابقة، على رغم علمه مسبقاً بأنه لن يحظى بمحاكمة عادلة وبأن طبيعة عقوبته كانت محسومة سلفاً.
"أبداً لم يعد بإمكاني تقبيل المرأة التي أحبّها، معانقة أولادي، ملاقاة أصدقائي، التنزّه في المدينة... أبداً لم يعد بإمكاني أكل البيض بالنقانق أو شرب كأس نبيذ أو دخول مطعم وطلب طبق سمك. أبداً لم يعد بإمكاني تأمل شروق الشمس".
روح متمردة
في مكانٍ ما من كتابه، يقول ألتان لنا إنه لم يكن لديه أي فكرة عن مصدر الكلمات، قبل سجنه، لكنها غيّرت حياته: "بعض الكلمات، مثل بعض الأفعال، تفرضها الأحداث، المخاطر والواقع الذي يحيط بكم. وما أن ترفضوا تأدية الدور المحدَّد لكم، يؤخذ الواقع على حين غرّة فيصطدم بحاجز روحكم المتمرّدة ويتكسّر". وهذه الفكرة تحديداً ــ "لن يتمكّن الواقع من هزمي" ــ هي التي منحته القوة لمواجهة ما كان ينتظره، خصوصاً حين تبيّن له أن قدرته على مقاومة الواقع هي امتداد لمهمّته كروائي: خلق واقع بديل. ومن هذا المنطلق، يشكّل كتابه الجديد نصّاً حول الكتابة والحرية الملازمة لسلطات المخيّلة، بقدر ما يشكّل شهادة حول ظروف سجنه.
لكن هذا لا يعني أن محافظة ألتان على حرّيته واستقلالية فكره داخل السجن لم تتطلّب منه جهداً جباراً: "مهما كانت قوتكم الداخلية، السجن، في طبيعته، مصدر شللٍ. بظرف خمس ساعات، عبرتُ خمسة قرون لأجد نفسي في زنزانة محاكم التفتيش". زنزانة معتمة أفقده الحرمان الحسّي فيها فوراً نقاط استدلاله وجعله يكتشف، مثل أوسكار وايلد، أن الزمن لم يعد له معنى: "الهواء والنور في هذا المكان لا يتغيّران أبداً. كل دقيقة تشبه الدقيقة التي سبقتها. كما لو أن نهر الزمن اصطدم بسدٍّ وتحوّل إلى بحيرة جامدة نقبع في عمقها".
في المحكمة، لم يتبدد ارتباك ألتان وضياعه، لأن القضاة، كما في كتاب كافكا "المحاكمة"، لم يكونوا قساة، بل شاردين، مبلبِلين، سورّياليين، ولاستنتاجه تغيُّر التهمة الملصَقة به من توجيه "رسائل مموَّهة" لصالح محاولة الانقلاب الأخيرة، إلى المشاركة فيها. وحين سأل أحد القضاة عن هذا الموضوع، أجابه بطرافة: "المدّعون العامون يحبون استخدام كلمات يجهلون معناها".
بعد هذه الجلسة، أخلي سبيله وعاد إلى داره. لكن في المساء، صدرت مذكّرة توقيف جديدة في حقّه ورُميَ مجدداً في السجن، فطالب باستئناف الحُكم، مسلّحاً برفض المحكمة العليا إدانته. وبينما كان ينتظر حُكم القضاء التركي عليه مجدداً، حاول صدّ "الأحلام الباهتة والبرّاقة التي كانت تغذّي الأمل وتختلج بخجل في عتمة روحي"، كما لاحظ أنه يعيش المشهد ذاته الذي كتبه قبل سنوات في روايته "مثل جرحِ سيفٍ"، حيث تنتظر إحدى شخصياته الحُكم عليها: "منذ سنوات، وبينما كنت أتنزّه في تلك المنطقة الضبابية والغامضة التي يلتقي الأدب فيها بالحياة، التقيتُ بقدري لكني فشلتُ في التعرّف إليه؛ إذ كتبتُ ما كنت أظّن بأنه يتعلّق بشخصٍ آخر. اليوم، أشعر بأنني انجرفتُ إلى داخل دوّامة مدوخة تتشابك فيها الرواية والحياة، ويقلّد الواقع والمكتوب بعضهما بعضاً ويتبادلان مكانيهما، كل واحد متنكِّراً بزيّ الآخر".
وكما توقّع منذ لحظة اعتقاله، صدر الحُكم عليه بالسجن المؤبَّد من دون إفراجٍ مشروط!
"أبداً لن أرى العالم من جديد. أبداً لن أرى سماءً لا تؤطّرها جدران باحة السجن. أنزل إلى فناء هادِس (إله الجحيم عند الإغريق). أسير في الظلمات مثل إلهٍ يكتب قدره الخاص. أنا وبطلي نتوارى في العتمة". لكن مع مرور الزمن داخل السجن، تنقذه مخيّلته: "مثل عوليس، سأتصرّف ببطولة وجبنٍ معاً، بنزاهة وحيلة. سأعرف الهزيمة والانتصار، ولن تنتهي مغامرتي إلا بموتي. في منتصف زنزانتي مركبٌ بخشبٍ يصرّ. على متنه عوليس في حالة صراع".
وفي لحظة ارتعاش، يقول لنفسه: "إنه لمشهدٌ جميلٌ للوصف. بيدٍ بيضاء أمسكُ بقلمي داخل نورٍ شبحي. حتى في العتمة يمكنني أن أكتب. أستقلّ المركب الذي يفرقع خشبه في العاصفة وأبدأ بالكتابة".
"أبداً لن أرى العالم مجدداً" الذي مرّر ألتان فصوله، الواحد تلو الآخر، إلى محاميه، ليس فيلم "ميدنايت إكسبسرس" الذي أخرجه ألان باركر، ولا هو أوبرا "منزل الأموات" التي وضعها ليوش ياناشيك، ولا رسالة "دي بروفونديه" التي كتبها أوسكار وايلد من داخل سجنه. إنه نشيد احتفاء بقدرات الإنسان الداخلية، وخصوصاً بسلطة المخيلّة، وبالتالي فعل انتصار للروح: "يمكنك أن تسجنني، لكنك غير قادر على استبقائي هنا، لأنني، مثل كل كاتب، أتقن السحر"، يقول ألتان في نهاية نصّه، ثم يضيف: "يمكنني بسهولة عبور جدرانكم".
وإذ لا نشكّ أبداً بقدرته السحرية هذه طوال نصّه، لكن الحقيقة المريرة هو أنه ما زال قابعاً في السجن إلى حد اليوم، ولم تنفع العريضة التي وقّعها كتّاب من العالم ومنهم فائزون بجائزة "نوبل"، لتحريره.