تراكمت مظاهر الأزمة السياسية الاقتصادية المتناسلة في لبنان في الأيام العشرة الباقية من السنة، وتنبئ بانتقالها أشدّ وطأة على أوضاعهم المعيشية بقفزة سعر صرف الدولار الأميركي بقيمة خمسة آلاف ليرة دفعة واحدة خلال أقل من أسبوعين، فبات يتراوح بين 44 ألفاً و45 ألف ليرة، إلى السنة الجديدة، من دون رادع أو تدخل من المصرف المركزي للجمه. وتردد أن احتياطاته من العملة الأجنبية انخفضت إلى زهاء ثمانية مليارات دولار وفق تقديرات خبراء.
ويحصل هذا التدهور في وقت تعصف الخلافات بالقوى السياسية التي تعجز عن إنهاء الفراغ الرئاسي الذي بدأ في 31 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بانتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون، بحيث امتد العجز إلى حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي جراء الخلاف على مبدأ اجتماعها الذي يرغب الأخير بالدعوة إليه لمعالجة قضايا ملحة، فيما يرفضه بشدة "التيار الوطني الحر" برئاسة النائب جبران باسيل صهر الرئيس السابق عون مؤسس "التيار الحر".
التجاذب وخلاف "التيار" و"حزب الله"
ويشكل التجاذب على اجتماع مجلس الوزراء من عدمه امتداداً للصراع على انتخابات رئاسة الجمهورية الذي تسبب بالشغور الرئاسي المرشح لأن يطول في وقت يحتاج لبنان إلى سلطة كاملة الصلاحية تتحمل مسؤولية انتشاله من الحفرة التي هو فيها، والتي تتعمق يوماً بعد يوم كلما تسبب هذا التجاذب بتأخير الحلول لأزمته المتعددة الجوانب.
وأقحم الخلاف على عقد مجلس الوزراء البلد في دهاليز يبتدعها الفرقاء اللبنانيون حول التفسيرات والاجتهادات الدستورية المتناقضة في شأن أحقية ميقاتي في الدعوة إلى مجلس الوزراء. ومن القضايا الملحة التي توجب الدعوة وفق ميقاتي والوزراء المؤيدين له ضرورة إصدار قرار من مجلس الوزراء بترقية ضباط الجيش وقوى الأمن الداخلي التي ينص القانون على أن يقرها المجلس، قبل نهاية السنة، خصوصاً أنها ترتب صرف أموال إضافية لرواتبهم، وبتخصيص اعتمادات مالية متوجبة لشركتين لجمع النفايات في العاصمة بيروت وخارجها فضلاً عن قضايا أخرى.
وكان مجلس الوزراء اجتمع في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) من أجل معالجة بعض القضايا الملحة والإنسانية، منها تأمين اعتمادات لثمن أدوية مرضى السرطان وغسل الكلى للمستشفيات وبنود أخرى، ما أثار "التيار الحر" الذي اعتبره غير قانوني وغير دستوري وغير ميثاقي نظراً إلى تغيب ثلث الوزراء، الموالين لـ "التيار الحر" وباسيل. وتسببت مساهمة "حزب الله" حليف "التيار" في تأمين نصاب الثلثين لانعقاد الجلسة بشرخ في التحالف بين الجانبين، بعدما أضيف إلى الخلاف بين باسيل والأمين العام لـ "الحزب" حسن نصرالله، حول دعم الأخير ترشيح رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية للرئاسة، على رغم معارضة باسيل وعون لهذا الخيار. واتهم باسيل "الحزب" بأنه "نكث" بوعد تلقاه بألا يجتمع مجلس الوزراء، طالما يعارض ذلك "التيار".
أصل الخلاف والبدع الدستورية
وينبع الخلاف بين ميقاتي وباسيل حول اجتماع مجلس الوزراء من تباعدهما قبل نهاية ولاية الرئيس عون، عندما حال ذلك دون تشكيل حكومة بديلة لحكومته الحالية التي تتولى صلاحيات الرئاسة. ففي حينها رفض الأول تحقيق مطالب الثاني في حصته في الحكومة والتي تتيح له أن تكون له الكلمة الأولى في قراراتها خلال فترة الشغور الرئاسي، مثلما كان الأمر في الحكومات إبان العهد الرئاسي الذي انقضى. وأخذ اعتراض باسيل وعون على انعقاد مجلس الوزراء، على رغم امتناع وزرائهما السابق، طابعاً طائفياً، إذ تركزت حملة "التيار الحر" على أنه يهمل موقف مكونٍ أساسيٍ في البلد، خصوصاً أن الحزب المسيحي الأقوى، أي "القوات اللبنانية" غير الممثل في الحكومة، عارض اجتماع مجلس الوزراء، لكن من منطلق مختلف يقضي بإعطاء الأولوية لانتخاب رئيس للجمهورية بدل التمديد للفراغ بعقد اجتماعات لمجلس الوزراء. كذلك حزب "الكتائب"، لكن هذين الحزبين لم يخوضا حملة تعبئة طائفية كما فعل "التيار". وفي المقابل التقى ميقاتي رئيسي الحكومة السابقين فؤاد السنيورة وتمام سلام اللذين أيدا عقده جلسة لمجلس الوزراء واعتبرا أنها دستورية.
المراسيم "الجوالة" وبدعة توقيع الـ 24 وزيراً
وبينما سعى ميقاتي إلى تبديد المناخ الطائفي المحيط بانعقاد جلسة الخامس من ديسمبر في زيارة إلى البطريرك الماروني بشارة الراعي، وبعقد لقاء للتشاور مع وزراء الحكومة ومنهم الموالون لـ "التيار الحر"، لم تفلح جهود التوافق على الجلسة المقبلة. وكان بعض السياسيين غير المعترضين على عقد جلسة رسمية للحكومة قد لاموا ميقاتي بأنه لم يعقد لقاءات تشاورية مع وزراء "التيار" قبل الجلسة الأولى لتبديد اعتراضاتهم، فلجأ إلى هذا الاقتراح قبل الجلسة المقبلة التي ينوي عقدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحجة الدستورية الأولى التي طرحها "التيار" أنه يمكن إصدار القرارات الضرورية عبر توقيع مراسيم "جوالة" (أي من دون اجتماع مجلس الوزراء) مذيلة بتوقيع الـ 24 وزيراً باعتبار أن المادة الدستورية توكل إلى مجلس الوزراء، وليس إلى رئيسه وحده تولي صلاحيات الرئاسة عند الشغور، ما يعني أن ينوب جميع الوزراء بالتوقيع نيابة عن رئيس الجمهورية. لكن ميقاتي رفض صيغة المراسيم "الجوالة" كسابقة جرى اعتمادها عامي 1988-1989 إبان انقسام البلد بين حكومتين واحدة رأسها العماد عون حين كان ما زال قائداً للجيش ورئيساً للحكومة الانتقالية على إثر الفراغ في الرئاسة، والثانية برئاسة سليم الحص. ورأى ميقاتي أن البلد ليس في حال انقسام كما كان في تلك المرحلة، معترضاً على العودة بالبلد إلى تلك المرحلة الانقسامية. أما توقيع المراسيم من الـ 24 وزيراً، فاعتبرها بدعة غير دستورية، لأن قواعد اجتماع مجلس الوزراء كما يقول السنيورة لـ "اندبندنت عربية"، هي نفسها بوجود أو غياب رئيس الجمهورية، لأن الأخير ليس رئيساً للسلطة التنفيذية، المنوطة بمجلس الوزراء. وحين تألفت لجنة وزارية ضمت الوزراء الأربعة القضاة في الحكومة للبت بالجانب القانوني الدستوري من الخلاف، خالف وزير العدل القاضي هنري خوري الموالي لباسيل و"التيار الحر" رأي زملائه، رافضاً انعقاد مجلس الوزراء، ومصراً على توقيع الـ 24 وزيراً على القرارات والمراسيم، في وقت اعتبر الوزراء الثلاثة الآخرون أن هذه السابقة نشأت لأسباب سياسية وهي غير دستورية.
السوابق ظروفها سياسية لا دستورية
وعليه أدى استمرار الخلاف الأخير إلى تعليق ميقاتي دعوته إلى جلسة جديدة حتى مطلع السنة الجديدة متهماً "التيار الحر" بإعاقة إقرار أمور حياتية منها ما يخص المؤسسات العسكرية. وشدد الوزير الأرمني جورج بوشيكيان الذي أدى حضوره الجلسة الماضية إلى تأمين نصابها، على ضرورة "الفصل بين تسيير شؤون الناس والأمور السياسية"، لكنه استبعد عقد جلسة قريباً جراء اتساع رقعة الخلاف.
وكانت حكومة الرئيس السنيورة اعتمدت ما اعتبره الوزراء القضاة "بدعة" دستورية بتوقيع الـ 24 وزيراً في عام 2006، حين استقال الوزراء الشيعة من الحكومة اعتراضاً على إقرار أكثريتها الطلب إلى الأمم المتحدة إنشاء محكمة دولية خاصة بالنظر في اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري. وقال السنيورة إن التوقيع على تلك المراسيم كان يتم من قبل الوزراء المستقيلين، من أجل الرد على اعتبارهم الحكومة "بتراء" في حينها وللحؤول دون تشكيكهم بشرعية قراراتها. أما اعتماد صيغة توقيع الوزراء كافة في حكومة سلام عام 2014، فكان بسبب تشكيك "التيار الحر" بشرعية اتخاذ الحكومة قراراتها أثناء الفراغ الرئاسي الذي فرضه "التيار الحر" و"حزب الله" حتى انتخاب ميشال عون رئيساً، وللرد على هذا التشكيك. وفي حينها لم يكن الوزراء كافة يوقعون المراسيم بل بعضهم للدلالة سياسياً إلى أن سلام لا يتفرد بصلاحيات الرئاسة الأولى.
"التيار" يحذر ميقاتي ومماحكات الوزراء
وسارعت الهيئة السياسية في "التيار الوطني الحر" في بيان إلى "رفض الاجتماع اللاشرعي واللادستوري واللاميثاقي الذي عقده مجلس الوزراء، واعتبرت الاجتماع كأنه لم يكن ودعت إلى التراجع عنه شكلاً ومضموناً وتصحيح الخطأ بإصدار القرارات عن طريق المراسيم الجوالة التي يجب أن يوقّع عليها جميع الوزراء تنفيذاً للمادة 62 من الدستور التي تنص على أن صلاحيات رئيس الجمهورية تناط وكالة بمجلس الوزراء والوكالة لا يمكن أن تتجزأ بين الوزراء". واستند "التيار" إلى "ما جرى تطبيقه في خلال حكومة الرئيس تمام سلام"، وسألت "من هي الجهات التي تكون قد خالفت ما تم الاتفاق عليه بالإجماع عام 2014 وتمّت ممارسته على مدى سنتين ونصف؟". وحذرت "الهيئة" من "استهداف التيار ونية حذف مكوّن أساس من معادلة السلطة الميثاقية، لإعادة الوطن إلى ما قبل 2005 إبان الوصاية السورية، حين كان يتم الاستيلاء على التمثيل الحقيقي" (للمسيحيين).
وانسحب النزاع الدستوري على علاقة ميقاتي بوزراء "التيار"، فتحول إلى مماحكات، فأرسل جداول ترقيات الضباط في مشروع مرسوم إلى وزير الدفاع موريس سليم المقرب من الرئيس السابق عون، الذي رد بتوقيع كلّ مراسيم ترقيات الضباط لكنه عدلها بصيغة مرسوم بـ 24 توقيعاً قائلاً إنه يعوّل على حكمة ميقاتي، وطالب بإقرار الترقيات دفعة واحدة مع تلك التي لم تحصل في 2020 و2021 بسبب خلاف عليها في الحكومات السابقة.
ورفض سليم مشروع مرسوم أعده قائد الجيش العماد جوزيف عون، بالتمديد لرئيس الأركان (درزي) وأحد أعضاء المجلس العسكري (كاثوليكي) في المؤسسة العسكرية لتعذر اتفاق مجلس الوزراء على تعيين بديلين عنهما واللذين يتقاعدان في قبل نهاية 2022 ما يفقد المجلس العسكري نصاب اجتماعاته القانوني. واقترح سليم أن يسيّر ضابطان الأعمال التي يقومان بها. كما طلب ميقاتي إلى سليم توقيع مشروع المرسوم الرامي إلى "إعطاء الأسلاك العسكرية مساعدة اجتماعية، المُرسل إليه سابقاً كما هو من دون أي تعديل والإعادة بالسرعة القصوى"، والذي كان أقر في الجلسة الحكومية السابقة والتي اعتبرها "التيار الحر" غير شرعية، وأرسله بصيغة توقيع الـ 24 وزيراً. واعتبرت مصادر ميقاتي أنه لا يجوز إخضاع الحد الأدنى من الحقوق للأسلاك العسكرية قبيل الأعياد، للتجاذب السياسي "استناداً الى حجج دستورية واهية مع ما يترتب على ذلك من مسؤوليات".