Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الاحتجاج العاري يرفع شعار العلاج بالصدمة

الوسيلة لا تؤرق بعض الفئات طالما كانت في حدود القانون بينما لدى بعضهم الآخر العكس صحيح

علاقة الإنسان بالعري علاقة ملتبسة ومعقدة. حرية التعري مسألة تحتمل الاتفاق أو الاختلاف، لكنها أيضاً أكثر الحريات إثارة للجدل (أ ف ب)

أن يقرر أحدهم التحلل من كامل ملابسه أثناء وجوده على شاطئ للعراة، فهذا أمر "منطقي". وأن يفضل أحدهم التجول في داخل بيته كما ولدته أمه، فهذا اختيار شخصي في محيط شخصي. أما أن تتخذ مجموعة أو جماعة قراراً جماعياً بتنظيم تظاهرة أو وقفة احتجاجية أو فعالية ثقافية أو توعوية وهم عراة، فهذا أمر غريب غرابة علاقة الإنسان منذ بدء الخليقة بالتعري.

علاقة الإنسان بالعري علاقة ملتبسة ومعقدة. حرية التعري مسألة تحتمل الاتفاق أو الاختلاف، لكنها أيضاً أكثر الحريات إثارة للجدل، حيث بعض من أعتى المدافعين عن الحريات المطلقة في التعبير والرأي والمساواة وغيرها يصلون إلى حرية التعري فيتسع إيمانهم المطلق لقيود "ولكن" و"باستثناء" و"ما عدا".

تجريم التعري

وما عدا الدول التي تجرم بالقوانين، أو ترفض بالأعراف، أو تمنع بالعقائد، فكرة التعري في مكان عام، سواء كان تعرياً كلياً أم جزئياً، يظل مبدأ التعري مسألة قابلة للنقاش وليس بالضرورة العراك بين الحين والآخر، سواء من قبل المدافعين عن حق الشخص في التعري أو عن حق المجتمع في عدم رؤية المتعري.
رؤية متعرين على الشواطئ في بعض الدول أمر يعرفه بعض الفئات وإن ظل غير مستساغ لدى بعضهم الآخر. لكن رؤية متعرين في تظاهرات أو وقفات احتجاجية أو فعاليات توعوية أو ثقافية ما زالت من الأمور الغامضة التي تثير علامات تعجب أكثر من الاستفهام، وتستدعي تفكراً وتأملاً في وضع العري والعراة وأسباب التعري. الطريف أن الفريق المتسائل عن أسباب التعري يقابله فريق مضاد يتساءل أيضاً، ولكن عن أسباب عدم التعري. وتحت عنوان "الحق في التعري في الفضاء العام: دفاع عن التعري"، كتب الباحث في قسم الأخلاقيات والقانون والسياسة في جامعة "غوتنغن" الألمانية بوك دو فراي مستنكراً القيود القانونية المكبلة للحق في التعري، ومطالباً برفع هذه القيود التي وصفها بـ "غير العادلة" طالما التعري لا يشكل خطورة على الآخرين.
ويسرد دو فراي "محاسن التعري في الأماكن العامة"، حيث "تعزيز حرية الفرد وتمتع جلد الإنسان بأشعة الشمس والهواء الطلق، ناهيك عن الآثار النفسية الجيدة، حيث تعري الأجساد غير المثالية يعزز ثقة بقية المجتمع في أجسادهم غير المثالية ويجعلهم أكثر رضا عن حياتهم".
 


قائمة الشرور

ويستعرض المؤلف عدداً من أبرز الأسباب التي تذكرها القوانين والأفراد والمؤسسات المناهضة للتعري في الأماكن العامة، ويفندها بحسب وجهة نظره سواء كانت تتعلق بالتعرض للإصابة بأمراض أو فيروسات أكثر ممن يرتدي ملابسه، أو لأن التعري قد يكون له مغزى جنسياً غير مرغوب فيه وغيرها، ويعتبرها جميعاً "حججاً واهية" للاعتراض. لكنه يعتبر الحجة الوحيدة الأكثر جدية هي شعور بعضهم بالإهانة أو التوتر أو الاشمئزاز أو الصدمة أو الانزعاج لدى رؤية متعرين في أماكن عامة. ويرد دو فراي على ذلك بالقول إن "هؤلاء تعتريهم هذه المشاعر بسبب البيئة المعادية للتعري التي ولدوا وتربوا فيها"، معتبراً إياهم "ضحايا ينبغي على الدول أن تعمل على علاجهم وتوعية الأجيال القادمة بالحق في التعري وتدريبهم في احترام حق الغير في التخلص من ملابسه".
ويشير دو فراي إلى التعري كقيمة تعبيرية واستخدامه "الرائع" للاحتجاج على الشرور الاجتماعية والسياسية والبيئية.
ويبدو أن قائمة الشرور طويلة لأن قائمة التظاهرات العارية أطول.
قبل أيام قليلة، تجمع نحو 2500 متطوع على أحد الشواطئ الأسترالية وهم عراة تماماً، وذلك للمشاركة في عمل فني للتوعية بسرطان الجلد وضرورة الخضوع لفحوص دورية للكشف المبكر عنه. في دولة مثل أستراليا حيث نجد ثقافات متعددة تراوح بين رفض تام للتعري من جهة ورفض تام لحجب حرية الآخرين في التعري من جهة أخرى وما بينهما، استقبل "العمل الفني" ومتطوعوه العراة استقبالاً عادياً إلى حد كبير. فحتى المتضررون من التعري يعرفون أنهم ليسوا مجبرين على متابعة العمل أو التمعن في الصور أو الإيمان بالغاية التي تبرر الوسيلة.
لكن تظل وسيلة التعري ذائعة الصيت في عديد من دول العالم للتظاهر والتعبير عن الغضب وعرض المطالب.
من المطالبة بوقف استخدام الفراء في صناعة الملابس، إلى التوقف عن التمييز ضد النساء، إلى التنديد بالحرب والدعوة للسلام، إلى حقوق المتحولين والعابرين جنسياً، إلى الاعتراض على الهندسة الجينية، إلى نزع ملكية الأراضي، إلى المطالبة بالتوقف عن استخدام الوقود الأحفوري، تطول قائمة التظاهر والاعتراض والوقفات الغاضبة التي يتفق المشاركون فيها على التعري من أجل التأكد من أن الجميع "سيرى" التظاهرة ويطلع على أهدافها. الاطلاع على التظاهرات العارية أمر محسوم ومضمون. إنها الطبيعة البشرية. "الأعلى قراءة" و"الأكثر مشاهدة" و"الأعلى تشاركاً" عادة تكون من نصيب أخبار وفيديوهات تتعلق بتظاهرة استخدم فيها العري وسيلة لضمان الانتشار.

حب التعري

في دول وثقافات عدة، إن الوسيلة لا تؤرق الناس أو تزعجهم طالما كانت في حدود القانون ولا تنال من حريتهم الشخصية أو تتسبب لهم أضراراً، حتى ولو كانت التعري. وفي دول وثقافات أخرى، العكس صحيح، لا سيما حين يتعلق الأمر بالجسد، ويتفاقم الأمر وتقلب الدنيا رأساً على عقب إن اقترب من جسد المرأة.
في عام 2015 اقتحمت مجموعة من المتظاهرات الفرنسيات عاريات الصدور مؤتمراً عن المرأة المسلمة ومكانتها في الإسلام، واعتلين المنصة بينما كان أحد المتحدثين يناقش مسألة ضرب الزوج لزوجته وموقف الإسلام من المسألة.
انتهت المسألة بإلقاء القبض على مجموعة النساء عاريات الصدور، وذلك بسبب اقتحام قاعة المؤتمر وليس التعري. يشار إلى أن فرنسا ضمن الدول والثقافات الأكثر قبولاً لمبدأ الحرية في ما يتعلق بالملابس أو التحلل منها، إضافة إلى الدول الإسكندنافية. ويرصد بعضهم توجهاً واضحاً ومتنامياً ومزايداً في ألمانيا لـ "حب التعري في الأماكن العامة".

تخفيف القيود

في تقرير لـ "بي بي سي عربية" (2020) تحت عنوان "لماذا يحب الألمان التعري في الأماكن العامة؟"، قال الأستاذ المساعد للتاريخ المعاصر في "جامعة برلين الحرة" أرند باويركامبر إن "التعري تقليد قديم في ألمانيا، وفي مطلع القرن الـ20 شاعت فلسفة إصلاح الحياة التي تروج للأطعمة العضوية والتحرر الجنسي والطب البديل والحياة البسيطة الأقرب إلى الطبيعة". وأضاف أن "العري كان جزءاً من هذه الحركة التي كانت رد فعل للثورة الصناعية ومناهضة للحداثة التي أفرزتها التحولات في نهاية القرن الـ 19". ويشير التقرير إلى أن "التعري في جمهورية ألمانيا الشرقية الديمقراطية الشيوعية، قبل انهيار سور برلين في عام 1989، والقيود الصارمة التي كانت مفروضة على السفر وبيع وشراء السلع والحريات وغيرها دفعت كثيرين للتنفيس عن التوتر والضغوط عبر السماح بالتعري".
وإذا كانت هناك ثقافات تنظر إلى التعري باعتباره رمزياً حيث يعوض الضغوط والقيود في مجالات أخرى، أو تشبيه خلع الملابس في التظاهرات بالإجبار على خلع الحقوق وسلبها، أو يدعو إلى المقارنة، فإن ثقافات أخرى تمتنع عن مجرد التفكير في الرمزية وعقد المقارنة. وما تعتبره ثقافات ومجموعات "قوة الجسد العاري" في التعبير، تعتبره أخرى مسألة مرفوضة غير مسموح مجرد الاقتراب منها.

العلاج بصدمة الجسد

مجرد الاقتراب من قضايا تتعلق بالمرأة مثلاً في بعض المجتمعات والثقافات يثير هالة من التربص والتوتر والاستنفار، وذلك لأسباب بعضها ثقافي أو ديني أو خليط من الاثنين. لذلك، فإن جانباً من التعري في التظاهرات والوقفات الاحتجاجية المتعلقة بقضايا تتعلق بالمرأة يعمل بمبدأ "داويها بالتي كانت هي الداء" أو "العلاج بالصدمة". المتظاهرات المستخدمات أداة التعري في فعاليات خاصة بحقوق النساء عادة يؤمن بالفكر التصادمي. هدفهن من التعري في هذا الصدد عادة يكون بغرض تسليط الضوء على فكرة استقلالية جسد المرأة وليس تبعيتها لقرارات آخرين، لا سيما وأن جسد المرأة محوري في قضايا العنف والاستغلال الجنسي والتحرش والاغتصاب والحرية والعدالة الإنجابية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


تعويض القهر

وبالطبع فإن مشهد قوات الشرطة بكامل ملابسهم وهراواتهم وهم يلقون القبض أو يدفعون النساء العاريات لترك المكان، دائماً تكون صورة بألف كلمة. لكن محتوى الألف كلمة يختلف بحسب المتابع. المتابع المتعاطف غير المتضرر من فكرة التعري يراها خير وسيلة للفت الانتباه لقضايا النساء، والمتابع المعارض والمندد بالتعري، لا سيما النساء، يراها أقبح وسيلة للفت الانتباه لأية قضية سواء كانت جديرة بالاهتمام أو غير جديرة.
الجدير بالاهتمام والفهم هو علاقة التعري بالتظاهر أو التظاهر بالتعري سواء كانت تظاهرات أو وقفات احتجاجية خاصة بقضايا النساء أو غيرها من شؤون الاقتصاد أو البيئة أو السياسة.

تعويض القهر

محاولة تستحق الإشارة تحمل عنوان "ما الذي يعطي الاحتجاج العاري قوته في أفريقيا؟"، منشورة في دورية "ديموكراسي إن أفريكا" (الديموقراطية في أفريقيا) (2020)، إذ تعتبر المقالة التجرد من الملابس طريقة يلجأ إليها مواطنون مقهورون ومسلوبون من حرياتهم الأساسية، لعل حريتهم في التجرد من ملابسهم تعوض تجريدهم من حريات أخرى. وتشير المقالة إلى أن "إشهار وإظهار عدم قدرة الدولة على التحكم في أجساد هؤلاء يعني أنهم يتحدون سلطة هذه الدولة". لكن يظل التجرد من الملابس في ثقافات أخرى مرفوض ومذموم وموصوم حتى من قبل المواطنين أنفسهم المتضررين من القمع أو الظلم أو سلب الحريات.


الزي الرسمي للاحتجاج

حرية ارتداء أنواع بعينها من الملابس في التظاهرات ليست من الأمور المثيرة للجدل. صحيح أن هناك خبراء في التظاهر يعدون قوائم بما يحبذ ارتداؤه وما لا يحبذ، وذلك لأغراض تتعلق بسهولة الحركة وربما الاضطرار للفرار في أوقات الطوارئ، أو لتوصيل رسالة بعينها عبر اختيار اللون أو خط الأزياء المرتبط بمهنة أو مطالب أو غيرهما، إلا أن التظاهر والاحتجاج لا يقيدان المشاركين بزي رسمي من دون غيره.
"ركوب الدراجة متعرياً" مناسبة سنوية تنظمها جماعات وأفراد مدافعين عن البيئة ومناهضين لسياسات وتصرفات من شأنها إلحاق مزيد من الضرر بالكوكب منذ عام 2004. في هذا اليوم، يتم تنظيم فعالية الركوب المتعري للدراجات في مدن عدة للفت الانتباه إلى الاستخدام المفرط للسيارات في العالم. الـ "دريس كود" (dress code) الخاص بالفعالية هو "تعري بالقدر الذي تجرؤ عليه".
هذا العام، أقيمت تلك الفعالية الاحتجاجية في مدن عدة وحظيت بحضور لافت. لكن اللافت جداً كان التعري الكامل لأغلب المشاركين باستثناء ارتداء بعضهم لكمامات كنوع من الإجراء الاحترازي تجاه كوفيد-19.
وتظل أغرب التظاهرات والفعاليات الاحتجاجية التي يكون التعري هو الـ "دريس كود" الخاص بها هي تلك التي يتعرى فيها المتظاهرون للمطالبة بحقهم في التعري.

"أدب التعري" – الذي يعرفه آخرون بـ "قلة أدب التعري" - وثيق الصلة بالمعتقدات والعادات والتقاليد والأعراف. وهي أيضاً وثيقة الصلة بمفهوم الجسد في الهوية والثقافة. الطريف أن نتائج البحث عن "ثقافة التعري" باللغة العربية على "غوغل" تنضح بملايين الروابط المتعلقة بمحتوى إباحي وأفلام جنسية لمن يرغب. أما مسألة حرية الأجساد وحقوق التجرد والاحتجاج بالتعري فعجائب وغرائب مترجمة من لغات أخرى.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات