في فصل جديد من تاريخ العالم يتسم باستدعاء حروب قديمة حول السيادة على الأراضي والأقاليم، يلوح في الأفق صراع متجدد بين صربيا وكوسوفو، اللتين يجمعهما عداء عرقي تاريخي تعود جذوره إلى مطلع القرن الماضي، عندما نشبت حرب البلقان الأولى بين عامي 1914 و1918، لكن بالنظر إلى الحرب الروسية في أوكرانيا فربما تأخذ التوترات في الجمهورية اليوغوسلافية السابقة أبعاداً جديدة، بعد أن أصدر الجيش الصربي قراراً بحالة التأهب القصوى في ظل المناوشات المتصاعدة في شمال كوسوفو.
فمنذ أسابيع تجددت التوترات التي لم تهدأ قط بين صربيا وكوسوفو، الإقليم الصربي السابق الذي تسكنه غالبية ألبانية، بعد أن أعلنت الأخيرة عزمها على إجراء انتخابات في البلديات ذات الغالبية الصربية، بعد استقالة جميع المسؤولين المنتخبين وضباط الشرطة الصرب في هذه المنطقة. وعلى رغم تأجيل سلطات كوسوفو الاقتراع حتى أبريل (نيسان) المقبل، فإن التوترات -التي نشبت قبل ذلك بسبب قرار السلطات في بريشتينا (عاصمة كوسوفو) منع الصرب الذين يعيشون في كوسوفو من وضع لوحات ترخيص صربية على سياراتهم- ازدادت غلياناً.
ففي أغسطس (آب) الماضي، سعت السلطات إلى إجبار الأقلية الصربية على التحول إلى استخدام لوحات السيارات والوثائق الشخصية الصادرة عن كوسوفو بدلاً من الحكومة الصربية، لكن اعتبر عديد من الصرب الأمر إهانة وتهديداً لهويتهم، إذ يرفضون الاعتراف بسلطة حكومة كوسوفو في وقت تريد بريشتينا فرض سيادتها على الإقليم بكامله.
وأعلنت كوسوفو استقلالها عن صربيا عام 2008 لكن بلغراد ترفض الاعتراف بها، بل يعتقد أنها تحرض 120 ألف صربي يعيشون في كوسوفو، يمثلون نحو ستة في المئة من السكان البالغ عددهم 1.8 مليون نسمة، على تحدي سلطات بريشتينا.
تصعيد محتمل
ووسط موجة غضب عارمة، وافقت السلطات في نهاية المطاف على عدم تطبيق هذه السياسة، لكن سبق ذلك استقالة أعداد كبيرة من ضباط الشرطة الصرب في شمال كوسوفو احتجاجاً على القرار. وبعد اعتقال ثلاثة من هؤلاء الضباط رد أفراد المجتمع بالاحتجاج وقطع الطرق. واتهم رئيس وزراء كوسوفو ألبين كورتي صربيا بالتحريض على الاضطرابات، فيما أثار الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش احتمال إرسال قوات إلى كوسوفو لحماية الأقلية الصربية.
ويقيم مئات من الصرب، الذين يعيشون في شمال كوسوفو، حواجز على الطرق منذ العاشر من ديسمبر (كانون الأول)، للاحتجاج على اعتقال شرطي صربي سابق، مما شل حركة المرور إلى معبرين حدوديين مع صربيا. وبعد ساعات قليلة من إقامة الحواجز أعلنت شرطة كوسوفو أنها تعرضت لثلاث هجمات بالأسلحة النارية، كذلك استهدفت شرطة الاتحاد الأوروبي المنتشرة في المنطقة كجزء من بعثة "إيوليكس" بقنبلة صوتية لم تسبب أية إصابات، بحسب وكالات أنباء.
ومع تفاقم التوتر بين البلدين أمر الرئيس الصربي قائد جيشه بالتوجه، ليل الأحد 25 ديسمبر، إلى الحدود مع كوسوفو. وقال قائد الجيش الصربي ميلان مويسيلوفيتش في مقابلة مع قناة "بينك تي في" المحلية إن "الوضع هناك صعب ومعقد". وأضاف "هذا يتطلب في الفترة المقبلة وجود الجيش الصربي على طول الخط الإداري"، وهو المصطلح الذي تستخدمه بلغراد لتوصيف الحدود مع كوسوفو.
تاريخ الصراع العرقي
بعد وفاة زعيم الجمهورية اليوغوسلافية الاشتراكية جوزيب بروز تيتو عام 1981 طالب الألبان باستقلال إقليم كوسوفو عن صربيا، واعتباره إحدى الجمهوريات الفيدرالية داخل يوغوسلافيا بدلاً من كونه مجرد مقاطعة داخل صربيا، مما عزز دعاوى حماية القومية الصربية وساعد في وصول سلوبودان ميلوسيفيتش إلى السلطة في صربيا عام 1987 متعهداً بوقف النزعة الانفصالية، لكن الحملة القمعية التي شنها الزعيم الصربي ضد الألبان أدت إلى تصعيد المطالب في كوسوفو إلى الاستقلال الكامل.
بعد تفكك يوغوسلافيا واستقلال دولها في تسعينيات القرن الماضي سعى الألبان في إقليم كوسوفو إلى الاستقلال عن صربيا وإعلان دولتهم، وتشكل "تنظيم جيش كوسوفو"، وهو ميليشيات عسكرية دخلت في صراع مع الجيش الصربي، حيث اندلعت حرب في عام 1998، مما أسفر عن مقتل أكثر من 13 ألف شخص غالبهم من الألبان.
انتهى القتال في عام 1999 عندما تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) بشن حملة قصف جوي ضد صربيا مما أجبر قواتها على الخروج من كوسوفو، وفر أيضاً ما يقدر بنحو 200 ألف مدني صربي، وبقيت قوة حفظ سلام "كفور" يقودها الناتو في كوسوفو منذ ذلك الحين، فيما تعهدت صربيا بعدم الموافقة على انفصال ما تعتبره قلبها التاريخي، وهو موقف تدعمه روسيا والصين وحتى خمسة أعضاء في الاتحاد الأوروبي.
حرب أوكرانيا تزيد الأخطار
التوترات الحالية تزيد المخاوف من إشعال الحرب مجدداً بين عرقيتي الصرب والألبان، بعد 23 عاماً من الحرب. ويتوقع مراقبون أن تزيد الحرب الروسية في أوكرانيا تلك الانقسامات الجيوسياسية في شأن كوسوفو، فضلاً عن أن هناك خطراً من أن التصعيد يمكن أن يمتد إلى أجزاء أخرى غرب البلقان المضطرب، بما في ذلك البوسنة والهرسك، بحسب صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية.
ربما هذه المخاوف كان يتردد صداها داخل أوروبا حتى قبل التوترات الجارية. ففي أغسطس (آب) الماضي، قال الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، في مؤتمر صحافي عقد في بروكسل عقب اجتماعه مع الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش، إن قوات الأمن الدولية في كوسوفو "كفور" التي تعمل تحت رعاية الناتو مستعدة للتدخل إذا تعرض الاستقرار هناك للتهديد. ورداً على سؤال من الصحافيين حول ما إذا كان هناك خطر تصعيد، أجاب "هناك دائماً خطر، لذلك من المهم أن نجري هذه المفاوضات. يجب فعل كل شيء لمنع التصعيد. الناتو يفعل كل شيء من جانبه. من الأفضل منعه، لكننا مستعدون للتحرك إذا لزم الأمر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب مجلس العلاقات الخارجية الأميركي فإن حرب أوكرانيا زادت الأخطار بالنسبة إلى حكومات البلقان. وربما يكون وضع صربيا هو الأكثر خطورة، حيث يحاول الرئيس ألكسندر فوتشيتش التوازن بين جهود الاتحاد الأوروبي لعزل موسكو مقابل علاقات بلاده طويلة الأمد مع روسيا، لا سيما اعتمادها على الطاقة الروسية والدعم الدبلوماسي لموقفها من كوسوفو. ويقول مراقبون إن فوتشيتش سار حتى الآن على حبل مشدود، إذ أغضب موسكو وعديداً من أنصاره من خلال دعم قرار الأمم المتحدة الذي يدين غزو أوكرانيا، وفي الوقت نفسه أحبط قادة الاتحاد الأوروبي بامتناعه عن تبني العقوبات الغربية ضد روسيا. وبينما ضغط الاتحاد الأوروبي من أجل فرض حظر شامل على الطاقة الروسية، أبرمت بلغراد صفقة توريد غاز لمدة ثلاث سنوات مع موسكو.
وتقول وسائل إعلام أميركية إن الولايات المتحدة تمارس نفوذاً أكبر من نفوذ الاتحاد الأوروبي على قيادة كوسوفو، بينما تسعى صربيا للحصول على دعم من موسكو وكذلك من واشنطن وبروكسل في معالجة النزاع.
الدعم الروسي لصربيا
لكن يبدو أن تلك المنطقة ستكون نقطة توتر جديد بين روسيا والقوى الغربية. فالأربعاء، أعربت روسيا عن دعمها لحليفتها صربيا. وقالت إنها تتابع التطورات "بانتباه شديد"، بينما حذرت ألمانيا من تكثيف الوجود العسكري الصربي قرب حدود كوسوفو.
وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف للصحافيين "ندعم بلغراد في الخطوات التي تتخذها". وأضاف "صربيا دولة ذات سيادة ومن الخطأ بالأساس البحث عن نوع من التأثير المدمر لروسيا هناك". واعتبر بيسكوف أن "من الطبيعي أن تدافع صربيا عن حقوق الصرب الذين يعيشون في الجوار وسط ظروف بالغة الصعوبة، وأن ترد بشكل حازم حين يتم انتهاك حقوقها".
ويقول مجلس العلاقات الخارجية إن موسكو لطالما سعت إلى لعب دور متوازن من خلال دعم حلفائها الصرب، وهو هدف يعود إلى قرون مضت، حيث طورت الإمبراطورية الروسية روابط ثقافية وسياسية ودينية وثيقة مع البلقان. فمع سيطرة القوى الغربية الكاثوليكية والإمبراطورية العثمانية الإسلامية على تلك المنطقة المتنازع عليها، وضعت روسيا نفسها حليفاً وراعياً للسلاف المسيحيين الأرثوذكس، بخاصة في بلغاريا ورومانيا وصربيا.
ويتهم رئيس وزراء كوسوفو ألبين كورتي صربيا بخدمة المصالح الروسية. وقال رئيس كوسوفو فيوزا عثماني إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمكن أن يستخدم كوسوفو لتوسيع الصراع الحالي في أوكرانيا وزيادة زعزعة استقرار أوروبا، لكن رد الرئيس الصربي بأن مسؤولي كوسوفو يحاولون استغلال الانزعاج في شأن أوكرانيا لأغراضهم الخاصة.