تسعى معظم الدول إلى تجاوز الأزمات التي عصفت باقتصاداتها خلال ثلاث سنوات من اجتياح جائحة كوفيد لمناطق العالم، والتي أغلقت الحدود، وشلت سلاسل الإمداد، وعصفت بالتجارة، وأوجعت قطاع التجزئة، وخفضت إنفاق الدول والمستهلكين، مما دفع العديد من دول العالم وعلى رأسها الاقتصاد الأميركي للعديد من الإجراءات اللازمة لتخفيف آثار الأزمات.
قام قادة الاقتصاد الأميركي الأكبر عالمياً برفع أسعار الفائدة بصورة متتالية للحد من تنامي التضخم وارتفاعات الأسعار، في وقت أوقفت فيه الصين (مصنع العالم) الإنتاج والصادرات.
واعتمدت دول العالم لسنوات طويلة على المنتجات الصينية، ولكن مع اعتماد بكين استراتيجية "صفر كوفيد" توقفت الصين عن إمداد العالم بالبضائع، ناهيك بتداعيات الهجوم الروسي على أوكرانيا وولادة أزمة طاقة خانقة في الغرب، ولكن الصين تخلت عن استراتيجيتها "صفر كوفيد" منذ أيام قلائل لصالح دفع اقتصادها. ويظهر أن دول أوروبا الغربية أصبحت أكثر قدرة على تحمل أزمة الغاز.
صحيفة "التايمز" رصدت آفاق بعض الاقتصادات الكبرى في العالم، وأسباب الأمل في تجنب آثار أزمات عام يغادرنا وآخر مقبل.
الركود الأكثر توقعاً على الإطلاق
مع تداعيات تفشي جائحة كورونا، وارتفاع التضخم وأسعار المعيشة، خفض الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة بما مجموعه 1.5 نقطة مئوية في مارس (آذار) 2020 إلى نطاق من 0 في المئة إلى 0.25 في المئة، واستأنف سياسة التيسير الكمي على نطاق واسع، وأعلن شراء 700 مليار دولار أميركي من الأوراق المالية على مدى أشهر.
هذه الإجراءات أنقذت الاقتصاد، لكن الآثار الجانبية الناتجة عنها وأهمها التضخم استغرقت وقتاً أطول بكثير مما اعتقده المنظمون.
ومع دخول عام 2023 تكون احتمالات الركود شبه مؤكدة.
ورفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة مما يقرب من الصفر إلى ما بين 4.25 في المئة و4.5 في المئة، وهو أعلى مستوى في 15 عاماً، بعد سبع زيادات متتالية.
وتراجع مؤشر أسعار المستهلك في البلاد إلى 7.1 في المئة على أساس سنوي في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، منخفضاً عن ذروته 9.1 في المئة في يونيو (حزيران)، لكنه لا يزال أكثر من ثلاثة أضعاف هدف صانعي السياسة.
في غضون ذلك تباطأ النمو بشكل ملحوظ، وواجهت الولايات المتحدة تراجعاً تقنياً عابراً في عام 2022 بعد انزلاق الناتج المحلي الإجمالي إلى الانخفاض لربعين متتاليين. في حين يتوقع مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي نمواً سنوياً بنسبة 0.5 في المئة فقط في عام 2023 وقد اتهموا بأنهم ربما يتسببون في حدوث انكماش مستمر.
وقال ديفيد روبنشتاين، المؤسس المشارك والرئيس المشارك لمجموعة كارلايل، هذا الشهر، "هذا هو الركود الأكثر توقعاً على الإطلاق". وأضاف "في النهاية سيكون لدينا بعض الركود في مرحلة ما، لا أعرف متى، وعندما يكون لدينا سيقول الناس إنهم توقعوا ذلك".
وزاد أن "الحقيقة هي لا أحد يعرف حقاً، بما في ذلك الاحتياطي الفيدرالي، ما إذا كانت زيادة أسعار الفائدة، حتى الزيادة المتواضعة، ستضعنا في حالة ركود".
ألمانيا متعطشة للطاقة
بالنسبة إلى دولة ذات قاعدة صناعية كبيرة ومتعطشة للطاقة، فقد نجحت ألمانيا في تحمل العواصف الاقتصادية هذا العام بشكل جيد وغير متوقع، لكنها ستواجه اضطرابات أكبر في الأشهر المقبلة.
وحتى الآن، فإن القلق المنتشر في كل مكان من أن أسعار الغاز الطبيعي المرتفعة قد دمرت بشكل دائم أجزاء من قطاع الصناعة، إذ تم تجنب النقص في الطاقة في الوقت الحالي من خلال مزيج من أنابيب الغاز الواردة من روسيا خلال فصلي الربيع والصيف، بالإضافة إلى وحدة تجارية لاستقبال الغاز المسال تكلفت مبالغ هائلة، ولكنها وفرت شحنات غاز طبيعي مسال احتياطية في السوق.
واعتباراً من شهر مارس الماضي ستضع الدولة الألمانية أيضاً حداً لتكاليف الغاز والكهرباء لما يصل إلى 80 في المئة من الكميات المحروقة في السنوات السابقة، وهو إجراء يأمل المسؤولون في أن يبقي قدرات الأسر والشركات عند حد معقول من الاستهلاك، من دون أن تتحمل الحكومة كلفة كبيرة لدعم الأسعار.
ومع ذلك، هناك ثلاثة أسباب في الأقل تجعل عام 2023 أصعب بشكل ملحوظ مقارنة بعام 2022.
الأول هو أنه من المرجح أن تصبح الأسواق الأوروبية أكثر احتياجاً إلى الغاز بشكل ملحوظ الآن، بعد أن تضاءل تدفق الغاز الروسي إلى حد كبير، ومن المتوقع أن يزيد الطلب الصيني على الغاز الطبيعي المسال بفضل تفكيك استراتيجية "صفر كوفيد" في ذلك البلد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتقد الباحثون أن الأسعار الفورية قد تتأرجح بين 90 يورو (95.8 دولار) و200 يورو (212.9 دولار) لكل ميغاواط/ ساعة العام المقبل، حيث تواجه أوروبا عجزاً يصل إلى 30 مليار متر مكعب، أو نحو سبعة في المئة من متطلباتها.
وهناك إشارات مقلقة على أن الإنتاج قد بدأ بالفعل في الانخفاض في أكثر مجالات الصناعة كثافة في استخدام الطاقة، مثل السيارات والمواد الكيماوية والمعادن، حيث تقوم شركة "بي أي أس أف" (BASF) وهي شركة كيماوية ألمانية متعددة الجنسيات وأكبر منتج للكيماويات في العالم، بتقليص حجمها في أوروبا وتحويل نشاطها إلى الخارج. كما أفلس اثنان من مصنعي قطع غيار السيارات في ألمانيا.
أما المشكلة الثانية فتأتي من أميركا فقد دق نظام دعم التكنولوجيا الخضراء الجديد لإدارة بايدن أجراس الإنذار في برلين، وسط مؤشرات على أن المصنعين الألمان يحولون بالفعل عملياتهم عبر المحيط الأطلسي للاستفادة منها.
وأخيراً، فإن التوقعات الاقتصادية العالمية لعام 2023 ضعيفة، إذ يشير المتنبئون إلى أن نمو إجمالي الناتج المحلي الإجمالي قد يتباطأ إلى أقل من 1.2 في المئة، وهذه أخبار سيئة بشكل خاص لألمانيا، التي عادة ما تستمد ما يقرب من نصف ناتجها الوطني من الصادرات وتتعرض بشكل غير مريح لأي تمزق سياسي عالمي في المستقبل، لا سيما في ما يتعلق بالصين.
الصين تتخلى عن حذرها
من المتوقع أن تحقق الصين نمواً قوياً في العام المقبل، ربما يصل إلى خمسة في المئة، بعد أن تخلت بكين عن سياستها الصارمة بشأن عدم انتشار كوفيد هذا الشهر، وحولت تركيزها إلى استقرار وتوسيع الاقتصاد الوطني.
وقال باحثون في "جي بي مورغان" إن "أهم تطور الشهر الماضي هو إعادة فتح الاقتصاد الصيني، ولكن نأخذ في الحسبان فترة ألم انتقالية قبل أن يدخل الاقتصاد تعافياً قوياً".
كان الاقتصاد الصيني قد عانى بخاصة هذا العام، في ظل سياسة الرئيس شي جينبينغ في شأن عدم انتشار فيروس كورونا، مع عمليات الإغلاق المفاجئ المتكررة، وخطط الاختبار الشامل المستمرة والقيود الشديدة على تحركات الناس، لكن بعد وقت قصير من رفع بكين معظم قيودها الوبائية، أرسل الحزب الشيوعي إشارة واضحة مفادها أن الاقتصاد سيكون أولوية قصوى العام المقبل.
وقال هان ونشيو، عضو اللجنة المركزية للحزب، نائب المدير التنفيذي للمكتب المركزي للمجموعة القيادية المالية، لوكالة الأنباء الصينية الرسمية (شينخوا)، إن "اقتصادنا الوطني مرن ومليء بالحيوية ولم يتغير وسينمو على المدى الطويل". وأضاف أن "العام المقبل، من المتوقع أن ينمو اقتصادنا بشكل عام، مع تحسين تدابير الوباء، إلى جانب السياسات الاقتصادية والمالية الأخرى، سيكون لهذا تأثير إيجابي كبير في الانتعاش الاقتصادي والنمو"، لكنه حذر من إلغاء قواعد كوفيد قائلاً "من شأن ذلك أن يزعج الاقتصاد على المدى القصير ولكنه سيكون نعمة للعام المقبل، إذ سيسرع الاقتصاد تعافيه في النصف الأول من العام المقبل، وبخاصة في الربع الثاني، لدينا الثقة والظروف والقدرات لدفع اقتصادنا الوطني إلى التحسن".
وكان أداء الاقتصاد الصيني ضعيفاً هذا العام، مما أجبر بكين على التخلي عن هدف النمو السنوي المحدد عند 5.5 في المئة في مارس الماضي. كما تراجعت مبيعات التجزئة بنسبة 5.9 في المئة في نوفمبر الماضي، بعد انخفاض بنسبة 0.5 في المئة في أكتوبر (تشرين الأول)، كما خفض البنك الدولي توقعات النمو للصين لعام 2022 إلى 2.7 في المئة، بانخفاض عن 4.3 في المئة في يونيو.
الآثار العكسية لتباطؤ اليابان في رفع الفائدة
مع قيام الحكومة أخيراً بإعادة فتح حدود اليابان في أكتوبر الماضي، وإعادة تقديم الإعانات لتشجيع الرحلات الداخلية، يجب أن يقدم قطاع السياحة والسفر دفعة إلى الاقتصاد، مع ذلك، فإنه لن يكون حلاً سحريًا لعديد من الرياح المعاكسة التي تواجهها اليابان ومن المتوقع أن يتباطأ النمو إلى 1.6 في المئة.
أحد هذه التحديات هو التضخم، فعلى رغم أن هذا هو ما حاول بنك اليابان -من دون جدوى- تحفيزه لسنوات، فإن التضخم وصل إلى أعلى مستوى في 40 سنة عند 3.7 في المئة في أكتوبر، لكن لم يكن أي شخص، ولا حتى البنك المركزي، مسروراً بشكل خاص، ويرجع ذلك أساساً إلى أن التضخم مستورد بالكامل تقريباً في شكل ارتفاع أسعار السلع، وقد تم دفعه إلى الأعلى من خلال ضعف الين. ويرجع ضعف الين إلى حد كبير إلى التزام البنك المركزي سياسة أسعار الفائدة المنخفضة للغاية، بينما نفذ أقرانه في الخارج سلسلة من زيادات الأسعار، وهو أمر يبدو أنه سيستمر حتى عام 2023.