ينشط العرافون في نهاية كل عام فيستشيرون النجوم والأفلاك ليخرجوا إلى الجمهور بتوقعات غريبة عجيبة، قد يتحقق بعضها ويفشل بعضها الآخر. مع ذلك يكون المنجم أو العراف حقق هدفه ملبياً حاجة الجمهور إلى تطمينات حول ما يخبئه له الزمن.
والعراف لا يختلف أحياناً مع السياسي. وربما كان يقول، خصوصاً في أيامنا، ما يريد السياسي توصيله إلى مريديه. وفي لبنان نماذج من هؤلاء العرافين والعرافات الذين تلصق بهم تهمة الإتيان بتنبؤاتهم من سياسيين ومسؤولين أمنيين يهدفون إلى نشر ما ليسوا قادرين على إعلانه صراحة.
في الواقع يحاول السياسي استشراف المستقبل فيمزج بين فهمه للواقع وخططه للعمل والأهداف التي يبغي الوصول إليها ثم يقدم وصفة على شكل رؤية يأمل في أن تجذب إليه جموع المؤيدين، لكن ماذا لو كانت رؤية ذلك السياسي أقرب إلى تهيؤات العرافين؟ هؤلاء إذ يغطون توقعاتهم بلغة مطاطة لإبقاء احتمالاتها مفتوحة، قد يحصدون صدقية أكبر بما لا يقاس من قادة يعدون جمهورهم بما لن يتحقق في سبيل هدف واحد، تبرير البقاء في مركز السلطة والقيادة.
لعل تنبؤات نوستراداموس (1555) هي الأكثر شهرة في عالم العرافين. إليه يعود هواة النوع في كل عام لينسبوا إلى فقراته المكتوبة استشرافاً للمستقبل. وهذه السنة اكتشفوا أنه توقع للعام 2023 "حرباً عظيمة لمدة سبعة أشهر، يموت الناس فيها بسبب الشر". الاكتشاف هذا يحيل فوراً إلى التوتر الدولي الناشئ بسبب الهجوم الروسي على أوكرانيا، وقبله تصاعد الصراعات في مناطق عدة حول العالم. لم يكن الأمر بحاجة إلى نوستراداموس، أو إلى بابا فانغا البلغارية التي ينسب إليها توقع انحراف مدار الأرض هذا العام، لتأكيد المؤكد عن مستوى التأزم القائم والحاجة إلى البحث عن حلول، بدل السير في التنبؤات الفاجعة.
كان المرشد الإيراني علي خامنئي طموحاً إلى أقصى الحدود في استشراف أحوال العالم بقيادته. فرأى بما يشبه الأحلام أن "أميركا ستجبر على الانكفاء من أنحاء العالم" وأن "فكر المقاومة وجبهتها سينتشران بقيادة إيران التي ابتكرت هذا الأمر"، لكن دميتري ميدفيديف الرئيس الروسي السابق (التوأم السياسي للرئيس فلاديمير بوتين) ذهب أبعد من ذلك في توقعاته للعام الجديد. لقد تبنى رؤية نوستراداموس وشرحها بالنقاط الملموسة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رأى ميدفيديف أن بريطانيا ستعود إلى الاتحاد الأوروبي الذي سينهار وينهار معه اليورو. وسيتم إنشاء الرايخ الرابع ليشمل أراضي ألمانيا وتوابعها، أي بولندا ودول البلطيق وتشيكيا وسلوفاكيا وجمهورية كييف، وستندلع الحرب بين فرنسا والرايخ الرابع ليتم تقسيم أوروبا وإعادة تقسيم بولندا. وستنفصل إيرلندا الشمالية عن بريطانيا لتنضم إلى جمهورية إيرلندا، ثم إن الحرب الأهلية ستندلع في أميركا، فتستقل ولايتا كاليفورنيا وتكساس التي ستتحالف مع المكسيك، وتغادر أسواق المال والأسهم أميركا وأوروبا إلى آسيا.
لا يلتقي ميدفيديف في تأملاته وآماله مع العراف الراحل قبل قرون، وإنما يشرح رؤية خامنئي وغيره من القادة المماثلين وتمنياتهم (في كوريا الشمالية وبيلاروس...)، في جعل الأرض مكاناً غير صالح للعيش، وليصبح العالم الذي يقطنه 8 مليارات بشري رهن حماقة العرافين الجدد من ذوي العقل الديكتاتوري، منظري الاستبداد وأنظمته.
يلبي فلكيو العرافة رغبة العاجزين والمقموعين الخائفين على يومهم وغدهم. ومهمة القادة السياسيين والمفكرين هي تقديم الأجوبة والحلول والسعي إلى تحقيقها. لم يقترح الزعيم الروسي علاجاً وإنما تمنيات بخراب عميم، أما الزعيم الإيراني، فاكتفى بالجلوس في كهفه منتظراً سقوط العالم في أحضانه. وفي المقابل يسعى مسؤولون آخرون إلى جعل حياة بلدانهم والعالم أفضل. هؤلاء هم الأكثرية تجمعهم الخبرة والتجربة والحرص على حياة الكوكب وسكانه.
ليست الحروب قدراً لا مفر منه، وكل المشكلات والقضايا يفترض أن تطرح للبحث والنقاش وصولاً إلى حلول لها.
في إحدى مقالاته الأخيرة تذكر هنري كيسنجر الذي يكمل قرناً من العمر هذه السنة، الحرب العالمية الأولى واعتبرها "نوعاً من الانتحار الثقافي".
رأى كيسنجر أن "القادة في حينه ترددوا في بدء عملية سلام رسمية، ثم سعوا إلى وساطة أميركية، لكن الرئيس وودرو ويلسون تأخر إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في نوفمبر (تشرين الثاني)، وبحلول ذلك الوقت أضاف هجوم السوم البريطاني وهجوم فردان الألماني مليوني ضحية".
يقرأ كيسنجر في تلك التجربة الدموية مقترحاً عدم تكرارها. فالعالم "يجد نفسه عند نقطة تحول مماثلة في أوكرانيا، والوقت يقترب للبناء على التغييرات الاستراتيجية التي تم تحقيقها بالفعل ودمجها في هيكل جديد نحو تحقيق السلام من خلال المفاوضات".
على خط معاكس لرؤى ميدفيديف الكارثية وأوهام خامنئي الكونية، يفترض المسؤول الأميركي السابق أن التغييرات الاستراتيجية المحققة تتضمن تحول أوكرانيا إلى "دولة رئيسة في وسط أوروبا للمرة الأولى في التاريخ الحديث"، وهي" أحبطت القوات الروسية التي كانت تخيم على أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية". أما التغيير الثالث، فهو في أن "النظام الدولي، بما في ذلك الصين، يعارض التهديد باستخدام روسيا أسلحتها النووية".
بدلاً من سوداوية التوقعات النوستراداموسية يقترح كيسنجر كـ"فلكي عاقل" عملية سلام من شقين، تأكيد استقلال أوكرانيا وتحديد هيكل دولي جديد، بخاصة لأوروبا الشرقية والوسطى، تجد فيه روسيا مكاناً لها".
رحبت موسكو برؤية كيسنجر، بل اعتبرته وسيطاً محتملاً، أما تخيلات ميدفيديف وأقرانه، فربما تجد مكاناً لها بين مغذيات نظريات المؤامرة التي تتحكم بسلوكات قادة متشابهين.