بقدر ما خطت النساء أشواطاً طويلة ناحية التحرر، يجدن من يريد جرهن إلى عصور كانت تسيطر عليها فكرة "عدم الآدمية" من الأساس، والفارق فقط أن الأمر بات الآن مقنعاً خلف تسميات عدة، وفي حين أن وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" تستعد لإرسال أول امرأة إلى سطح القمر، هناك من يريد أن ينزل بجنسها إلى تحت الأرض.
فكرة الاتجار بالنساء قد تكون غريبة وغير معقولة في العقد الثالث من القرن الـ21، لكن المأساة يقيناً لم تختفِ كلياً حتى مع التقدم العلمي والمواثيق الثقافية والاجتماعية والتعاقدات القانونية، فقط بات لها تسميات مختلفة. وعلى رغم أن عبارة "بيع النساء" ترددت هكذا بكل صراحة وبساطة في أكثر من نبأ على مدار الفترات الماضية، فإن مفاجآت الكرة الأرضية، التي تأتي دائماً على شكل صدمة، غير قابلة للاستيعاب بسهولة.
من سوق في شرق أوروبا لاستعراض النساء إلى آخر في الهند وسط خطاب الكراهية المتفشي ببعض المناطق إلى ثالث في بريطانيا يقام كوسيلة للتعبير عن وضع كارثي كان ينبغي التنبيه له بطريقة غير معتادة، إلى طرق شتى لا تنتهي في دول عربية، أبرز تلك التي تتغطى تحت ستار الزواج، سواء كان مرهوناً بفترة معينة، أو كانت الفتاة لا تزال قاصراً، كلمة "امرأة ـ woman" التي كانت هي الأكثر بحثاً على موقع dictionary.com خلال العام الماضي، لا تعبر عادةً عن حب بريء للنساء أو محاولة فهمهن والتعاطف معهن، ولكن ربما في غالب الوقت يكون الهدف في الأساس هو الاستغلال.
قوانين حازمة وانتشار واسع
وبحسب "الإنتربول" (منظمة الشرطة الجنائية الدولية)، فالاتجار بالبشر يسمح للشبكات الإجرامية بجني أرباح مجموعة متنوعة من الأنشطة غير المشروعة من دون مخاطرة، حيث تضطر الضحايا إلى تنفيذ مجموعة من الأنشطة غير القانونية، والتي بدورها تولد الإيرادات، وتشمل الأنشطة على سبيل المثال السرقة، أو زراعة المخدرات، أو بيع السلع المقلدة، أو التسول القسري، ويمكن أن يواجه الضحايا عقوبة قاسية إذا لم يؤدوا أداءً كافياً، كما أن لهم نسبة من الأرباح.
بالطبع، تنظم كل دولة آلية التعامل مع مثل تلك الحالات وفقاً لقوانينها. وتقول المحامية صفاء عبدالبديع أبو حسن عضو القومي للمرأة بالقاهرة، إن الاتجار بالبشر جريمة صارخة وانتهاك لحقوق الإنسان، سواء كان الضحية امرأة أو رجلاً أو طفلاً أو طفلة، لافتة إلى أن الدستور المصري نص في المادة 89 على أنه تحظر كل صور العبودية والرق والقهر والاستغلال القسري للإنسان في تجارة الجنس، وغيرها، كما أن قانون مكافحة الاتجار بالبشر رقم 64 لسنة 2010 نص في مادته الثانية على أنه يعد مرتكباً لجريمة الاتجار بالبشر كل من يتعامل بأي صورة على بيع واستغلال الإنسان، ومن تلك الصور البيع والشراء أو الوعد بهما، أو الاستخدام أو النقل والتسليم داخل وخارح البلاد أو الإيواء أو الاستقبال باستعمال القوة والعنف والتهديد بهما أو الخداع والاختطاف واستغلال السلطة، والاحتيال. وشددت المادة على أن استغلال السلطة هنا أن يكون الجاني له قوة على الضحية أو وصياً عليها مثل الأب، أو له سلطة قانونية أو سطة فعلية مثل سلطة الطبيب على المريض، فقد يستغل الطبيب تلك المكانة ببيع جزء من أعضاء الضحية، وكذلك سلطة الزوج على الزوجة، فإذا استغلها في العمل بالدعارة أو التكسب من أعمالها المنافية للآداب وأجبرها على هذا الأمر، فهنا تقع الجريمة كذلك.
ومن ضمن الشروط أيضاً أن يكون كل ذلك تم بغرض الحصول على مقابل مادي أو منفعة، فحتى لو لم تكن المجني عليها دون السن القانونية فطالما أنها أجبرت على تلك الأفعال مقابل أن يحصل زوجها أو أبوها على الأموال مقابل استغلالها، تقع الجريمة لأنها تكون تحت التهديد.
الاتجار بالنساء بتواطؤ مجتمعي
من المعروف أن الاتجار بالجنس هو أبرز أنواع الاتجار بالبشر، ووفق تقديرات منظمة العمل الدولية، فإن 98 في المئة من ضحايا هذا النوع من النساء والفتيات في مناطق متفرقة من العالم، وبحسب ما يأتي على الموقع الرسمي لـ"الإنتربول"، فإن الاتجار بالنساء بهدف استغلالهن جنسياً يشمل البلد المصدر أو بلد العبور أو بلد المقصد، وينتشر في الدول النامية، وبخاصة القطاعات الضعيفة بها، والذين يصدقون بأوهام حياة أفضل من قبل الشبكات المنظمة التي تحتجزهن فيما بعد في ظروف غير إنسانية بوثائق مزورة لتجبرهن على تقديم الخدمات الجنسية، ولكن هناك أيضاً علاقات معلنة ومقننة بأوراق حتى لو لم تكن الأوراق مستوفية الشروط مئة في المئة، فإنها على رغم قبولها "اجتماعياً" تندرج أيضاً تحت بند الاتجار بالبشر، وبالنساء على وجه التحديد، وهو ما توضحه بشكل أكثر تفصيلاً دعاء عباس رئيس الجمعية القانونية لحقوق الطفل والأسرة، التي ترى أن "زواج القاصرات الذي لا يزال منتشراً في عدة مناطق بالدول العربية، بينها بعض القرى في مصر، هو نوع من أنواع الاتجار بالبشر، وإن كان الأمر يشمل أيضاً النوعين الذكور والإناث ممن يتم تزويجهم تحت سن 18 عاماً، ولكنه بالطبع يخص بصورة أكبر الفتيات باعتبار أن نسبتهن تتفوق في تلك النوعية من الجرائم، لافتة إلى أن القانون كان يحدد سن الزواج للفتاة بدءاً من 16 عاماً، ولكن منذ عام 2008 أصبحت السن القانونية 18 عاماً لمحاولة تجنب مشكلات الحمل والولادة التي تصاحب زواج الفتيات في سن صغيرة، حيث تزداد بشدة نسبة الوفيات بسبب مخاطر الولادة للصغيرات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضافت أن القانون لا يسمح بتسجيل الزيجة رسمياً إلا بعد الوصول للسن المسموح بها، وهنا تذكر أمثلة كثيرة تتعلق بوفاة الزوج قبيل أن تتم الزوجة الـ18 عاماً، كأن يكون لديها طفل أو اثنان، وهنا تدخل في دوامة تهدر فيها سنوات عمرها، ولكن القانونية المصرية تؤكد أيضاً أن قانون الأحوال الشخصية المنتظر إقراره في مصر قريباً يحمل مزيداً من العقوبات الرادعة على ولي الأمر وعلى المأذون الذي يعقد قران زيجة أحد طرفيها لم يبلغ السن القانونية، وهو هنا يكون الفتاة عادةً، حيث سيكون بانتظارهما عقوبة جنائية شديدة.
الأهل أيضاً متورطون
بمتابعة بعض تريندات السوشيال ميديا في الفترة الأخيرة سنجد أن صور الأطفال الذين يحتفي أهاليهم بارتباطهم بدأت في الانتشار مجدداً، حيث تتحرك فوراً الجهات المعنية لمحاولة كشف الملابسات والتحقيق مع ذويهم، بينها المجلس القومي للطفولة والأمومة الذي تحرك في واقعة فتاة محافظة الشرقية التي ضجت بها السوشيال ميديا بعد التشكيك بعذريتها عقب ساعات من زواجها، حيث إن ولي أمرها ارتكب مخالفة قانونية من الأساس بتزويجها وهي لا تزال قاصراً.
تعود صفاء عبدالبديع للتأكيد أن المجالس القومية بموجب القانون بات لها الحق في تلقي البلاغات وتحريك الدعوى الجنائية في حالة وقوع مثل هذه الجرائم، لافتة إلى أن المجلس يتلقى الشكوى ويحرك الدعوى القضائية بعد التأكد من صحتها ويساند الضحية عن طريق تخصيص فريق دفاع بلا مقابل مادي يتابعون كافة درجات التقاضي، وبالطبع هذا إضافة إلى دور المجلس القومي للمرأة الرئيس في التوعية للأسر والأفراد بأن قيام الأهل بتزويج الفتاة من دون رضاها وبالإكراه حتى لو فوق 18 عاماً، فهذا يضعهم تحت طائلة القانون ويعاقبون كمتاجرين بالبشر، أو إذا تم تزويج الفتاة القاصرة مقابل الانتفاع بمهرها، فهذه أيضاً جريمة.
أسواق بيع النساء
عالمياً، حتى الآن يثار الجدل حول سوق الفتيات المقبلات على الزواج في بلغاريا، ويحمل عنوان GYPSY WOMEN MARKET، ويقام خلال أربعة مواسم من العام، وفيه تقوم العائلات بتزيين بناتهن في محاولة للحصول على زوج ثري، ويصل الأمر إلى تركهن الدراسة إذا ما حصلت الأسرة على صفقة جيدة، وعلى رغم تقلص الحضور عاماً بعد آخر، ومحاولات مناهضة هذا التصرف، فإنه لا يزال تقليداً مرتبطاً بعادات الشعب هناك، فقد عرفت مدينة ستارا زاكورة بإقامة مثل هذا النشاط، الذي يتخذ طابعاً احتفالياً، بالتالي لا يزال هناك جدل حول تجريمه.
وفي الهند اعتقلت سلطات مدينة مومباي، العام الماضي، مجموعة من النساء والرجال الذين أقدموا على عرض عشرات النساء للبيع عبر تطبيق Bulli Bali، بعد أن أنشأوا مزاداً إلكترونياً. وبالتحقيق تبين أن الهدف كان إهانة المسلمات المعروفات بنشاطهن ضد التمييز في بعض المناطق الهندية، وليس البيع الفعلي، حيث تكرر هذا الفعل أكثر من مرة بسبب توتر العلاقات بين أصحاب الديانات المختلفة في الهند، لكن على أرض الواقع الأمر لا يبدو بعيداً، فقبل سنوات أقرت الأمم المتحدة بأن تنظيم "داعش" يبيع النساء كعبيد في بعض مناطق سوريا والعراق، وهو الأمر الذي جعل أحد النشطاء الأكراد ينظم وقفة احتجاجية في العاصمة لندن في أكتوبر (تشرين الأول) 2014، ومعه مجموعة من النساء المقيدات بسلاسل، مشيراً إلى أنه يبيعهن وفقاً لتعاليم تنظيم "داعش"، وكان يهدف بهذا التصرف إلى إظهار حجم المأساة التي تتعرض لها النساء المحتجزات في سوريا والعراق على يد التنظيم المتطرف الذي لا يزال مطارداً ومشتتاً.
أرقام حول العالم
الأمم المتحدة بدورها تعتبر أن موافقة الدول على بروتوكول منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص، بخاصة النساء والأطفال، يعد أمراً مكملاً لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة، بحسب ما جاء على موقعها الرسمي، ولكن مع ذلك لا تزال هناك تحديات كبيرة لمواجهة مثل تلك الجرائم، حيث أشارت المنظمة إلى ضرورة وجود صك دولي لمنع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص، وبخاصة النساء والأطفال، لمكافحة تلك الجريمة، كما تقر "اليونيسف" بأن 21 في المئة من الفتيات حول العالم تزوجن قبل بلوغهن الـ18 عاماً، وأن هناك 12 مليون فتاة يتزوجن سنوياً دون السن القانونية، ما يقرب من 40 في المئة منهن بقارة أفريقيا.
وتكافح المنظمة بشتى الطرق هذا الأمر، إذ إن هناك تبعات لا حصر لها جراء هذا الفعل، وبحسب ما جاء على موقع "اليونيسف" نصاً، "قد يؤدي زواج الأطفال إلى معاناة مدى الحياة. فالبنات اللاتي يتزوجن قبل بلوغهن سن الثامنة عشرة أقل احتمالاً للاستمرار في المدرسة، ويزيد احتمال تعرضهن للعنف المنزلي". وتشير المنظمة كذلك إلى أن احتمال الوفاة بسبب مضاعفات الحمل والولادة أكبر عند المراهقات مقارنة بالعشرينيات من العمر، وأجنتهن أكثر عرضة للولادة بمضاعفات تؤدي للوفاة السريعة.
وتعزز تلك الأمور دراسة أجريت قبل عامين، ونشرت في دورية "بلوس ون"، وشملت ناجيات مكسيكيات من الاتجار بالجنس يعانين اضطرابات نفسية، ويعشن في قلق دائم حتى بعد إنجابهن أطفالاً نظراً إلى عدم ثقتهن بأنفسهن، حيث كان يتم بيعهن لممارسة الجنس في اليوم أكثر من 15 مرة، وفي حال الاعتراض يتعرضن للعنف والابتزاز والتهديد.
ومحلياً، على سبيل المثال فإن القانون المصري يعاقب بالسجن والغرامة من تنطبق عليه تهمة الاتجار بالبشر. وبحسب عضو المجلس القومي للمرأة صفاء عبدالبديع، فإن تلك العقوبة يتم تغليظها، وتشدد بالسجن المؤبد، ومضاعفة الغرامة في حالات معينة، أبرزها إذا كانت الأمر يتم في إطار جماعة تتاجر بالبشر، وإذا كانت الجريمة لها طابع دولي، وإذا كانت تحت التهديد أو التعذيب والجاني يحمل سلاحاً، وإذا كان الجاني زوجاً للمجني عليها أو لديه ولاية عليها، وإذا نتج عنها وفاة أو عاهة مستديمة أو المجني عليه عديم الأهلية، لافتة إلى أن التزامات الدولة هنا تجاه الضحايا تقضي بحمايتهم ومساعدتهم قانوناً واستضافتهم في أماكن تابعة لها ودمجهم مجتمعياً بوضع برامج تعليم وتأهيل على يد متخصصين.
دراسة صادمة
في عام 2015 صدرت أول دراسة علمية شاملة حول الاتجار بالنساء في مصر، وتناولت القرى التي تمارس تلك العادة عن طريق تزويج الفتيات الصغيرات للأثرياء من دون رغبتهن، وطرحت في كتاب للباحث حمدي الحناوي، وشملت حجم عينة تجاوز 1200 فرد، بينهم نساء من الضحايا، ومما خلصت إليه أن "الأسباب الاقتصادية هي التي تقف بالأساس وراء هذا النوع من الاتجار، وأن هناك عصابات متخصصة بها". ولفت الباحث إلى أن هناك 14 شكلاً للمتاجرة بالنساء في مصر، بينها المعاقبة بالحرمان من الحقوق بسبب الجنس وزواج القاصرات والتحرش والختان والحرمان من الميراث، وغيرها. وأخيراً، باتت تهمة الاتجار بالبشر تعلق بوسائط أخرى، وهي الإنترنت، فعلى مدار السنوات الماضية تمت معاقبة من أطلق عليهن "فتيات تيك توك" بتهم مماثلة، وتمت إدانة بعضهن باستغلال غيرهن للإيقاع بهن عن طريق نشر فيديوهات "خادشة" مقابل الحصول على المال.
وترى القانونية دعاء عباس أن مباحث الإنترتت هي المتخصصة بالجرائم الإلكترونية التي قد تتضمن فيديوهات أو صوراً فاضحة، لافتة إلى أن بعض تلك الحالات تكون إعلانات صريحة للاتجار بالنساء، بينها مثلاً شخص يطلب عاملة منزلية لا يزيد عمرها على 16 عاماً، أو آخرون ينشرون الفحش من خلال وسائط معينة، مشيرة إلى أن انتشار كل تلك الوسائط يصعب المهمة جداً، نظراً إلى الكم الهائل لما ينشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأبرزها "تيك توك". وأكدت أن كثيراً منها ينطبق عليها مواد قانون العقوبات، إذ قالت إن الإعلان الصريح ببيع النساء، سواء كان إلكترونياً أو غيره، قد تصل عقوبته إلى السجن 15 عاماً، وتشدد أيضاً على أن مكاتب العمل غير المرخصة، التي تستغل النساء للترويج لأعمال منافية للآداب، تصنف على أنها واجهات للاتجار بالبشر، وبحسب ما تشير أيضاً فإن استغلال الأطفال، ذكوراً أو إناثاً، في أعمال فنية غير ملائمة لعمرهم، يندرج تحت البند نفسه، ضاربةً المثل بالطفل كريم الأبنودي الذي ظهر في فيلم "حلاوة روح"، بطولة هيفاء وهبي، عام 2015.
وتختتم المحامية وعضو المجلس القومي للمرأة صفاء عبدالبديع تعليقها على الأمر، قائلة، "جميع أشكال الاتجار بالبشر يجرمها ويعاقب عليها القانون المصري، سواء كان استغلالاً جنسياً أو الخدمة أو التسول أو الاسترقاق أو سرقة الأعضاء أو تشغيل المرأة الأجنبية في الدعارة أو كخادمة رغماً عنها عن طريق تهديدها، أو تشغيل الأطفال في تصوير فيديوهات إباحية، أو التسول، وفي حالة الأطفال بالتحديد لا يعتد بموافقة المجني عليه، حتى لو كانت كتابية وموثقة، فما دامت الضحية دون السن القانونية أو كانت شخصاً عديم الأهلية، تقع الجريمة كاملة حتى من دون استخدام أي وسيلة خداع أو تهديد".