لم تطوِ جائحة كورونا سنتها الثالثة قبل أن تقلب العالم رأساً على عقب، وتحصد ملايين الوفيات وتترك كثيرين يكابدون حالات صحية طويلة الأمد. وإذ تراجعت الإصابات نتيجة العدوى الطبيعية والتلقيح ضد الفيروس، كما يقول الخبراء، لم يتوقف عداد الإصابات وحالات الدخول إلى المستشفى في بلاد كثيرة، شأنه شأن المتحورات التي لا تنفك تظهر حاملة معها طفرات جينية جديدة آخرها "أكس بي بي" XBB المتفرعة من "أوميكرون". وإذ يعول كثيرون على المناعة المتولدة من العدوى الطبيعية واللقاحات المضادة الأساسية منها والمعززة، والتي شكلت اختراقاً طبياً في حد ذاتها، ظهرت أدلة مقلقة تفيد أن التطعيمات المتكررة ربما تذكي التطور السريع لهذا الفيروس الفتاك.
يفيد تقرير أخير نشرته "وول ستريت جورنال"، أن خبراء في الصحة العامة يدقون ناقوس الخطر في شأن "أكس بي بي" الجديدة، ذلك أنها تتفشى دون هوادة في مختلف أنحاء شمال شرقي الولايات المتحدة. والمثير للقلق نتائج خلصت إليها دراسات عدة تقول إن هذه المتحورة مختلفة عن سلالة "كوفيد" الأصلية التي ظهرت في ووهان الصينية بقدر اختلاف المتلازمة التنفسية الحادة الشديدة "سارس" التي تعود إلى 2003. بناء عليه، تسأل الصحيفة هل على الأميركيين أن يشعروا بالقلق؟
في الحقيقة، ليس واضحاً بعد أن إذا كانت "أكس بي بي" أكثر فتكاً مقارنة مع المتحورات الأخرى، بيد أنها بفعل الطفرات الجينية التي طرأت عليها قادرة على أن تتفادى الأجسام المضادة المتولدة في الجسم نتيجة عدوى طبيعية سابقة واللقاحات المضادة، أضف إلى ذلك العلاجات بالأجسام المضادة الآحادية النسيلة، علماً أنها جزيئات مصممة مخبرياً تعمل كأجسام مضادة بديلة يمكنها أن تستعيد أو تعزز أو تعدل أو تحاكي هجمات الجهاز المناعي ضد الأجسام غير المرغوب فيها. كذلك تشير أدلة متزايدة إلى أن التطعيمات المتكررة قد تجعل الناس أكثر عرضة للإصابة بـ"أكس بي بي"، وربما تعمل على تأجيج التطور السريع للفيروس.
قبل ظهور "أوميكرون" في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، لم نشهد سوى أربع متحورات تبعث على القلق: "ألفا" Alpha و"بيتا" Beta و"دلتا" Delta و"غاما" Gamma. وحدهما "ألفا" و"دلتا" تسببتا في ارتفاعات مفاجئة وكبيرة في الإصابات على مستوى العالم، ولكن "أوميكرون" خلف متحورات متفرعة عدة، وقد اجتاح الكثير منها مناطق مختلفة حاملاً بعضاً من الطفرات الجينية عينها.
في الواقع، شكل "ذلك الظهور السريع والمتزامن لمتحورات متعددة تتمتع بمزايا نمو مهولة"، على ما جاء في دراسة تعود إلى 19 ديسمبر (كانون الأول) نشرتها مجلة "نيتشر" Nature، مدفوعاً بضغوط تطورية انتقائية، يبدو أن الفيروس قد طور طفرات جينية تسمح له بالانتقال بسهولة بين الناس، والتهرب من الأجسام المضادة الناجمة عن اللقاحات والعدوى السابقة.
وتفترض الدراسة نفسها أن البصمة المناعية ربما تسهم في تطور الفيروس. ومعروف أن اللقاحات المضادة تؤدي دورها في تدريب الجهاز المناعي على تذكر المتحورة الأصلية التي ظهرت في ووهان، من ثم التخلص منها، ولكن عندما تظهر سلالات جديدة وشديدة الاختلاف، تكون استجابة جهاز المناعة أضعف. لذا كان تطوير اللقاحات ثنائية التكافؤ، كما تسمى، المضادة للسلالة الأولية للفيروس التي ظهرت في ووهان ومتحورة "بي أي. 5" (BA.5) معاً، والتي تحفز جهاز المناعة على إنتاج أجسام مضادة تستهدف السمات الفيروسية التي تشترك فيها السلالتان، ولكن وفق نظرية داروين التطورية، في نهاية المطاف تنتصر الطفرات الجينية التي تسمح للفيروس بالتهرب من الأجسام المضادة الشائعة، وتجعله "أكثر انسياباً وقدرة على الإفلات [من المناعة]".
هكذا، تطورت "أكس بي بي" لتكون قادرة على مراوغة الأجسام المضادة التي تولدها اللقاحات المضادة والإصابات الخارقة للتطعيم، أي الإصابة بالفيروس على رغم أخذ اللقاح. من ثم، تشير دراسة "نيتشر" إلى أن "المناعة المجتمعية، أو مناعة القطيع، السائدة حالياً والجرعات التحصينية المعززة ضد "بي أي. 5" ربما لا تصد بشكل فاعل عدوى المتحورات المتقاربة من "أوميكرون".
كذلك قدمت دراسة نشرت في المجلة الطبية "نيو إنغلاند" الشهر الماضي أدلة إضافية على قابلية التأثر بالفيروس بسبب البصمة المناعية. في النتائج، كانت الأجسام المضادة المحايدة التي حملتها دماء الأشخاص الذين تلقوا اللقاحات الثنائية التكافؤ أعلى بمقدار 26 مرة ضد متحورة ووهان الأصلية مما كانت عليه ضد "أكس بي بي"، وأعلى بأربعة أضعاف مما كانت عليه ضد "أوميكرون" ومتحورة "بي أي. 5".
على المنوال عينه، وجدت دراسة نشرت الشهر الحالي في مجلة "سيل" Cell أن مستويات الأجسام المضادة لدى من تلقوا أربع جرعات تحصينية كانت أعلى بـ145 مرة ضد سلالة ووهان الأصلية مقارنة مع متحورة "أكس بي بي". ولم ترفع الجرعة المعززة من اللقاحات الثنائية التكافؤ معدل الأجسام المضادة ضد "أكس بي بي" إلا بشكل طفيف، ولكن مع ذلك، يدعي الخبراء أن الجرعات المعززة تعمل على تعزيز الحماية ضد "أكس بي بي". يبدو أنها "معلومات مضللة"، على ما يحلو للخبراء وصف أي أخبار يريدون تأكيد عدم صحتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذ تابعت "وول ستريت جورنال" عرض الدراسات، تطرقت إلى دراسة نهض بها المركز الطبي الأميركي "كليفلاند كلينك" وتتبعت العاملين في قطاع الرعاية الصحية. في النتائج، تبين أن اللقاحات الثنائية التكافؤ قلصت خطر الإصابة بالعدوى بنسبة 30 في المئة أثناء تفشي متحورة "بي أي. 5". وكما أوضحت الدراسة، لعل السبب أن العمال الذين كانوا أكثر توخياً للحذر والحيطة، بمعنى أنهم أكثر مواظبة على ارتداء كمامات "أن 95" التي توفر أكبر قدر من الحماية وتجنب التجمعات الكبيرة، ربما كانوا أكثر ميلاً أيضاً إلى أخذ الجرعات التعزيزية.
وكان لافتاً أن العمال الذين تلقوا عدداً أكبر من الجرعات كانوا أكثر عرضة للإصابة بالمرض. الأشخاص الذين أخذوا ثلاث جرعات تحصينية إضافية كانوا أكثر عرضة للإصابة بالعدوى بمقدار 3.4 مرة من غير الملقحين، في حين أن من تلقوا جرعتين زاد احتمال إصابتهم بمقدار 2.6 مرة فقط.
وأشار الباحثون إلى أن "هذه ليست الدراسة الوحيدة التي تجد علاقة محتملة بين التطعيم السابق بمزيد من الجرعات التحصينية وبين زيادة خطر الإصابة بـ"كوفيد-19"، ما زال أمامنا الكثير لنتعلمه في شأن الحماية المستقاة من التطعيم ضد "كوفيد-19"، وإضافة إلى فاعلية اللقاح، من المهم التأكد مما إذا كانت جرعات اللقاح المتعددة التي يتلقاها المطعمون بمرور الوقت ربما لا تترك التأثير المفيد المفترض عموماً".
وقبل عامين، أجدت اللقاحات نفعاً في الحد من المضاعفات الصحية الشديدة الوطأة التي يتسبب فيها الفيروس، لا سيما في صفوف المسنين ومن يكابدون مخاطر صحية مثل داء السكري والسمنة، لكن الخبراء يرفضون الاعتراف بأن الجرعات المعززة قد أسفرت عن فوائد متناقصة، وربما جعلت الأفراد والسكان ككل أكثر عرضة للمتحورات الجديدة من قبيل "أكس بي بي".
لعله ليس من قبيل المصادفة أن إصابات "أكس بي بي" ارتفعت هذا الخريف في سنغافورة التي سجلت أحد أعلى معدلات التطعيم باللقاحات والجرعات المعززة في العالم. على مدار الأسابيع القليلة الماضية، هيمنت سلالة "أكس بي بي" على المتحورات الأخرى في نيويورك ونيوجيرسي وكونيتيكت وماساتشوستس، إذ استحوذت على نحو ثلاثة أرباع عينات الفيروسات التي خضعت لفحوص التسلسل الوراثي أو الشيفرة الجينية، ولكن كانت انطلاقة المتحورة أبطأ في مناطق أخرى، مشكلة 6 في المئة فقط من الإصابات في وسط غرب الولايات المتحدة، ونحو 20 في المئة في الجنوب. كذلك سجلت منطقة شمال شرقي الولايات المتحدة أعلى معدلات التطعيم والتلقيح بالجرعات المعززة في البلاد.
في الوقت نفسه ارتفع معدل الاستشفاء في شمال شرقي الولايات المتحدة، ولكن بالدرجة الأولى بين من تخطوا 70 عاماً من العمر. قد يكون أحد الأسباب أن استجابة الخلايا التائية T-Cell التي تشكل القوات الدفاعية المتمركزة خلف الأجسام المضادة الواقفة في الخطوط الأمامية، تكون أضعف لدى المسنين. ليس في مستطاع الفيروس التهرب من الخلايا التائية المتولدة عن اللقاحات والعدوى الطبيعية بالسهولة عينها التي يتملص بها من الأجسام المضادة. نتيجة الخلايا التائية، ما زال الشباب يتمتعون بحماية جيدة ضد المتحورات الجديدة.
ربما يكون السبب الآخر أن الأجسام المضادة وحيدة النسيلة غير فاعلة ضد "أكس بي بي"، في حين يعجز كثر من المسنين الذين يصابون بـ"كوفيد" عن تناول عقار "باكسلوفيد" المضاد للفيروسات لأنهم يعانون أصلاً حالات طبية مزمنة مثل أمراض الكلى الحادة أو يتناولون أدوية تتعارض مع هذا الدواء.
في ما يتصل بالولايات المتحدة تحديداً، تقول "وول ستريت جورنال" إن إدارة جو بايدن قد صبت تركيزها على اللقاحات متناسية العلاجات الجديدة، ما ترك الفئات الضعيفة صحياً من الأميركيين أكثر عرضة للمتحورات الجديدة، ولكن لماذا لا يعتري الخبراء قلق تجاه هذه الحقيقة؟ تسأل الصحيفة.
وعالمياً، ومع دخول الجائحة عامها الرابع من دون إجابات شافية حول منشأ كورونا وعدد الأرواح التي فتك بها، وفرصة الشفاء من "كوفيد طويل الأمد" من عدمها... وغيرها، لا بد من النهوض بدراسات إضافية في شأن التطعيمات المتكررة وما إذا كانت فعلاً تذكي التطور السريع لهذا الفيروس، فليست هذه أنباء عادية، والأجدر أن لا تمر مرور الكرام على ما نبهت "وول ستريت جورنال"، والقول الشعبي "ما زاد على حده نقص" لم يأتِ عن عبث.