Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمد عناني العلامة الموسوعي وشيخ المترجمين العرب

غاب عن 84 سنة بعد رحلة طويلة في عالم الترجمة والمسرح والنقد الاكاديمي 

العلامة المصري محمد عناني (الهيئة الصرية) 

تخيلت العلامة المصري محمد عناني  من 1939 – الثالث من يناير ( كانون الثاني) 2023، الذي ودعنا عن أربعة وثمانين سنة، دائماً مثل تمثال الكاتب الفرعوني المصري، منكباً أبدياً على أوراقه، فهو نادراً ما كان يظهر في مناسبات عامة، ولا يستهلك من طاقته في الحياة سوى النزر اليسير، بعيداً من الكتابة والترجمة. كانت الناقدة نهاد صليحة تلميذته في كلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم زوجته وأم ابنتهما الوحيدة سارة عناني، وعلى رغم أنها أصبحت أستاذة مرموقة في المسرح والأدب الإنجليزي، لكن كلما اختلفنا حول مفهوم أو نظرية كانت تقول لي ببساطة، "خلينا نسأل عناني".

نحن نتحدث عن "عقل" صادق أفذاذ العقول عبر القراءة والترجمة، ما يزيد على 60 عاماً، مما جعله بحق المرجع العلمي والعلامة لآلاف الأساتذة، وشيخ المترجمين المصريين والعرب.

لا ترتكز مكانة عناني إلى مجرد كونه مترجم "الفرودس المفقود" رائعة جون ميلتون، ولا مسرحيات شكسبير مثل "الملك لير"، و"هنري الثامن"، و"روميو وجولييت"، و"تاجر البندقية"، ولا الموسوعات الأدبية والمسرحية، بل لأنه كان أحد حراس المعنى والقيمة، ومثل نموذجاً فذاً في الإيمان بالرسالة الإنسانية، والثقافة والإبداع، والإخلاص والعطاء من دون انتظار مردود مباشر.

 واحات الحياة

 

أهدى عناني سيرته الذاتية بهذه الكلمات الرقيقة: "إلى رفيقة الحياة بكل ورودها وأشواكها، نهاد صليحة: حبيبة وزوجة وصاحبة". صدرت السيرة قبل 20 عاماً مع بداية متاعبه مع السرطان الذي لم يرحم جسده الواهن، وربما تعجل في نشرها خوفاً من مباغتة الموت، لكن المفارقة أنه صمد صمود الأبطال بينما غادر رفاق دربه مسرح الحياة، نهاد وسمير سرحان وعبد العزيز حمودة وغيرهم.

جاء عنوان سيرته ثلاثياً: واحات العمر، واحات الغربة، واحات مصرية، ولنا أن نتأمل إصراره على مفردة "واحة" في صيغة الجمع، والواحة فضاء أخضر فيه نبع أو بئر وسط أرض مقفرة وصحراء قاحلة، كأن عناني لا ينظر لحياته بكل ورودها وأشواكها، إلا بوصفها نعمة عظيمة، وفردوساً قضى فيه زمناً ما، حتى غربته لسنوات في لندن اعتبرها "واحة". ولا شك أن الجمع يعني التنوع والتعدد والثراء، لأن عناني لا يقيم صلة مادية تقليدية مع أماكنه، وربما لا يعرف بدقة الشوارع المحيطة، لكنها واحات روحية وعقلية نسجها مع عظماء المبدعين والمفكرين.

 

ثمة إشارة لا يخفى ذكرها في كتابه "الأدب والحياة"، وهو مجموعة مقالات، " يقول الشاعر الإنجليزي وليام وردزورث إن هناك واحات زمنيةً في وجود كل إنسان يَرتادها المرة بعد المرة ليروي عطش خياله، ويتبرد من هجير الحياة". كما لا يخفى أن نشأته الأولى في مدينة رشيد، وهي مدينة بحرية جميلة يتعانق عندها النيل مع البحر المتوسط، وتكثر بها الحدائق والبيوت الجميلة، كأنها كانت بمثابة الواحة الأولى، و"الفردوس المفقود".

طفولة ومكتبة

هناك، ولد لأم تحكي له الخرافات والأساطير، وأب يدير مضرباً للأرز ورثه عن الجد، كان البيت على الطراز الحديث من ثلاثة طوابق، ولا يخلو من مكتبة تراثية عظيمة تضم "العقد الفريد" و"نهاية الأرب" و"نفح الطيب". من هنا ولج عناني إلى اللغة العربية وتراثنا الأدبي العريق، مما مكنه من فهم أسرارها ودقائقها ورصانتها، إضافة إلى حفظه للقرآن الكريم. حمل اسماً ثلاثياً طريفاً ومميزاً: محمد محمد محمد عناني، وعلى رغم تجارة أبيه في مضرب الأرز، لكن الأب نفسه كان له مزاج فنان، فهو مولع بأغاني عبد الوهاب والشيخ مصطفى إسماعيل، والقراءة، وصيد البط البري ومراقبة هجرات الطيور، مستفيداً من ميراثه الجيد، بل حاول الالتحاق بكلية الآداب عند إنشائها، ثم شاء القدر أن يكون ابنه وحامل اسمه أحد أعلامها.

انتقل عناني للدراسة في مدرسة العباسية الثانوية في الإسكندرية، وأحس بالاغتراب للمرة الأولى بعدما افتقد واحة رشيد التي يعرف ناسها ويعرفونه، حاول التغلب على ذلك بلعب الملاكمة، وربما خلف وداعة ملامحه وكلامه ظل ملاكماً عنيداً للحياة. في تلك المرحلة نظم الشعر، وتخفف من الزركشة اللغوية بسبب تأثره بلغة المجلات الثقافية مثل المقتطف، ودواوين الرومانسيين مثل "شرق وغرب" لعلي محمود طه و"الهوى والشباب" للأخطل الصغير، كما تعرض آنذاك لتأثير جماعة الإخوان المسلمين التي نبهت عليه بعدم الهزل والضحك وتجنب "قزقزة اللب".

 

تطورت علاقته باللغة الإنجليزية والترجمة، عندما عثر على كتاب مبسط يروي قصص "ألف ليلة وليلة"، بترجمة ريتشارد بيرتون، حاول مجاراتها بتأليف قصص من مخزون الفلكلور الشعبي، لكنه اصطدم بعقبة تحويل العامية إلى فصحى، كما استفاد من معلمه جمال السنهوري مدرس الإنجليزية الذي كان يمنع الكلام بالعربية في حصته، إضافة لتأسيسه فرقة تمثيل باللغتين، وهي التجربة التي ربطت عناني بالأدب الإنجليزي والمسرح إلى الأبد.

إلى القاهرة

مثلت القاهرة الاغتراب الثاني، فبعد الإسكندرية، حيث عاش في حي العجوزة الذي كان في طور قرية بسيطة على النيل آنذاك، وهو الحي الذي عاش فيه نجيب محفوظ معظم سنوات حياته إلى وفاته حتى عندما انتقل عناني، لاحقاً إلى شارع المهندسين، حتى وفاته، فهو لم يبعد كثيراً عن المربع ذاته.

 

في تلك المرحلة شغله السجال حول أصحاب الأساليب مثل العقاد والرافعي وسلامة موسى، هل المهم الزركشة والإنشاء أم توصيل المعنى بأقل عدد من الكلمات أم الأمر يتوقف على من تتوجه إليه بالكلام؟ واصل اهتمامه بالتمثيل وانضم إلى المتدربين بإشراف الفنان عبد المنعم مدبولي، الذي اطلع على مسرحيتين كتبهما ونصحه بعدم احتراف التمثيل والتركيز على الكتابة، كما حاول العزف على العود، حينذاك فكر في التخصص في الأدب العربي أو معهد الموسيقى، لكن أستاذه جرجس الرشيدي نصحه بدراسة الأدب الإنجليزي كي يتسنى له الاطلاع على الآداب العالمية، بينما حاول والده إدخاله كلية الشرطة. في كلية الآداب، تأثر بشعر شلي وشكسبير، وبأستاذه في الأدب العربي عبد العزيز الأهواني، لكن التأثير الأكبر كان لأستاذه رشاد رشدي الذي عاد للتو من أميركا، وكان يشاركه حب المسرح وكتابة المسرحيات، وانضم إلى فريق تمثيل يضم شباباً أصبحوا مشاهير في ما بعد مثل المخرجين أحمد زكي ويوسف مرزوق والممثلين حسين الشربيني والضيف أحمد والإعلامي المأمون أبو شوشة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في تلك الفترة اقترب عناني من الراحل لويس عوض وتأثر بأفكاره الثورية والحادة المغايرة للسائد، وكذلك معيد شاب في قسم اللغة العربية هو شكري عياد، والتقى رفيق دربه الذي يصغره بسنوات قليلة الراحل سمير سرحان ورواد قهوة عبدالله الشهيرة. عمل بعد التخرج مترجماً في الإذاعة، وتلقى رسالة تعيين في المدرسة التجارية بالظاهر، لكن رشاد رشدي ضمه للتدريس في قسم اللغة الإنجليزية بالكلية، وسجل تحت إشرافه رسالته للماجستير "تطور الصور الفنية عند وردزورث". وبدأ أستاذه عبد الحميد يونس يشجعه على ترجمة الكتب، وظهر أول كتاب يحمل اسمه كمترجم بعنوان "الرجل الأبيض في مفترق طرق" مراجعة عثمان نوّيه، وفي عام 1963 ظهر أول كتاب من تأليفه بعنوان "النقد التحليلي".

آنذاك سعى عناني لتعيين صديقه النشط سمير سرحان في القسم بعدما تخرج بصفته الأول في دفعته، لكن رشاد رشدي تحفظ خوفاً أن يكون "شيوعياً" فأكد له عناني أنه ترجم قصص غوركي من باب كسب الرزق. من هنا انعقدت صداقة وطيدة لعقود، أثمرت العمل معاً في سكرتارية مجلة "المسرح" برئاسة أستاذهما رشاد رشدي، وترجمات كثيرة مشتركة منها مسرحيات وتمثيليات إذاعية ودائرة المعارف البريطانية، ثم في مرحلة لاحقة شارك عناني في عشرات الكتب التي نشرها أو ترجمها أو حررها أو قدمها ضمن "مكتبة الأسرة" التي أشرف عليها سرحان نفسه إبان رئاسته لهيئة الكتاب المصرية، وكذلك إشرافه على المشروع الملهم "سلسلة الألف كتاب". وبعدما سمح له بالابتعاث إلى إنجلترا عام 1965 حصل على الماجستير من جامعة لندن عام 1970 ثم الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام 1975.

منجز موسوعي

أقل ما يوصف به مشروع عناني أنه منجز موسوعي، فهو شاعر من أعماله المنشورة "أغنيات الخريف"، ومسرحي ترجم عشرات النصوص، وألف مسرحيات طبعت أو مثلت، منها "البر الغربي"، و"الدرويش والغازية"، و"الغربان" و"ميت حلاوة"، وهو أكاديمي علم آلاف التلاميذ وأشرف على عشرات الأساتذة، وناقد ومنظر أدبي رفيع الطراز له عديد من الكتب والترجمات في هذا السياق مثل "الأدب وفنونه" و"فن الكوميديا".

ومن بين أكثر من 100 كتاب حملت اسم عناني، أصبحت الترجمة درة التاج في إنتاجه، حيث توسع فيها ما بين مسرحيات وقصص وأعمال فكرية لمفكرين من وزن إدوار سعيد في "الاستشراق"، كما نشر دراسات مهمة بالإنجليزية، وعرف الغرب على مبدعين عرب مثل صلاح عبد الصبور وصلاح جاهين. وبحكم تجربته الطويلة لـ60 عاماً، اهتم عناني بقضايا الترجمة وأسرارها وضبط المصطلح، وظهر ذلك جلياً في مؤلفات مثل "مرشد المترجم" وكتابه المهم "المصطلحات الأدبية الحديثة" الذي لا غنى عنه لأي باحث وناقد أدبي.

وهكذا أخلص عناني لـ"الكلمة" وطناً وواحة وجسراً بين الشعوب، ويمم وجهه شطرها حتى وافاه الأجل المحتوم.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة