لعله كتاب "الصغار" الأشهر في تاريخ الكتابة في القرن العشرين. ولعله الكتاب الذي كان من شأنه أن يحتل مكانة أفضل ما يمكن قوله إنها متقدمة بالفعل، بين نوعيته من الكتب لولا أن السينما أتت خلال الربع الثاني من القرن العشرين لتضفي على نصوصه الجميلة والجذابة رونقاً وألواناً تدين بالكثير لوالت ديزني وسينماه المتحركة وغير المتحركة الباهرة. ففي نهاية الأمر كان "كتاب الأدغال" للبريطاني روديارد كيبلنغ واحداً من تلك الكتب الأساسية التي بدلت السينما التعامل معها، ولكن من دون أن تنتزع منها "أسطورية" تراكمت من حولها مع مرور الزمن، وتتعلق بجملة أسئلة لا يبرح القراء لا سيما الصغار منهم، ونعرف أن الصغار هم القراء الأساسيون لهذا النوع من الكتب حتى وإن قرأه الكبار أكثر من الصغار أحياناً، والسؤال الأول هو: هل نحن أمام كتاب وضع للصغار أصلاً، ثم هل نحن أمام كتاب استعماري بريطاني كما يرى كثر، بل هل نحن حقاً أمام كتاب هندي وضع في الهند أو عن الهند إلى درجة يعتبره كثر من الهنود كتابهم القومي؟ أسئلة تنتمي إلى سلسلة تساؤلات لا تنتهي. وأسئلة محيرة في نهاية الأمر.
كتاب أم جملة من كتب؟
ولنبدأ هنا من السؤال الأبسط لنحاول أن نجيب عليه السؤال المتعلق بماهية الكتاب لا في حد ذاته، فهل كان فريداً في عمل كاتبه؟ الحقيقة أن "كتاب الأدغال" هو واحد فقط من عدة كتب وضعها كيبلنغ في السياق عينه منها "كتاب الأدغال الثاني" و"كيم" و"ستالكي وشركاه" و"حكايات التلة". والحال أن القراء والناشرين والمترجمين غالباً ما يخلطون بين هذه الكتب بحيث لم يعد القارئ يعرف حقيقة الأمر فيقرأ من دون ترتيب ويطلع من ذلك كله بأن ثمة "كتاب أدغال" ممتع القراءة، أنيق اللغة تدور أحداثه في عالم الغابات ومملكة الحيوان، لكن تلك الأحداث حتى في "كتاب الأدغال" الأول والأصلي، ليست متتالية وتبدو لا علاقة لها ببعضها البعض، ولا أنها كتبت بصورة متتابعة الحلقات في الأصل، حتى وإن كانت تدور من حول شخص (بطل) واحد في أول الأمر. وبالتحديد، من حول الطفل موغلي الذي قتل نمر أبويه فعاش في الأدغال تربيه الحيوانات الكاسرة ويتأقلم مع حياتها مفضلاً عالمها على عالم الإنسان الذي... لا يعرفه حقاً على أي حال، بل يعاديه حين يلتقيه عداء حيوانات الأدغال له.
علاقة هندية ملتبسة
والحقيقة إلى هذا تقول لنا إن معظم ما نجده من نصوص مشابهة أو مغايرة، في بقية الكتب التي تلت هذا الكتاب تاريخياً في السياق الكرونولوجي لنتاج كيبلنغ لا يخرج كثيراً عن هذا السياق، لكن الأهم من هذا يبقى في مكان آخر. فهل نحن هنا أمام ذلك الكتاب "الهندي" الذي يعتقده كثر؟ على الإطلاق. ففي نهاية الأمر، لم يعش ريديارد كيبلنغ في الهند التي ولد في حاضرتها بومباي عام 1865 سوى السنوات الست الأولى التي تلت ولادته إذ كان أبوه في ذلك الحين يعمل مدرساً في كلية الفنون الجميلة في تلك المدينة. ولقد أرسل الولد، واسمه الأصلي جوزيف لكنه سمي أيضاً على اسم بحيرة في وسط إنجلترا كان أبوه هائماً بها، فارتبط بالاسم، أرسل باكراً وهو بالكاد بلغ السادسة من عمره لكي يتلقى دراسته الابتدائية في موطنه الأصلي إنجلترا. وبعد ذلك فقط أعيد روديارد إلى الهند حيث عاش بين سن 16 و25 وكانت تلكم هي كل "تجربته" الهندية. ومع ذلك نجد الهند تطغى على طوبوغرافية قصصه التي سيقال لاحقاً إنه إنما جمعها خلال تنقلاته العديدة بين الولايات المتحدة، لا سيما ألاسكا، وجنوب شرقي آسيا ولكن كذلك، جنوب أفريقيا حيث خاض، على غرار سير بادن باول وآرثر كونان دويل وغيرهما من كبار "الاستعماريين" البريطانيين، حرب البوير وغيرها من المعارك هناك، وهي حروب لن يكون من الدقة بمكان وصفها بأنها حروب استعمارية، بل حروب خاضها سكان مستعمرون آتون من أوروبا مستولين على أراضي السكان المحليين ضد قوات بريطانيا العسكرية هناك! وهو لئن كان قد التقى في تلك لمناطق بحيوانات ضارية كثيرة ضمها إلى عالمه الكتابي فإنه حرص دائماً على أن يطلق عليها أسماء هندية. فالطفل موغلي والنمر شيري خان والدب بالو والفهد باغيرا وعشرات غيرهم من الحيوانات التي تشكل جزءاً أساسياً من مخيلات الأطفال وعوالمهم، وعلى الأقل منذ انتشار "كتاب الأدغال" وتوابعه، ثم خصوصاً "كيم" ومغامراته، كلهم يحملون أسماء أتى بها كيبلنغ من "مخزونه الهندي" من دون أدنى شك، من دون أن تكون للهند تلك العلاقة الحياتية أو حتى الثقافية التي يمكننا أن نفترضها.
لا الهند ولا بريطانيا العظمى
بل من دون أن تكون لإنجلترا نفسها تلك العلاقة على أي حال! فالحال أن إجابة هنا لا بد منها على واحد من تلك الأسئلة التي لا بد أن تطرح دائماً من حول روديارد كيبلنغ وأدبه تتعلق بحقيقة أن هذا الكاتب لم ينشر وللمرة الأولى، مغارات موغلي المؤسسة لعلاقة هذا الأخير بقرائه لا في إنجلترا ولا في الهند حتى، بل في... الولايات المتحدة الأميركية. فالحقيقة أن كيبلنغ الذي بارح الهند للمرة الأخيرة في عام 1891 وقد قرر ألا يعود إليها بعد ذلك أبداً، وجد نفسه يحط رحاله بعد سلسلة رحلات وتنقلات وبدءاً من عام 1892 في الولايات المتحدة حيث كانت عائلة زوجته مقيمة هناك ودعته إلى العيش معها ففعل معلناً هذه المرة إيمانه بالديمقراطية الأميركية، من دون أن يمعن في انتقاد الاستعمار البريطاني على أي حال. وهناك في العالم الجديد الذي وجده خصباً لافتقار نوعيته الخاصة من الأفكار والحكايات، هناك راح يكتب ويكتب وينشر بكثافة إلى درجة أنه وعلى سبيل المثال، بين خريف العام التالي لوصوله، 1893 وأواسط عام 1895 راح ينشر ما في جعبته من حكايات دون أن يحدد بدقة ما إذا كان يفترض أنها تدور في الهند التي افترض صغار القراء على أي حال أنها هندية. ومن هنا مثلاً نجده يحكي عن فقمة يفترض أنها تعيش في ألاسكا فيخمن قراؤه أن ثمة فقماً تعيش في الهند. ومن هنا ما يراه كثر من المؤرخين والنقاد من فوضى في ترتيب الحكايات والأحداث تدفعهم إلى نصح القراء، صغاراً أو كباراً، بقراءتها ليس كسلسلة من حكايات متتابعة بل كحكايات متفرقة. وتلك هي على أي حال الطريقة الفضلى لقراءة، ليس فقط "كتاب الأدغال" بقسميه الأول والثاني، بل حتى بقية المغامرات التي كتبها كيبلنغ، لا سيما حين كان يقيم في بلدة باتلبورو الصغيرة الواقعة في جوار بوسطن في أقصى الشمال الشرقي للولايات المتحدة، حيث خصه أهل زوجته ببيت فسيح وأرض فعاش حياة أنجب خلالها ابنتيه اللتين ستلعبان دوراً كبيراً في حياته لاحقاً، على عكس ابن أنجبه سيقتل عند نهاية الحرب العالمي الأولى على الجبهة الفرنسية ما يخلف لديه جرحاً لم يندمل أبداً حتى رحيله عام 1939.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واقع تفصيلي
والحقيقة أن الواقع المتعلق ببعض الحقائق من حول أدب كيبلنغ (1865 – 1936) وشخصيته والأسئلة التي دائماً ما طرحت من حوله، قد يبدو تفصيلياً بمعنى من المعاني وقد لا يتنبه إليه كثر من قراء كيبلنغ لا سيما منهم أولئك الذين ترسخت لديهم سمعة للكاتب تربطه بالاستعمار البريطاني وتفترضه مناصراً لذلك الاستعمار وللتفرقة العنصرية لمجرد أن ثمة عبارات تنسب إليه عادة مثل تلك الشهيرة "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا" أو الحديث الغامض عن أن "الشرق موطن الحياة الروحية، فيما الغرب موطن الحياة المادية". والحقيقة أن ليس من المؤكد أن يكون كيبلنغ قد قال مثل هذه العبارات بل ليس واضحاً تماماً ما الذي قد تعنيه، لكن ثمة دائماً نوعاً من أحكام مسبقة تطاله وهي التي صنعت له تلك السمعة "الاستعمارية" البريطانية و"المعادية للهند" وهي سمعة سنعجز على أي حال عن العثور على أي آثار حقيقية لها في نصوصه التي من الواضح أنها لن تعدو في نهاية الأمر أن تكون نصوصاً أخلاقية مسلية وربما تبدو عبر تحليل عميق، متناقضة كل التناقض لتلك الصور التي ارتبطت به وبدت دائماً عاجزة عن تفسير كيف يمكن لكاتب كبير عرف كيف ينقل إلى الصغار قيماً حقيقية في كتابات كرسها لهم وهو يحمل في حقيقته أفكاراً وقيماً مناقضة لذلك كله!