احتفى الوسط الفني العالمي بإعلان المخرج الكبير مارتن سكورسيزي إعادة تصوير فيلمه الشهير "عصابات نيويورك" للتلفزيون، وذلك بعد 20 عاماً من العرض الأول للعمل السينمائي البارز الذي تصدى لبطولته ليوناردو دي كابريو ودانيال دي لويس، ونافس على عدد كبير من جوائز الأوسكار، وفاز بحشد آخر من جوائز المسابقات الرفيعة.
وقبل عامين تقريباً كان الوسط السينمائي يحتفي بإعادة ستيفن سبيلبرغ تقديم "قصة الحي الغربي" في فيلم موسيقي حصد جوائز "بافتا" و"غولدن غلوب"، وهو العمل الذي سبق تقديمه في نسخ هوليوودية وعربية سينمائياً ومسرحياً عشرات المرات، وهو بدوره مأخوذ عن حكاية "روميو وجولييت" الشهيرة، ولا أحد ينسى كذلك النسخة الموسيقية من "البؤساء" التي عرضت عام 2013، ونالت استحساناً كبيراً بعد أن قدمت مراراً على مستوى العالم في أفلام وعروض مسرحية ومسلسلات.
هكذا يرحب بإعادة إنتاج الكلاسيكيات لدى الغرب، لكن عربياً يبدو الأمر مختلفاً، حيث تواجه مثل تلك المشروعات، وقبل الشروع في تنفيذها، بتوجس واستهجان وغضب، حتى من قبل من يعملون بالمجال الفني أنفسهم، على رغم أن الأصل في تلك المهنة هو الحرية وإعطاء الفرص.
وفي حين نجد مجتمعات فنية ترحب بالتجريب من منطلق أن لكل محاولة خصوصيتها وعصرها، ولكل مخرج رؤيته، نجد هنا النقيض تماماً، فهل مصادرة المحاولات الفنية هي عادة عربية بحتة؟ أم أن هناك بالفعل أسباباً وجيهة للتصدي لإعادة إنتاج أعمال كلاسيكة بروح العصر الحالي؟
"سيدتي الجميلة" على المقصلة
على مدار الأسابيع الماضية دأب المؤلف والشاعر أيمن بهجت قمر على الرد على مهاجمي إعادة تقديمه المسرحية الشهيرة "سيدتي الجميلة"، حيث عمل على نسختها الجديدة من بطولة أحمد السقا وريم مصطفى، مقابل النسخة القديمة التي قام بتمصيرها والده الراحل بهجت قمر عام 1969 مع سمير خفاجي وأخرجها حسن عبدالسلام، والعمل في حد ذاته هو نسخة عالمية تم تقديمها عشرات المرات، بينها فيلم لأدوري هيبورن عام 1964.
سعى قمر في معرض رده إلى أن يؤكد أحقيته كفنان في حرية إبراز رؤيته على عمل هو إرث عالمي في المقام الأول، فصاحب القصة هو الكاتب الإنجليزي جورج برنارد شو، كما أن أباه الكاتب بهجت قمر هو صاحب نسخته العربية الأشهر والأكثر نجاحاً.
وبعيداً من تقييم العمل المسرحي الذي عرض لأيام عدة في موسم الرياض بالسعودية، ثم فيما بعد بدأ عرضه في العاصمة المصرية القاهرة، فإن الحالة التي قوبل بها الإعلان عن المشروع منذ البداية أثارت الحيرة، بخاصة أن صيحات الغضب خرجت أولاً من أفراد يحسبون على الوسط الفني، قرروا ببساطة أن ما يحدث هو مجرد تشويه لعمل تصدى لبطولته اثنان من أكبر نجوم الكوميديا في العالم العربي هما فؤاد المهندس وشويكار، على رغم أنه حتى لو كانت النسخة الجديدة أقل فناً وإبداعاً، فما الذي سينقص من العمل القديم الذي ارتبطت به الجماهير، ولماذا تعدى الموقف مجرد حالة الجدل ليصل إلى التجريم والتحريم؟
الناقد طارق الشناوي من الأصوات القليلة التي شددت على ضرورة عدم المصادرة في ما يتعلق بأي عمل فني، لافتاً إلى "حق الفنان في التجربة، بخاصة أن العمل فكرته في الأساس عالمية وأعيد تقديمه كثيراً، وأن ارتباط الجمهور وجدانياً بالأبطال الأساسيين هو أمر عاطفي بالأساس، لكن يجب أن يكون هناك إنصاف في التعامل مع مثل تلك التجارب، وأن يتم الحكم عليها بشكل موضوعي بعد المشاهدة، على رغم خطورة الإقدام على هذا القرار، نظراً إلى أن هناك ارتباطاً كبيراً بالأبطال الأصليين".
لكن من جهته يرى الناقد الفني محمد سيد عبدالرحيم أن الانزعاج كان مشروعاً جداً في ما يتعلق بهذا المشروع على وجه التحديد، نظراً إلى أن تاريخ أحمد السقا كممثل كوميدي، وكذلك ريم مصطفى بعيد تماماً من القدرة على تجسيد الدورين المهمين في العمل المسرحي ذائع الصيت، مشيراً إلى أن الخوف جاء مشروعاً للغاية على رغم أن المقارنة كانت ظالمة بين الأبطال الكلاسيكيين والجدد فيما يتعلق بالتميز والموهوبة والحضور، وحتى باقي الفريق الذي يعتبره في رأيه غير مشجع.
سوابق ناجحة
لكن المؤكد أيضاً أن نبرة الهجوم الاستباقي أصبحت أكثر تأثيراً في هذ العصر وأعلى صوتاً بفعل المنصات المتسعة التي يمكن للجماهير والنقاد أن يعبروا من خلالها عن توقعاتهم وآرائهم التي تتنوع ما بين المتطرف والمعتدل والمهادن والمجامل كذلك، وهو أمر وإن كان يحدث في الماضي، لكنه بفعل ظروف كل عصر كان أكثر خفوتاً.
الأعمال التي أعيد إنتاجها مراراً في المنطقة العربية، سواء سينمائياً أو مسرحياً، كانت متنوعة ومتعددة، وبينها على سبيل المثال فيلم "أمير الانتقام" الذي قدمه أنور وجدي في مطلع الخمسينيات، ليعيد فريد شوقي تقديم القصة نفسها المأخوذة بدورها عن حكاية الكونت دي مونت كيرستو، عام 1964 في فيلم بعنوان "أمير الدهاء"، وحصد كل منهما نصيبه من النجاح، وإن كان الفيلم الأول تفوق على رغم أنه قدم حينها بتقنية الأبيض والأسود.
وكان لفريد شوقي أكثر من تجربة أخرى بينها إعادة فيلم "عنتر بن شداد" الشهيرة أوائل الستينيات، وهي القصة نفسها التي كان سبق وقدمها سراج منير للسينما أيضاً عام 1945 بعنوان "عنتر وعبلة"، كما أن براعة شادية في فيلم "المرأة المجهولة" عام 1959 لم تمنع شهيرة من إعادة القصة نفسها من خلال فيلم حمل عنوان "وضاع العمر يا ولدي" بعد 20 عاماً، والعمل الأصلي من تأليف الروائي الفرنسي ألكسندر بيسون، كما أن شادية قدمت مع رشدي أباظة عام 1961 فيلم "الزوجة الـ13" من إخراج فطين عبدالوهاب، وهي قصة "الزوجة السابعة" نفسها لمحمد فوزي وماري كويني، عام 1950، واللافت أن شادية كانت قاسماً مشتركاً بالعملين مع الفارق أنها ظهرت بدور صغير في الفيلم الأقدم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تريند "الاحتكار"
السوابق كثيرة للغاية، فالبطل الأول لا يمكنه أن يمارس سلطة الاحتكار على العمل، وعلى رغم أن فكرة التكرار نفسها تحرم الجمهور من متابعة تيمات جديدة، فإن المشاهدة أيضاً بأكثر من رؤية أمر في صالح التجربة مهما كانت التوابع، بخاصة أن الأمر كان عادياً في المنطقة العربية، ولم يكن الصناع يشغلون بالهم كثيراً بأي ضغوط أو يحسبون حساب حملات الهجوم العاصف، لدرجة أن عام 1991 شهد عرض فيلمين بالقصة نفسها هما "الراعي والنساء" لسعاد حسني ويسرا، وإخراج علي بدرخان، و"رغبة متوحشة" لنادية الجندي وسهير المرشدي، وإخراج خيري بشارة، والفيلمان مأخوذان عن رواية "جريمة في جزيرة الماعز" للإيطالي أوجوبتي.
عالمياً، تبدو الأمور أكثر سلاسة، فرواية "البؤساء" تم تقديمها في السينما العالمية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وهي التي كبتها الفرنسي فيكتور هوغو عام 1862، كما قدمت كذلك في أعمال تلفزيونية عديدة، وإذا حدث وقرر مخرج إعادتها مجدداً سيتم استقبالها بشكل طبيعي انتظاراً للرؤية الجديدة، وهو الأمر الذي حدث مع عشرات الأعمال مثل "آنا كارنينا" للروسي ليو تولستوي، وغيرها.
إذاً، فإن إعادة القديم أو حتى نصف القديم هي عادة هوليوودية قديمة، وبالطبع مجرد الانفتاح على إعادة تقديم ما سبق عرضه لا يضمن التميز أو النجاح، لكنه يفتح المجال والأفق لا أكثر، ويوضح الناقد السينمائي محمد سيد عبدالرحيم الأمر بالقول إن لدى السينما الأميركية كل عام قائمة طويلة من الأعمال المأخوذة من الكلاسيكيات القديمة، وفي رأيه أن كثيراً منها يفشل بشدة نظراً إلى قلة الجودة، والقليل فقط يضاهي في نجاحه نجاح النسخ القديمة أو في بعض الحالات النادرة يتفوق، مشيراً إلى أن مسرحيات شكسبير حاضرة على الدوام في كل العصور، ويعاد تقديمها بشكل مختلف على كبريات المسارح، مضيفاً أن الأساس يكمن في طريقة العرض والإبهار في التناول وتوظيف التكنولوجيا بما يخدم القصة الأًصلية.