Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

مذكرات عربي- يهودي... فرص التعايش لا تزال ممكنة

فكرة الدولة الواحدة الثنائية القومية ليست جديدة ودعا إليها مفكرون قبل إنشاء إسرائيل

أسرة عراقية قبل الهجرة (الأرشيف العراقي اليهودي)

ملخص

ينادي أفي شلايم في كتابه بدولة واحدة من النهر إلى البحر يتعايش الجميع بتساوٍ ومن دون تفرقة بالنسبة إلى العرق أو الدين أو الجنس، يستمد الكاتب هذه الرواية مما يسميه "الهوية العربية - اليهودية" التي تعايشت في العراق بكثير من الوئام، ويتذكر ما كانت جدتاه تقولان عن العراق إنها جنة الله، فالهوية العربية - اليهودية ممكنة ليست من محض الخيال ولكن واقع عاشه هو وعائلته في الزمن غير البعيد.

البروفيسور أفي شلاي ممؤرخ ومتخصص في العلاقات الدولية ويشغل منصب أستاذ فخري بجامعة أكسفورد العريقة، التي قضى فيها ردحاً من الزمن يدرس ويبحث وينشر كتباً عدة عن الصراع العربي - الإسرائيلي وشؤون الشرق الأوسط.

كتاب "العوالم الثلاثة: مذكرات عربي - يهودي" والصادر عن دار ونورلد في لندن عام 2024، يتناول التجربة الذاتية لأفي شلايم وهو يهودي من أصل عراقي.

شلايم ليس أستاذاً عادياً، فإضافة إلى كونه أستاذاً في جامعة مرموقة فهو من مؤسسي مدرسة المؤرخين الجدد في تاريخ إسرائيل وصراعها مع السكان الأصليين من الفلسطينيين، وهناك إضافة إلى شلايم مؤرخون آخرون مثل إيلان بابي وبني موريس اللذين نقضا الرواية الإسرائيلية حول تأسيس إسرائيل، مستخدمين الأرشيف الإسرائيلي لدحض كثير من الروايات الصهيونية.

شلايم المولود في بغداد عام 1945 لأسرة يهودية ثرية هاجر مع ذويه إلى إسرائيل بسبب التداعيات على المجتمع اليهودي في العراق من قيام الدولة اليهودية، والكتاب الذي بين أيدينا يحكي رواية الكاتب عن العوالم الثلاثة التي عاشها في العراق وإسرائيل وبريطانيا التي يقيم بها اليوم مع عائلته.

يحكي شلايم عن بداية تكوين وعيه بهويته الإثنية والدينية والوطنية في حادثة ظلت في ذاكرته منذ 70 عاماً تقريباً، ففي إحدى المرات حين كان يلعب مع أترابه في الحي أتاه والده الذي لم يتقن العبرية يكلمه بلغته الأم العربية، وقد شعر الصبي الصغير شلايم بالخجل، إذ كانت الرؤية إلى اللغة العربية وإلى العرب على أنهما متخلفتان، وأن العربية هي لغة العدو، وأصواتها الجشة قبيحة منفرة لمسامع الإسرائيليين.

يقول شلايم إن حياته في وطن غريب يسيطر عليه اليهود الأوروبيون واحتقارهم ما هو عربي وشرقي جعله يعيش حياة منفصمة ونفسية مغتربة وإحساساً بالدونية، وقد كان هذا الشعور متحكماً في علاقة شلايم مع المجتمع الإسرائيلي.

ولكن على رغم هذا الوضع المزري لفتى في مقتبل العمر فإن هذه الحال خلقت منه شخصية مستقلة عن بقية المجتمع، يستطيع أن ينظر إليه نظرة محايدة وموضوعية وناقدة، وبعد سفره إلى بريطانيا لتلقي تعليمه الثانوي والجامعي أصبحت هذه الرؤية الناقدة تتبلور بطريقة علمية في سياق دراسته التاريخ والعلاقات الدولية، إنها قصة شخصية تروى بنفس المتخصص والعالم المؤرخ الذي يعكس رواية خروج اليهود من العراق إلى إسرائيل.

العربي - اليهودي، كما يحب أن يطلق شلايم على نفسه وعلى مجتمعه في العراق ليس بقصد القومي، التي أتت متأخرة إلى العالم العربي، ولكن بالمعنى الثقافي. كانت الأسرة تتحدث اللغة العربية في المنزل، وتستمع إلى الموسيقى الهجينة من اليهودية والعربية، وكذلك المطبخ الشرق أوسطي، ويصر شلايم على أن المجتمع اليهودي الذي ينتمي إليه كان مجتمعاً عراقياً ولكن صدفة يهودياً، مثل أي أقلية أخرى، فهي جزء من نسيج المجتمع العراقي، مثل الكلدان والكاثوليك والآشوريين.

وفي سياق تنازع الهويات يرى أن رؤية عالم السياسة صامويل هنتنغتون حول صراع الحضارات والرواية الصهيونية عن العرب اليهود خاطئة، فالأول يرى أن النزاع بين الإسلام والغرب متجذر في الثقافتين، أما الثانية التي يعتقد أنها تفرع من الأولى فترى أن اليهود في العالم العربي عانوا الأمرين، ويرد القول على الأخيرة أن تجربته وعائلته لم تكن كذلك، بل إن أسرته كانت تشعر بالتحسر على فراق أرض العراق، ويشبه هجرتهم إلى إسرائيل بالسبي البابلي معكوساً.

ويجدر الإشارة إلى أن الكاتب يؤكد الجذور اليهودية في أرض الرافدين منذ زمن إبراهيم (عليه السلام)، وأن الوجود اليهودي أقدم من دخول الإسلام إلى أرض العراق، وهناك حقيقة قد يجهلها كثر، وهي أن تعداد اليهود في بغداد وصل إلى ثلث السكان، حتى إنه قيل عنها مدينة يهودية.

بعكس أوروبا لم يكن هناك مسألة يهودية، لقد عاش اليهود في كنف الدولة العثمانية ولهم كثير من الحقوق وعليهم واجبات كبقية المجتمعات تحت السلطنة، ومن أهم هذه الحقوق كانت الاستقلالية للأقليات لممارسة شعائرهم وعاداتهم بكل حرية. لم يكن في العراق أحياء منعزلة، ما يعرف بالغيتو في أوروبا، ولم يكن هناك مذابح منظمة (بوقرام) ضد اليهود كما كان يحصل في روسيا وبعض البلدان في أوروبا، هناك حادثة واحدة من هذا القبيل حدثت كما يقول الكاتب في العراق في 1941.

 

 

يقول شلايم "عائلتي لم تغادر العراق إلى إسرائيل بسبب صراع الثقافات وانعدام التسامح الديني، لم يتحطم عالمنا لعدم انسجامنا مع جيراننا المسلمين، سبب نزوحنا كان سياسياً ولم يكن دينياً أو ثقافياً، لقد أصبحنا مشتبكين في الصراع بين الصهيونية والقومية العربية، اللتان هما أيديولوجيتان علمانيتان متنافستان".

الكتاب كما يقول شلايم سيرة ذاتية في عوالمه الثلاثة التي عاشها (العراق، إسرائيل، بريطانيا)، ولكن في سياقاته التاريخية وأحداثه الكبرى مثل ما عاناه اليهود من اضطهاد ومحاربة السامية التي تكللت بالمحرقة، وأودت بـ6 ملايين يهودي في أوروبا تشكل خلفية لهذا الكتاب، وكذلك الأحداث الكبرى من تقسيم فلسطين وإنشاء دولة إسرائيل وما تبعه من طرد الفلسطينيين من ديارهم ونزوح مئات الألوف من اليهود من البلاد العربية هو جزء من هذه المذكرات.

إلا أن هناك فارقاً كبيراً بين تاريخ اليهود في الشرق الأوسط ويهود أوروبا، يصف الكاتب تاريخ اليهود في القارة العجوز بأنه تاريخ عويل ونحيب، بينما تاريخ اليهود في منطقة الشرق الأوسط يختلف، إذ يتسم بالتعايش والتسامح اللذين عاشتهما عائلة الكاتب قبل 1948، تاريخ إنشاء الدولة اليهودية، ويرى الكاتب أن هذا التعايش التاريخي بين العرب واليهود يمكن أن يكون أساس التعايش بين القوميتين في المستقبل.

والكاتب كمؤرخ لم يفته استعراض الأوضاع التاريخية التي تطورت في سياق سيرته الذاتية، وقد خصص فصلاً كاملاً لمجمل التطورات التاريخية منذ الحرب الكبرى، ودعم البريطانيين وصول الهاشمين إلى السلطة في العراق، وكيف أن الملك الجديد كان متسامحاً مع الأقليات ومن ضمنها اليهود في العراق وكان دائم التواصل معهم.

ولكن وفاته المفاجئة، التي يحوم حولها كثير من الشبهات لمؤامرة بريطانية، غيرت الأوضاع في العراق، وكان الملك غازي الذي خلف والده في الحكم أقل حنكة وتسامحاً مع الأقلية العراقية اليهودية، واتسم عهده بمظاهر العداء للسامية التي لم يعرفها العراق، على رغم أن اليهود العراقيين نأوا بأنفسهم عما يجري في فلسطين وعن الحركة الصهيونية.

حاول بعض أفراد الحركة الصهيونية استقطاب اليهود من العراق ولكنهم أبوا وقالوا "إن العراق موطنهم الأصلي، وإنه جنة الله على الأرض، ولن يبدلوه بأي وطن، حتى القدس"، وظلوا هكذا على حالهم، وبعد مقتل الملك غازي في حادثة سيارة توج ابنه فيصل الثاني البالغ من العمر أربعة أعوام ملكاً، وخاله عبدالإله وصياً على العرش، وكان الوصي مقرباً من الإنجليز مما طمأن كثيراً من الأقليات.

ولكن تعاظم نفوذ الصهيونية في فلسطين وتشكيل دولة إسرائيل تقاطعا مع تزايد المشاعر القومية العربية، ورد الفعل لقيام دولة إسرائيل، وتهجير الفلسطينيين من أرضهم أثرت بصورة بالغة في مصير الكاتب وأسرته، وأدى في المحصلة إلى هجرته إلى إسرائيل عام 1950.

خسائر الكاتب متعددة، فقد خسر الوطن العراق والعائلة والأصحاب والمكانة الاجتماعية التي تمتعت بها أسرته، وعلى رغم أن والده قد ترك كرسي الدراسة للعمل في سن مبكرة، فإنه استطاع أن يكون لنفسه ثروة كبيرة من أعمال البناء، والأهم وفي سن متأخر (41 سنة) تزوج وكون عائلة وأولاداً، ولكن هجرته إلى إسرائيل أفقدته كل ما يملك، وقد لقي مصيره المحتوم عام 1970 منكسراً بعدما تعود على حياة مرفهة ومترفة في موطنه العراق.

يذكر الكاتب أن تقاطع التيارات العالمية مع التطورات السياسية العراقية الداخلية غيرت من علاقة اليهود بالمجتمع العراقي، فقد بدأ تغلغل الأفكار النازية للعراق بسبب صعود التيار القومي في العالم العربي، والعداء المستفحل لبريطانيا وسيطرتها على كثير من البلدان العربية، إضافة إلى الأحوال المشتعلة في فلسطين بسبب تزايد السيطرة الصهيونية على تلك البلاد.

وفي خضم الأحداث الكبرى التي كانت تشهدها المنطقة في فترة الأربعينيات من القرن الماضي، تدخل الجيش لتغيير نظام الحكم في أول انقلاب عرفته المنطقة العربية بقيادة رشيد علي الكيلاني وفر الوصي عبدالإله وبقية الأسرة إلى الأردن الذي كان يحكم من قبل الفرع الآخر للأسرة الهاشمية.

ولكن بسبب أهمية نفط كركوك في المجهود الحربي البريطاني إبان الحرب العالمية الثانية، أصر رئيس الوزراء البريطاني لإعادة الأسرة المالكة إلى الحكم، وانطلقت القوات البريطانية إلى العراق وفر الانقلابيون وأعيد الوصي والملك إلى سدة الحكم، ولكن أخطأ البريطانيون في عدم تأمين الوضع في بغداد.

وقد أدى الفراغ الأمني في بغداد لاشتعال غضب بعض القوى المساندة للانقلابيين إلى الهجوم الانتقامي ضد المواطنين اليهود بالحادثة المعروفة بـ"الفرهود" التي تعني في اللهجة العراقية بالسلب والنهب الفوضوي، وقد تعرض كثير من اليهود للهجوم وسلب ممتلكاتهم والقتل في حادثة نادرة في التاريخ العراقي، حيث عاش اليهود منذ السبي البابلي قبل 2600 عام في وئام مع المجتمع المقيم هناك من طوائف وعرقيات عدة.

اقرأ المزيد

ويناقض شلايم الرواية الصهيونية التي تقول "إن أعمال العنف الموجهة ضد الطائفة اليهودية هي جزء من الشعور المعادي لليهود عند المسلمين والعرب"، ويقول الكاتب "يجب التفريق بين الصهيونية التي هي حركة استعمارية استيطانية وبين اليهودية التي هي دين"، ويستشهد الكاتب بالمؤرخ المتخصص في علاقات اليهود بالمسلمين مارك كوهين، الذي يؤكد أن حادثة "الفرهود" ما هي إلا حادثة فردية ونشاز لا تنسجم مع مجمل العلاقات بين الطوائف في العراق.

ويقول الكاتب إن والدته ذكرت له أن خلال حادثة "الفرهود" قام كثير من الأهالي المسلمين بالدفاع عن جيرانهم وأصدقائهم من اليهود، وآووا كثيراً من المسلمين في الأحياء المختلطة عائلات يهودية في منازلهم لحمايتهم من الغوغاء الذين تعمدوا إيذاءهم، بل إن بعض المسلمين وقفوا أمام بيوت اليهود لمنع المهاجمين من استباحتها.

ويسرد الكاتب أعوامه الأولى في بغداد والبيئة العائلية التي كان يعيشها بين الخدم والحشم في فيلا منيفة في بغداد، وكونه الابن الوحيد فقد أغدقت عليه أسرته الثرية كل ما يتمناه أي طفل إضافة إلى حب وحنان لا متناهيين، وما يهمنا في هذه السردية التاريخية المهمة مدى تشابه، بل تماهي، المجتمع اليهودي مع محيطه العربي، فالعلاقة بين الجنسين وطقوس الزواج ووسائل الترفيه تتشابه بصورة كبيرة مع بقية المجتمع من المسلمين، وحتى الغناء والأسماء والأغاني على المقام العراقي فيها قواسم كبيرة مشتركة بين اليهود والمسلمين العرب.

ولكن قيام دولة إسرائيل قلب كل الموازين بخاصة بعد حرب فلسطين والنكبة التي أدت إلى طرد مئات الآلاف من السكان الأصليين من ديارهم، وأصبح رد الفعل من قبل العراقيين الذين تأثروا بالهزيمة والنكبة شديداً واتخذوا من العراقيين اليهود كبش فداء، وألقوا التهم بعضهم على بعض على أنهم جواسيس وطابور خامس للدولة اليهودية في فلسطين، على رغم أن معظم أبناء الطائفة قد احتجوا على تقسيم فلسطين وإنشاء دولة يهودية، التي - وقد صدق حدسهم - ستؤدي بالضرورة إلى تداعيات سلبية على يهود العالم العربي.

ويقول الكاتب إنه حين سأل أمه إذا كانوا صهاينة، ردت الأم أن الصهيونية مذهب الأشكنازية (أي اليهود الأوروبيون)، ويؤكد أن المشاعر السائدة بين مجتمعهم أنهم عراقيون أولاً، ويهود ثانياً، ولكن التمييز ما بين اليهودية كدين والصهيونية كحركة سياسية تقلص بعد الأحداث الدامية في فلسطين، وبسبب المضايقات المتزايدة ضد أبناء المجتمع اليهودي اضطر كثير منهم إلى الهجرة خارج العراق.

ولكن ما يكشف عنه شلايم عما حصل للعراقيين اليهود يختلف بصورة جذرية عن السردية الصهيونية لهجرة اليهود من العراق، الرواية الصهيونية التي تقول إن الهجرة نتيجة للعداء المتجذر عند المسلمين ضد اليهود، وإن إسرائيل كانت المنقذ لهم، وآوتهم بعد المحنة التي تعرضوا لها في موطنهم العراق.

بالنسبة إلى سردية الكاتب فإنها تختلف عن الرواية الرسمية الإسرائيلية، شلايم يقدم رواية مركبة، صحيح أن هناك مضايقات تعرض لها أبناء المجتمع اليهودي العراقي الذي كان عددهم يربو على 130 ألفاً، وقد فضل بعضهم الهجرة بعد قيام دولة إسرائيل التي كانت في حاجة مفرطة إلى القوة البشرية والموارد المالية التي يمتلكها يهود العراق، إلا أن استجابة المجتمع اليهودي في العراق كانت ضعيفة على رغم تشجيع الحركة الصهيونية هجرتهم.

الإشاعات عن هجرتهم تقول إن حركة صهيونية سرية من قبل الموساد الإسرائيلي أوفدت مخبرين إلى العراق لتعجيل هجرة اليهود، لتفجير قنابل في تجمعات يهودية القصد منها نشر الذعر بين المجتمع اليهودي، وتسريع هجرتهم إلى إسرائيل وذلك في العامين 1950-1951، وقد وثق الكاتب هذه الرواية التي تخالف الرواية الإسرائيلية الرسمية وأطلق عليها "الصهيونية المتوحشة".

وأجرى مقابلات مع شخص انتظم بعمليات تهجير اليهود من العراق، وقد كشف له الأشخاص الذين يعتقد أنهم متورطون في هذه الأحداث، بل إن هذا الشخص زوده بوثيقة من التحقيقات التي قامت بها السلطات العراقية مع المتورطين في هذه الأحداث.

وقد دين كثير من عملاء الموساد في العراق وسجنوا، وأعدم البعض ممن تزعموا هذه المجموعة، وعندما قارن الكاتب الوثيقة التي بين يديه، وأوردها كملحق للكتاب، مع الملف الأصلي للقضية الجنائية تأكد من أنها وثيقة أصلية، وبالنسبة إلى الكاتب كمؤرخ يهمه توثيق هذه القضية ولكن أيضاً كعراقي يهودي هجر من وطنه العراق يهمه إثبات أو نفي ما كان يسمعه منذ صغره عن تورط "الموساد" في عمليات التفجير ضد اليهود وممتلكاتهم، ويردف الكاتب أنه وبعد بحث عميق حول هذه القضية تأكد بما لا يدعو مجالاً للشك ما كان يسمعه كشائعة.

 

 

وبالطبع تبع هذه الأحداث خروج جماعي لمعظم اليهود من العراق بمعاناة جسيمة وفقدان الوطن والممتلكات وفراق الأحباء والأصدقاء، وما يرويه الكاتب عن قصة معاناة رحيلهم من العراق إلى قبرص ومن ثم إلى إسرائيل.

ويستشهد الكاتب بقريب له الذي دون في مذكراته ببلاغة لا يعرفها إلا من شهد معاناة الشتات أن العلاقات التي بنيت في مئات الأعوام بين المجتمع اليهودي وبقية مكونات المجتمع العراقي محيت في ساعات، وأضاف هل تعلم الحقائب التي حملناها عند رحيلنا أنها لا تحمل ممتلكاتنا فحسب، بل في جعبتها تاريخ مديد لمجتمعنا العتيق.

 لم يكن الاستقرار في الوطن الجديد سهلاً لا للكاتب ولا لذويه، انتقل والده للعيش في إسرائيل وعمره في الـ50، لم يستطع التكيف مع المجتمع الجديد والخليط من إثنيات وثقافات عدة، كذلك فإنه لم يستطع تعلم العبرية في سنه المتقدمة، أضف إلى كل ذلك خسارته معظم ثروته إلا ما استطاع حمله من العراق في رحلة مضنية عبر إيران، وآخر مآسي والد الكاتب خسارة مكانته الاجتماعية العالية في العراق.

لكن شلايم ووالدته وأختيه نجحوا في التعايش مع واقع الحال على رغم ضيق اليد ومعاناة الانسلاخ من جذورهم، والسبب يعود إلى تعلمهم اللغة العبرية والاندماج التدريجي مع مجتمعهم الجديد، ولكن الحنين إلى العراق ظل يساورهم وفقدان العيشة الرغدة التي تعودوا عليها في مسقط رأسهم، وطغيان الأشكناز على المجتمع والدولة تسبب لهم في عيشة صعبة، إلى أن توفي والده عام 1970 منكسراً خالي الوفاض.

يصف الكاتب حاله وحال الجالية العراقية في أرض الميعاد قائلاً "ما عانيته بشكل مصغر كان ما عاناه العراقيون اليهود في أنحاء إسرائيل: عدم احترام أصولنا العراقية، الجهل بتاريخنا، احتقار ثقافتنا، تشويه لغتنا، هندسة اجتماعية في قولب أوروبي صهيوني إسرائيلي جديد."

يقول الكاتب إن هذه الأجواء المشحونة بالعنصرية أثرت فيه نفسياً، وقد تجلى هذا التأثير في تحصيله العلمي المتدني، ويصف أيامه في المدرسة بالعزلة النفسية والعزوف عن المشاركة الفعالة في أنشطة الصف والشعور بالغربة وفقدان الثقة بالنفس والشعور بالدونية تجاه العنصر الأشكنازي المتسلط، والأسرة المنكسرة نسبياً زادت من معاناة الكاتب الذي اجتث من جذوره في العراق.

ما يصفه الكاتب هي حال تعكس المجتمع الجديد الذي كان مهماً أن يكون حازماً لجهة الهوية الجديدة، التي تعكس الحركة الصهيونية الأوروبية المنبع، ويذكر الكاتب حديث ديفيد بن غوريون في الكنيست أن علينا أن ننهض باليهود القادمين من أرض المسلمين وإلا سيقلبون الدولة إلى دولة شرق أوسطية.

بسبب مصاعبه الدراسية التي عاناها شلايم أقنعت الأسرة على رغم عوزها إلى ابتعاثه إلى لندن لإكمال تعليمه ودخول جامعة مرموقة، هنا كان عالمه الثالث بعد العراق وإسرائيل للعيش في بريطانيا، كانت تجربة الكاتب بعيداً من أجواء إسرائيل التي ثبطت من عزيمته جيدة ومثمرة، وعلى رغم دراسته الدؤوبة فإنه استطاع أن يعيد بناء نفسيته واستعادة شيء من الثقة بالنفس، وأصبح شلايممجتهداً بسبب شعوره بالتضحية من قبل عائلته لابتعاثه إلى إنجلترا، وفعلاً حقق نجاحاً كبيراً، والتحق بجامعة كامبريدج ذات الصيت العالمي.

وفي خاتمة الكتاب ينبري الكاتب إلى وضع خلاصاته في هذا الفصل، ويتحدث عن انتظامه في التجنيد الإجباري الذي يفرض على كل شاب وشابة بلغوا السن القانونية وهي 18 سنة، ولكن يبدو أن السنتين اللتين قضاهما في الخدمة الوطنية لم تكونا ذواتي أهمية كبيرة في حياته عدا أنهما أجلتا انتظامه في الدراسة الجامعية، ولم يشهد طوال المدة التي خدم فيها شلايم أي أعمال عسكرية تذكر.

وقد كان حينها مؤمناً بالرواية الصهيونية عن الصراع العربي - الإسرائيلي، وكما يذكر كان شعوره القومي في أوجه، ولكن بعدما درس التاريخ في بريطانيا، وبعد أن أصبح أستاذاً مرموقاً في جامعة أكسفورد العريقة تبدل عنده الفهم وأصبح أكثر إدراكاً بما حل بالفلسطينيين من حيف وتشريد، وأصبح ينظر إلى الصهيونية باعتبارها أيديولوجية وحركة أوروبية لا تختلف كثيراً عن الحركات التي ذهبت لاستعمار واستيطان البلدان الأخرى.

وشرعت دولة إسرائيل في تأسيس نظام "الأبارتايد" مثل جنوب أفريقيا في حقبة الفصل العنصري، وأن التشريعات الأخيرة بخصوص يهودية الدولة ما هي إلا مأسسة لنظام الفصل العنصري، كان الكاتب يناصر حل الدولتين ولكن مع التوسع الاستيطاني وسرقة الأراضي الفلسطينية التي هي تحت الاحتلال لمدة خمسة عقود ونيف أصبح حل الدولتين بالنسبة إلى الكاتب مستحيلاً.

وينادي شلايم بدولة واحدة من النهر إلى البحر يتعايش الجميع بتساوٍ ومن دون تفرقة بالنسبة إلى العرق أو الدين أو الجنس، يستمد الكاتب هذه الرواية مما يسميه "الهوية العربية -اليهودية" التي تعايشت في العراق بكثير من الوئام، ويتذكر ما كانت جدتاه تقولان عن العراق إنها جنة الله، فالهوية العربية - اليهودية ممكنة ليست من محض الخيال ولكن واقع عاشه هو وعائلته في الزمن غير البعيد.

فكرة الدولة الواحدة الثنائية القومية ليست جديدة، فقبل إنشاء دولة إسرائيل كان هناك مفكرون يهود مثل ألبرت أينشتاين ويهودا ماغنيس ومارتن بوبر وحنا آرندت، يروجون لدولة واحدة يتعايش فيها العرب واليهود كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.

وفي الختام يجب الإشارة إلى أن ثلاثة عوامل ميزت هذه السيرة لشلايم، الأول: الشفافية والبوح عن الذات بصورة كبيرة، والثاني: استطاع الكاتب بصفته مؤرخاً أن يشبك سيرته الذاتية مع الأحداث الجسام التي مرت بالمنطقة، والثالث: إنسانيته المتدفقة التي تجعله يتفاعل بشكل إيجابي مع الأحداث والشخوص المتمثلة في هذه الرواية.

الإنسانية بالنسبة إلى شلايم ليست قناعة أيديولوجية وحسب، ولكنها متطورة من واقع عايشه الكاتب في العوالم الثلاثة، وحصيلة لمعترك خاضه خلال عمره المديد، ويعد شلايم اليوم من أكثر الأصوات المنافحة عن حقوق الفلسطينيين في العالم الغربي.

المزيد من آراء