تتميز كتابات الأديب النمسوي فرانتس كافكا (1883-1924) بالكثافة الرمزية والصعوبة الإنشائية. ومع ذلك، راجت رواجاً منقطع النظير بعد وفاته، حتى جعلته من بين أعظم أدباء عصره، يوازي مارسيل بروست (1871-1922) مقاماً في الأدب العالمي، وتأثيراً في نفوس القراء، ذلك بأن وصفه الدقيق الوضعيات الحياتية الشائكة جعل الناس يعاينون في نصوصه تعبيراً صادقاً عن معاناتهم الوجودية التي يعجزون عن فهمها وقولها. من السمات الأساسية التي مهرت كتاباته التعبير الجريء عن مأسوية في الوجود الإنساني لا تتجلى إلا في ختام رواياته.
لا بد هنا من التذكير بأن كافكا لم يكن يكتب من أجل التسلية والترويح عن النفس وإلهاء الإنسان عن مواجهة عبثية الحياة، بل من أجل تحريض كل واحد منا على البحث الشخصي عن سبيل الخلاص الذي يلائم تطلعاته وطموحاته. لا شك في أن كافكا لم يكن فيلسوفاً متفرغاً لبناء أنظومة فلسفية نظرية متسقة متكاملة، بل كان جل همه النظر في أعماق الوجدان الإنساني، وتفحص المنازعات الجوانية التي تعتمل فينا.
الخضوع لمشيئة الوالد
ولد كافكا في مدينة براغ عام 1883، وكان ينتمي إلى بيئة بورجوازية متدينة تنعم ببعض من الازدهار الاقتصادي والبحبوحة المعيشية. كان والده تاجراً ناجحاً يهنأ بمغانم تجارته في الأسواق المحلية. غير أن الشاب كافكا لم يكن يرغب في استثمار ثروة أبيه، بل كان يعشق الأدب ويتوق إلى التفرغ الكلي للكتابة، ولو أنه كان يستبعد أن تسعفه كتبه المنشورة في الاسترزاق الشريف وسد حاجات الحياة الأساسية، لذلك اضطر إلى الخضوع لمشيئة والده ودراسة القانون، وقد شبهها بالخشب المنشور المقطع الذي عالجه أهل الصناعة قبله ووضعوه في متناوله لكي يستخدمه من غير استمتاع أو ابتهاج.
في سن الأربعين، أفصح عن غضبه، فدبج رسالة معاتبة صريحة (Brief an den Vater) كشف فيها لوالده عن عمق المعاناة التي اختبرها في العلاقة المتوترة المتأزمة هذه. بيد أنه لم يجرؤ على إرسالها خوفاً من رد الوالد الصاعق، وقد اختبر كافكا شخصية الأب في صورة سيد العشيرة المستبد المهيمن. لا ريب في أن مثل هذا الشعور وضعه في مقام الإخفاق والتعثر، بحيث لم يكن يثق بالنجاحات التي كان يظفر بها أثناء عمله القانوني والإداري. أما اقتناعه الراسخ فتعلقه الشغفي بالأدب وبالكتابة، لذلك لم يطل به الأمر حتى أعتق نفسه من مهام الوظيفة المفروضة عليه، وانصرف إلى الكتابة يخصص لها على الغالب معظم الأوقات المسائية.
التنازع الوجداني أمام عبثية الحياة
بيد أن النشاط الأدبي لم يكن يمنحه السعادة المطلقة المنعتقة من محن الارتباك والتنازع، ذلك بأن انتماءه القومي البراغي البوهيمي التشيكي كان يعارض انتسابه الثقافي الألماني، وأصله اليهودي كان يخالف ما آلت إليه اختباراته الحرة، وما أفضى إليه من مناهضته جماعته اليهودية، ومغادرته كنيس المدينة، وإعراضه عن ممارسة الشعائر الدينية. جراء هذا التنازع، تجلت في كتاباته سمات الالتباس والاضطراب، وغلبت عليها نزعات شتى من العبثية المتشائمة.
من الضروري أن يميز المرء الطور الكتابي الأول من الطور الكتابي الثاني. في الأول، كان كافكا يواظب على تصور العالم في هيئة الحقيقة المتماسكة الثابتة، ويشاطر أدباء عصره، ومنهم الروائي الفرنسي فلوبر (1821-1880) والأديب الألماني توماس مان (1875-1955)، تفاؤلهم وعزمهم على تجميل الوجود وتزيينه بقيم الحق والصلاح والجمال. فيعكف على معاينة مسار الحياة. ووصف تجلياتها، مستعيناً بالشعر ومعتصماً، مع ذلك، ببعض من السوداوية القلقة المتبرمة، وبعض من السخرية المتألمة المتحرقة. أما السمة الغالبة في رواياته الأول، فمثالية فلوبر وتشبثه بحقائق الوجود الجلية ووقائعه الصلبة المتينة الواعدة.
أما في الطور الثاني، فأكب يطور أسلوبه الروائي مراعياً مخاضات الحياة واضطرابات الوجدان، مجتهداً في استثارة القدر الأعظم من القلق والخوف، وقد استخرجه من رواياته المنعقدة على تطلب أقصى أصناف الأمانة الواقعية والمحايدة الوصفية البلاغية. فالواقع الإنساني عينه مجبول، في نظره، على الفظاعة، في حين أن غرابة الوجود تتجلى في تواطؤ عناصر المباغتة المحتشدة في اختبارات المخالطة الملتبسة والمعاشرة المربكة.
لم يكن كافكا يهوى وصف العالم وصفاً دقيقاً أو تصويره تصويراً أميناً، أو حتى الاجتهاد في فهمه أو شرحه أو تسويغ بناه المنظورة وغير المنظورة، ذلك بأنه كان شديد الاقتناع بأن هذا العالم عصي على الإدراك، غامض بحد ذاته، ملتبس المعاني، حتى أضحى أشبه بغشاء أو ستار أو بهو يفصلنا عن العالم الآخر الذي يقوم في فضاء مختلف لا نستطيع أن ندركه، ولو أننا قادرون على الاقتراب منه رويداً رويداً. ومن ثم، فإن الحياة الظاهرة تنشط على مسرح الواقع، في حين أن الحياة المنحجبة تنتسب إلى الخلفية الناظمة. من واجب الروائي، والحال هذه، أن يفهم المعاناة الشديدة التي تسبق الإبداع وترسم للإنشاء سبيل الأصالة في قرائن الغموض الذي يكتنف الوجود بأسره.
الكتابة تبصر في واقع العالم الغامض
استهل كافكا الكتابة بإنشاء نصوص روائية مقتضبة (Hochzeitsvorbereitungen auf dem Lande ; Beschreibung eines Kampfes) نشرها من عام 1906 حتى 1912، وضمنها ثمرة أحلامه التي أفصح عنها من دون أي رابط منطقي. من أجل إظهار فرادة هذه القصص، أنشأ يقول "قصصي نهج خاص بي أسلكه لكي أغمض عيني"، وكأني به يعهد إلى الكتابة بمعاينة العالم عوضاً عن العكوف على النظر فيه بنفسه. ومع أن الناقدين الأدبيين حاولوا عصرئذ أن يصنفوا أدبه الروائي في خانة التعبيريين الألمان من أمثال الأديب النمسوي-البوهيمي فرانتس ڤيكتور ڤرفل (1890-1945)، إلا أن أسلوبه كان أقرب إلى الشاعر الألماني ريلكه (1875-1926) في قصصه البراغية (Zwei Prager Geschichten)، وإلى الأديب النمسوي هوغو فون هوفمانشتال (1874-1929) في كتابات النثر (Prosaïsche Schriften).
أما عبقرية كافكا الحق، فتفتحت وتألقت في رائعته "الحكم" (Das Urteil)، وقد كتبها في ليل 22-23 ديسمبر (كانون الأول) 1912 راسماً فيها أعماق العلاقة الناشبة بين الأب والابن. كذلك أبدع في رواية "أميركا" (Der Verschollene. Amerika) التي تسرد لنا رحلة الشاب كارل روسمان، وقد وقع ضحية نزوته الجنسية من بعد أن أغوى خادمة الأسرة. على متن سفينة المغادرة القسرية التي ألجأته إليها أسرته خوفاً من الفضيحة، شاءت الصدف أن يلتقي عمه الأميركي الذي أخذ يرعاه ويواكبه في نضاله الاسترزاقي.
ذلك بأن رواية "المحاكمة" (Der Prozess) التي أنشأها عام 1924 تعمدت أن تزج القارئ في أتون العبثية الملتهب. فتحولت هذه التحفة إلى مصدر إلهامي غزير من مصادر الخيالات الروائية في القرن العشرين. أما ذروة العبثية فتجلت في القصة الطريفة التي دبجها كافكا ليهجو بها الحضارة الغربية (Ein Bericht für eine Akademie)، ذلك بأنه تخيل قرداً انتزع من قطيعه وحبس في قفص الترويض، تحدق به أنظار الفضول الإنساني الحشري المتعالي. لكي يحيا هذا القرد ويتجاوز محنة الفناء، لم يكن له من سبيل سوى تقليد الغزاة الذين خطفوه. غير أنه أتقن فن المحاكاة إتقاناً مذهلاً جعله يكرر بأمانة مطلقة مسالك الخاطفين الغزاة، بحيث تعزز مقامه بينهم وعظم قدره، فرفعوه إلى مرتبة المتحضر، وحرضوه على طلب المناصب العليا. فإذا به يرشح نفسه لمقعد شرفي في أكادميا العلوم، مرسلاً بكل تواضع قولته الشهيرة "اكتسبت ثقافة الإنسان الأوروبي المتوسطة".
مناجاة المراسلة الذاتية
لا بد لنا أيضاً من استجلاء مضامين المراسلات التي أنشأها كافكا، وفي بعضها يخاطب نفسه ويكشف لها عن حقائق معايناته ومعاناته. غالباً ما كان يدعو هذه الذات القريب البائس التعيس الذي يكتب إليه ليستطلع أحواله في حرية المناجي الذي لا يتهيب أحكام الناس. الحقيقة أن كافكا المراسلات الحميمية والمذكرات الوجدانية كان ينعم بحرية كيانية جليلة تتيح له أن يعري باطنه ويجرده من الأردية المزيفة التي التحف بها لاتقاء شر الناس. وعلاوة على ذلك، كان يعتقد أن الأديب، عندما يراسل نفسه ويدون مذكراته الشخصية، لا يكترث به الناس ولا يولونه الاهتمام الثقيل الوقع الذي ينقلب إلى امتحان مربك يعطل طاقة الإبداع. ومن ثم، اغتنم كافكا الفسحة المحايدة هذه، واختلى بنفسه يستنطقها أعمق أسرارها، في أسلوب رشيق عذب شفاف يجتنب التزيين البياني الموارب المناور.
على تعاقب الأيام والأشهر والسنين، أخذ الأديب المتشائم يستشعر عبثية الحياة في كل تفاصيل الوجود وجزئياته. فإذا بالقلق يعتصره اعتصاراً، وإذا بالأمل المعقود في زمن الشباب يتضاءل ويذوي. غير أن الغرابة في هذا الاختبار النضج التشاؤمي الذي اكتسبه كافكا، وهو ما فتئ في العقد الثالث من عمره. عجيب أمر الإنسان الذي يجرؤ فيسأل في العمر الطري هذا "أفأكون منكسراً؟ أفأكون على شفا الانحلال؟" وعليه، تتجلى لنا في كتاباته انعطابية الحياة الإنسانية في وصف مخيلة الإنسان الراغب في تحقيق منتهى أحلامه. فإذا به يكتفي بأن يسوق لنا مثالاً مستخرجاً من الرواية الكتابية الرمزية "لم يبلغ موسى أرض كنعان بسبب من قصر حياته، بل لأن حياته كانت حياة بشرية وحسب". لا بد هنا من التذكير بأن ثلاثة اختبارات وجودية مهرت حياته مهراً مأسوياً: الطفولة المحرومة من حنان الأم والخاضعة لقسوة الأب، والاعتلال الجسدي والمرض المبكر، وتشوه معاني الحب جراء الانغماس الأعمى في ملذات الجسد. لا غرابة، والحال هذه، من أن شخصيته كلها نشأت ونمت في الاضطراب والخوف والانعطاب النفسي والتحلل الجواني.
استحالة الزواج ومشاركة المرأة في جزئيات الحياة
كان كافكا يرغب رغبة شديدة في الزواج حتى يتحول إلى صورة الأب المستقيم المسلك. غير أنه ما لبث أن اختبر استحالة هذا القرار في حياته. صحيح أنه عثر على شريكة مثالية في شخص فليتشه باور، فكان يحلم بمحضها الحب المطلق الذي يفضي إلى الفناء. غير أن مثل هذا الحلم لا يعني أنه كان قادراً على مشاركتها في كل شؤون الحياة وشجونها. فكان يعاني انفصاماً حاداً في شخصيته، إذ ما برح يتحسر على عزوبيته وعجزه عن الزواج والأبوة، وفي الوقت نفسه ما انفك يصف الجماع الجنسي بالعقاب الذي تفرضه على الرجل السعادة الزوجية. ومن ثم، طفق يندب حظه وينوح نوحاً على مصيره الذي جعله يختبر في الحب الباعث الأخطر على القلق الوجودي الشامل. لا ريب في أن الحياة أنصفته، إذ أحاطته بباقة من النساء اللاتي أبهجن نفسه، وبعثن الدفء في مفاصل جسده، ولكنه لم يستطع أن يختار الاختيار الحسن، فينفرد بقرينة تشاركه في صميم حياته بؤساً وسؤدداً، انقباضاً وانبساطاً، معاناة وانشراحاً. الحقيقة أنه أخضع علاقته بالمرأة لهاجس المتعة الجنسية، فتبين له أن الحب الذي ينشده لا يستطيع أن يحصل عليه، إذ يستحيل على المرأة أن تكتفي بالإمتاع الجسدي وتضحي بالوصال الكياني الأعمق. عاملان اثنان حرماه إذاً من اكتشاف الاختبار العاطفي العلائقي الحق: غرائزيته المستفحلة، وعبقريته المبدعة الحريصة على حريته الفردية ومساحته الشخصية الخالية من كل حضور نسائي إزعاجي.
السعادة الممتنعة
بيد أن المذكرات تفضح كافكا، فتبين عمق المأساة التي عاناها، إذ اكتشف أنه غير أهل للسعادة الحق يختبرها ويجعل الآخرين يختبرونها. لا ريب في أن مثل العجز المزدوج هذا كان ينبثق من اضطراب نفسي تحول بفعل العبقرية الذاتية إلى مصدر جليل من الإلهام الأدبي الراقي. في عام 1923، اعتل جسمه اعتلالاً شديداً، وأصيبت حنجرته بالمرض الفتاك، فربطت لسانه ومنعته من النطق. فإذا به يتمنى لو يلتحف القبر، محاطاً بعاطفة من أحبوه، من أهله وأصدقائه وعشيقاته، تصونه قوة الشباب المنقضي، وتزهو به تألقات العقل المتقد، وتزين فضاء مدفنه أزهار الربيع العابقة بأريج الهدوء الكوني. غير أن هذه الصور ثمرة من ثمار مخيلته الشريدة، إذ إن واقعه المرير يملي عليه حقائق وجودية مؤلمة. فإذا به يخط في دفتر مذكراته "إن من لا يستطيع، وهو حي، أن يتغلب على الحياة، يحتاج إلى يد لتبعد عنه بعض الشيء اليأس الذي يسببه له قدره. لن ينجح في ذلك إلا بالتعثر والتقصير، ولكنه يستطيع باليد الأخرى أن يسطر ما يعاينه تحت الركام، إذ يرى غير ما يراه الآخرون، وأكثر مما يرونه. أفليس هو المائت، وإن ظل حياً؟ أفليس هو من بقي قيد الحياة على أصالة وصدق؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تدل هذه العبارات على عمق المأساة التي كان كافكا يعانيها على فراش الموت، وقد تجسدت صوراً بليغة في خاتمة المذكرات، ذلك بأنه أضحى عاجزاً عن كل أمر، ما خلا التألم اليومي، و"استخراج الكلمات من جوف الخواء"، يعتزل العالم ويجتنب الناس، "لا ليحيا بسلام، بل ليتلاشى بسلام"، "منفياً هناك، منبوذاً هنا، مسحوقاً على الحدود" الفاصلة بين السماء والأرض. وسرعان ما انطفأ ومضى في سن الأربعين، حاملاً معه نضج كيانه غير المكتمل وحسرة أحلامه المتكسرة على نتوءات الدهر المسننة الحادة الموجعة.
حس استباق الأحداث
بعد رحيله، سارع الأصدقاء إلى نشر المخطوطات التي لم تسعفه الأيام في إكمالها. فإذا بنصوص "المحاكمة"، و"القلعة"، و"أميركا" تظهر الواحد تلو الآخر، فتستنهض عقول الأوروبيين الذين أدركوا عمق البصيرة، ومتانة التناول، وصحة التحليل، وجزالة التعبير في كل رائعة من هذه الروائع. أما الوقع الأبلغ فأحدثته هذه الكتابات في ألمانيا التي كانت تستعد للضلال الأعظم في بدايات الثلاثينيات من القرن العشرين، فضلاً عن الترجمات الفرنسية والإسبانية والإنجليزية الأول، انتشرت نصوص كافكا انتشاراً واسعاً في إثر الحرب العالمية الثانية، إذ تكشفت الحقائق واتضحت مقادير الانحطاط الأخلاقي العالمي في انفجار العصبيات القومية واستفحال العنف الدموي الإبادي. من ضحايا الجنون النازي شقيقات كافكا الثلاث اللاتي قضين نحبهن في معسكرات الاعتقال. في إثر ذلك كله، اتضح أن رواية في "مستعمرة العقاب" استبقت معسكرات الذل بثلاثة عقود، و"المحاكمة" أنبأت باستجوابات القهر الستاليني، و"القلعة" وصفت قبل الأوان معاناة النازحين والمنبوذين.
تأثير كافكا الأدبي
من الواضح أن كتابات كافكا أثرت في جيل موهوب من أدباء عصره، من أمثال الكاتب الألماني-البوهيمي ماكس برود (1884-1968)، والشاعر التعبيري الألماني ڤالتر هازنكلڤر (1890-1940)، والروائي الشاعر النمسوي-البوهيمي فرانتس ڤيكتور ڤرفل، والروائي الألماني ياكوب ڤاسرمان (1873-1934). أما الرسالة العتابية التي دبجها كافكا ووجهها إلى والده، فيمكن أن يعدها المرء تمهيداً أدبياً لنشوء ثورة الشبان والشابات وانتفاضتهم الباريسية التي اندلعت في شهر مايو (أيار) من عام 1968. لا بد أيضاً من ترصد الأثر البليغ الذي تركه كافكا في التيار الأدبي السوريالي، لا سيما في كتابات مؤسس هذا التيار الأديب الفرنسي أندريه بروتون (1896-1966)، وفي قصائد الشاعر البلجيكي-الفرنسي هنري ميشو (1899-1984). ثمة آثار جلية في أعمال أدباء معاصرين آخرين من أمثال الروائي الأميركي جوليان غرين (1900-1998)، والأديب الفرنسي جوليان غراك (1910-2007). وعلاوة على ذلك، تجلت آثار رواياته في أدب سارتر (1905-1980) وكامو (1913-1960)، وذاعت شهرته الأدبية الثورية في الأوساط الفكرية الأوروبية، حتى إن المجلة الدورية الأسبوعية الشيوعية الفرنسية "أكسيون" (Action) عنونت عدداً من أعداد عام 1945 "هل يجب أن نحرق كافكا؟" (Faut-il brûler Kafka ?).
دلوز وغاتاري يفككان كافكا فلسفياً ونفسياً
فاجأ الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز (1925-1995) وصديقه عالم النفس التحليلي فليكس غاتاري (1930-1992) الأوساط الأدبية الأوروبية حين أصدرا كتابهما المشهور "كافكا: في سبيل أدب صغير" (Kafka. Pour une littérature mineure)، يرفضان بواسطته الصورة النمطية التي رسمها ماكس برود، وقد جعلت الأديب الثوري هذا روائي الإله الغائب والناموس المغتصب والشعور بالذنب "إن الموضوعات الأشد إغاظة في الكثير من تفسير أعمال كافكا هي: تسامي الناموس، جوانية الشعور بالذنب، ذاتية النطق. إنها موضوعات مرتبطة بجميع الحماقات التي كتبت في شأن المجاز والاستعارة والرمزية في نص كافكا" (كافكا: في سبيل أدب صغير، ص 82-83)، فضلاً عن ذلك، حاول دلوز وغاتاري أن يكشفا عن وجه آخر من عبقرية كافكا يدحض مسألة الذنب الذي يفرضه الناموس المتعالي. أفضل مثال على ذلك رواية "المحاكمة" التي يستل منها الفيلسوفان الدليل الدامغ على إسقاط كافكا مسألة الذنب برمتها. ومن ثم، ليس الناموس، في نظر كافكا، نازلاً من عل، بل منغرس في تربة المعاناة الإنسانية التاريخية التي تعمل عمل الآلة المتعددة الوظائف. من أبرز هذه الوظائف ترتيب أو تنضيد أو ارتصاف (agencement) الأساليب التعبيرية التي اعتمدها كافكا في رواياته وقصصه ورسائله ومذكراته. لا بد إذاً من استثمار غنى هذه المقاربات حتى يفوز المرء بالفهم الأفضل، ويدرك مقاصد المعنى الوجودي الأعمق. وحده نص كافكا المنحجب يجعلنا نستوعب مقام الناموس الحق في عمق الرغبة الإنسانية "حيث كنا نعتقد أن هناك الناموس، ثمة في واقع الأمر رغبة، ورغبة وحسب. العدالة رغبة، لا ناموساً" (كافكا، المحاكمة). ومن ثم، فإن الرغبة تولد الناموس، والناموس يولد الخطيئة، إذ لا يختبر الإنسان الانحراف إلا حين تفرض عليه الاستقامة من عل، لذلك من الضروري أن نعيد النظر في تاريخية الناموس حتى نحرر رغبتنا من قيود الانحراف.