لا يحسب القارئ أن هذا "اللعين الجميل" (ص:11)، الفتى المسمى "سامي شاهين"، النازل لتوه في باريس، أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، والناجي من مغامرات وحروب لا تبقي ولا تذر، على ذمة الراوي العليم الذي يكشف لنا سيرته، بل سيرة خروجه من جهنم المشرق العربي في القسم الأول من الرواية، إنما هو نفسه شاموئيل بن غورجية، الآشوري العراقي اللابس الأقنعة المناسبة وقايةً له من الموت والإبعاد والحيلولة دون الخروج من أرض اللعنة، في القسم الثاني من الرواية.
إني أتحدث ها هنا، عن رواية صادرة حديثاً للأديب التونسي حسونة المصباحي (1950) عن دار شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بعنوان "على أرصفة الشتات"، وهي الثالثة عشرة ، وأورد في الصفحة السابعة منها أنه استند فيها إلى أحداث حقيقية جرت بين السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وطبعاً مع بعض التوليف والإضافات السردية والتخييل، والنمذجة التي نتكلم عنها لاحقاً، للتدليل على اندراج هذه الرواية في عداد الرواية التونسية الواقعية، وإن يكن البطل الأول التائه فيها عراقياً، وآشورياً، متغرباً ومرذولاً في بلاده، ومتسكعاً على أرصفة الغرب، حالماً بالحب وبالمجد السينمائي لا يأتيانه، والبطل الثاني تونسي ذو سمات مختلطة، بين اليساري الثوري (ممثل بشخصية العفيف) وبين اليساري الفنان والمزاجي الذي يأبى الانتظام في صفوف مهنة ( التعليم) والانقياد لمسلك تقليدي فيها (نموذج مستمد من سيرة الكاتب، ربما) .
ينتقل الراوي العليم بالقراء من أوائل الثمانينيات، حين التقى بالمهاجر العراقي الذي أفلح أخيراً في الوصول إلى باريس، والتقاه الراوي آتياً من فيينا عبر القطار، حيث تطالعه وفود المهاجرين الفقراء، فوجده منسجماً مع محيط المدينة، متأنقاً نظيف الهيئة على رغم تسكعه وفقره، وكان الراوي قد تعرف على هذا المهاجر العراقي ذي الأصول الآشورية في مدينة تونس لسنة خلت عام 1982، وقد نزل فيها مع المئات من الفلسطينيين المرحلين من بيروت، إثر اجتياح إسرائيل المدينة، في يونيو (حزيران) من العام نفسه.
وتبين من الحوار بين الراوي أن هذا الآشوري المفتون بالسينما كان يفتش عن السبل التي تخرجه من جهنم عيشه، بعد إتمامه الخدمة العسكرية في بلاده العراق، مقاتلاً الأكراد (غصباً عنه) وبعد إخراج عائلته عنوة من قرية الحبانية، مسقط رأسه لإقامة معسكر للقوات العراقية ومغادرته عائلته الفقيرة الساكنة في أحياء مختلطة من المهجرين، والمكونة من والد أصم أبكم وأم مجاهدة لتحيا، إلى دمشق ومنها إلى بيروت أواخر السبعينيات، منتمياً إلى الجبهة الشعبية الفلسطينية، وعاملاً مع فريقها الإعلامي والفني، غير ملتزم فكرها الماركسي.
حكاية الراوي
وإذ يتوقف الراوي قليلاً عن متابعة تسكع المهاجر الآشوري (الشبيهة سيرته بسيرة الشاعر العراقي الراحل سركون بولص، إن لم تكن مستمدة منها) ينقل كاميرته إلى شخصية أخرى، هي العفيف، وهو بحسب السياق، مناضل يساري تونسي ثوري بتعريف ذاك الزمن، "مثقف ذو امتلاك آسر للغة العربية في بلد متفرنس حتى النخاع مثل الجزائر"، وإن يكن من عائلة فقيرة، فقد أوتي من العصامية وحب التعلم والاطلاع على الماركسية من مصادرها، والسفر إلى البلدان العربية ذات الأنظمة الاشتراكية تباعاً (العراق، وسوريا، وليبيا، والجزائر، واليمن، وبيروت) والعودة منها بخيبات مريرة، ويقين بحلول ديكتاتوريات خانقة وأنظمة على وشك انفجارها الاجتماعي من الداخل، بفعل الانقسام الطائفي وطغيان الأوهام الكاذبة.
ولئن سعى إلى تعويض انكساره السياسي بالحب، والعلاقات الغرامية المجنونة والمعقولة حيناً بعد حين، فإن واقع المجتمع العربي مشرقاً ومغرباً بكل تناقضاته وقيمه المختلة، سرعان ما يعيده إلى نقطة الصفر، ويحمله على الهجرة ثانية إلى ...الغرب، وباريس تحديداً.
ولا يكاد متن الرواية، لا سيما القسم الأول منها والاكبر، يخفي إدخال الكاتب بعضاً من سيرته في التعليم، وفي مواجهة التخلف في النظام التربوي التونسي، في السبعينيات من القرن الماضي، إذ يروي ما آل إليه مصير معلم "تقدمي"، يمقت "مقتاً شديداً كلمات مثل وطن، وعائلة، ودولة استخفافه بالثقافة الرسمية وبكل ما له صلة بها.."، ويحيا منفرداً، بعد أن كان ينتمي إلى عائلة متدينة من منطقة الجريد، وما زاد الطين بلة أنه كان إلى ذكائه سليط اللسان سكيراً ومخاصماً الشيوخ، فجرى طرده من سلك التعليم وسجنه، بعد توزيعه منشورات تدعو الشعب إلى التمرد على الحكام لتقاعسهم عن خدمة الناس، وخروجه من السجن محطم الإرادة وذليلاً، ولا يلبث أن يموت في شتاء عام 1995 جراء أمراض خطيرة "ظلت تعذبه".
الحب والمرأة والسينما في المنفى
في القسم الثاني من الرواية يحكي الروائي عن جماعة أخرى من المهاجرين، غصباً عنهم، إلى ديار الغربة وتحديداً إلى باريس، وقد لفظتهم مجتمعاتهم التي ازدادت فيها عوامل الانقسام، واستعرت الحروب الأهلية، وتنامت فيها العصبيات الطائفية والمناطقية حد الاختناق، وهذا ما مثلته شخصية رنا، الكاتبة التي قصدها الراوي بصفته صحافياً في جريدة ألمانية، فيستعيد سيرتها كونها ولدت في بيروت الستينيات، وانتقلت عائلتها إلى الكويت في بداية نهضتها العمرانية، ولدى الصعوبات المالية اشتد الخلاف بين والديها، ما اضطر الوالدة إلى العودة مع ابنتها إلى بيروت، ولم تلبث أن انتقلت بها إلى دمشق حال اندلاع الحرب الأهلية.
وفي هذه الأثناء، يصور الكاتب تصاعد نجم ابن الحبانية، المهاجر الآشوري الذي سبقت الإشارة إليه، في القسم الأول، ويرسم دروب اللقاء، ثانية، بينه وبين رنا، التي كانت تعرفه في بيروت، يوم جمعهما الالتزام السياسي اليساري (هي في المرابطون، وهو في الجبهة الشعبية)، وها إنهما يلتقيان من جديد، هو شاعر متفرد بالفعل وسينمائي الهوى بالإمكان والحلم، وهي كاتبة قصة ورواية، وكلاهما هارب من جحيم بلده العربي ومنفي منها بشكل أو بآخر، ومسوق بأوهام لا تلبث أن تهوي على الطريق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يحسن الكاتب التونسي حسونة المصباحي، في هذه الرواية وغيرها، رسم الإطار الزماني ("أحداث وقعت في السبعينيات والثمانينيات") والمكاني (مسرح الأحداث، من بغداد، ودمشق، وبيروت، والقاهرة، وتونس، والجزائر، وبنزرت، وصولاً إلى باريس) للأحداث المروية وبأقل التفاصيل الأساسية والوقائع التاريخية المعروفة، وهذا من أجل تسويغ حركة الشخصيات، وانتقالها من ضفة بلادها الشرقية الواقعة تحت تأثير الانقلابات والقمع والاستبداد ومسخ القيم والأفكار التحررية.
ولعل أميز ما في الرواية إلى جانب التقاط الروائي اللحظات الحميمة واندفاق المشاعر لدى الشخصيات، هي القدرة على اختزال صور الأنظمة بلقطات دامغة، وبتعليقات على مدار القسمين تفضح هذه الأنظمة، إذ تضعها في ميزان القيم والأفكار التنويرية والثورية التي لطالما جعلتها عنواناً لحركاتها التصحيحية، ثم ترتد عنها لصالح الطوائف والعشائر والفئات المنتفعة، وتقصي الفرد المتحرر والمبدع منها أو تنفيه إلى الغرب، تائهاً في الشتات، مغلوباً على أمره.