انتقاد الحداثة من دون طائل يكون أحياناً نوعاً من التجني، ففضلها على الإنسان واضح للعيان، مع ذلك اتهمت الحداثة بالسطحية، خصوصاً حين تسخر السينما من بعض الرموز التاريخية والحكايات الشعبية المتوارثة، التي وضع عدد كبير منها بهدف تربية الأطفال لا تسليتهم وفق عادات وتقاليد تلك الحضارات الغابرة.
فحكاية "الزومبي" و"دراكولا" مثلاً جسدتا قديماً منتجاً فكرياً رفيعاً للحضارة السومرية (3000 ق.م)، تمثل في استخدام هذه الأيقونات لتخويف وتحذير الناس عموماً، والأطفال خصوصاً من عاقبة الأفعال الدنيئة، وقد أنجز ذلك من خلال رصد إنسان تلك الحضارة مكنونات الإنسان الداخلية التي تحوله لغول نتيجة ظروف قاهرة، وفهم تلك المكنونات ومن ثم استخراج المقولة المتداولة أو العبرة منها في الواقع وعكسها في المجتمع تربوياً؟
لكن الحكاية تشوهت حديثاً في أجزاء كثيرة منها، فتحولت إلى مجموعة من القصص الهزلية المصورة بالفيديو وتقنية "الإنمي"، وتجاهلت الجهد الذهني الكبير الذي بذل من أجل إنتاجها، وبدلاً من ذلك أنتج جهابذة "هوليوود" أفلاماً كثيرة عنها بشكل سطحي وقد عرض منها أخيراً فيلم نفذ بميزانية وصلت لـ 160 مليون دولار تحت اسم ظريف لغول لطيف هو "شريك"، وقد نال الفيلم الهزلي سنة 2001 جائزة أوسكار عن أفضل فيلم مصور، وكانت عائداته تقدر بـ 799 مليون دولار.
كل هذا قد يبدو طبيعياً في سياق زمني معاصر، لكنه يؤشر أيضاً إلى أننا قد لا نكون قد تمكنا على رغم تطورنا الهائل فكرياً وتقنياً من إدراك سر إنتاج القدماء لتلك الحكايات، فأسطورتا الزومبي ودراكولا هما في الواقع جزء من حكايات قديمة مشتقة من أسطورة تطورت في زمن الملك الشهير "جلجامش 2500-2800 ق.م"، الذي كان بدوره يوصف بأنه "مصاص دماء ووحش فاسق على هيئة رجل وسيم يمتص دماء الأطفال والعجزة".
وتعود جذور هذه الوحوش كلها إلى حكاية اسمها "الأرواح السبعة/ وحوش الرياح" انتشرت قديماً حتى وصلت فلسطين السريانية، وهناك من يقول إنها أقدم من ذلك بكثير، حيث كانت تروى للتسلية أمام النار في زمن الكهوف.
ظلم اجتماعي وعدم مساواة
وصِف السومريون والبابليون في أبحاث معاصرة بأنهم شعوب قدمت الخرافة على العلم وآمنت بالسحر والشعوذة، لذلك فهي حضارات قديمة غير مفكرة عند بعض الفلاسفة، كونها روحية الطابع مثل الحضارات المصرية القديمة والهندية.
لكن العلوم الحداثية، التي تتحدث عن التحول عند الانسان تؤكد على أن الشعوب التي رصدت وتأملت التحولات الداخلية للإنسان وتعمقت في فهم مكنوناته الداخلية هي شعوب متقدمة فكرياً أكثر من حضارات قد تكون معاصرة لنا زمنياً ومتخلفة فكرياً.
وبغض النظر عن الفترة الزمنية، التي وجد فيها السومريون، إلا أنهم قدموا للإنسانية نمطاً راقياً من التفكير في الذات، بالتالي فإنهم أدركوا جيداً أن الظروف التي تحول إنساناً بسيطاً إلى وحش أو غول هي غالباً ظروف قاهرة خارجية تندرج تحت مفهوم الظلم الاجتماعي وعدم المساواة بين الناس، ولهذا تداولوا وصف "جلجامش" بكونه رجلاً ظالماً وسفاحاً يقتات على مقدرات الشعب.
جمهور سطحي متعطش للتسلية
في وقتنا هذا استغل منتجو "هوليوود" وكتابها هذه الحكايات، التي نشأت في الشرق لأهداف تربوية صرفة، وحولوها إلى قصص هزلية ومسلسلات وأفلام تتناول في غالب مضمونها الدلالات الترفيهية، لذلك وسم جمهور السينما المتعطش لمثل هذه الأعمال بأنه جمهور سطحي في كثير من الأحيان، فالثورة البصرية تمكنت من عكس الأيقونات والتلاعب بها لتحقيق أرباح وعوائد مالية ضخمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فيما ظل البعد التربوي والفكري والتثقيفي العميق مخبأ عن الجمهور، لتصبح الصورة معكوسة تماماً، فالمتحولون عموماً ودراكولا والزومبي خصوصاً الذين كان مجرد ذكرهم يثير الفزع في النفوس صاروا أبطالاً شعبيين، ومنهم "شريك" الذي يخوض مغامرات بطولية لإنقاذ حبيبته من براثن إنسان متنفذ أو متغول يحتجزها في قصر يحرسه التنين.
وبطريقة ما أصبح الغول هو الإنسان، لأنه تغير شكلاً فقط، فهو جميل ومبتسم ويطلق النكات، فيما الإنسان هو الغول، هذا الأمر تطور سينمائياً ليصل إلى درجات خرافية، فدراكولا أيضاً صار وحشاً ظريفاً، يحب ويقتل من أجل حبيبته، والزومبي أيضاً تحولت شخصيته كثيراً لدرجة أن أبطالاً من "هوليوود" ممن يعدون الأوسم شكلاً والأكثر جاذبية ومن الجنسيين الذكر والأنثى جسدوا شخصية هذه الوحوش المرعبة وتقبلها جمهورهم، ومن هؤلاء النجوم على سبيل المثال لا الحصر، براد بيت وتوم كروز ونيكول كيدمان.
وفق هذه الصيغة سخرت "هوليوود"، التي تعد من خلال السينما الناطق البصري الرسمي باسم الحداثة، من كل تراث السومريين التربوي والأكاديمي المتطور مقارنة مع ذلك الوقت طبعاً.
جلجامش اسم لشيطان
كان "جلجامش" قاضي الموتى في العالم السفلي، وكان يعبد من الناس كإله، والغول "خومبايا" كان واحداً من جنود الملك المثيرين لهلع الخصوم، فيما "إنكيدو" المتوحش أعز أصدقاء الملك نظير خدماته وتضحياته معه، حتى أن "جلجامش" مدح صديقه "إنكيدو" في واحدة من قصائده، فقال "إنه سوف يحب صديقه كزوجة"، وهذا قد يعني العلاقة الجنسية أيضاً.
لذلك ظهر "جلجامش" عند رجل الدين السيوطي (1500 م) كاسم للشيطان، وقد ذكر كل من عنترة وجرير وتأبط شراً المسوخ في أشعارهم، فيما لم ينكر الإسلام وجودهم، لكنه صنفهم مع الجن والشياطين ورفض فكرة أنهم قادرون على تضليل الناس، مع ذلك قد يكون أصل كل هذه الخرافات عائداً إلى قصص متداولة حول أناس تشوهوا خلقياً، سواء عند الولادة أو في مقتبل العمر، أي إنهم كانوا مرضى لا وحوشاً أو مسوخاً.
أخيراً، لو أنك كنت جالساً إلى لقمان الحكيم بذاته قبل آلاف السنين وقال إن المسخ أو الزومبي على رغم مظهره المرعب وصورته البشعة لدى الناس هو كائن لطيف، أو بطل محبوب وظريف، فإنك بلا شك لن تصدقه، لكن الزمن تكفل بهذه المهمة وحول هذه المقولة إلى حقيقة لدرجة أن الناس قبلوها وأحبوها، بل إنهم يصحبون أطفالهم لرؤيتها في دور السينما وينفقون أموالهم في سبيل الفرجة عليها والاستمتاع بمشاهدة ومتابعة تحولاتها الجديدة التي تقررها وتتحكم بها الحداثة بين فترة وأخرى.