منذ بداية القرن الـ20، هزت #العالم_العربي عمليات #اغتيال كثيرة غيرت مسارات الأحداث والتطورات وبدلت في تاريخ المنطقة. معظم هذه الاغتيالات تم بالرصاص قبل أن تتحول إلى عمليات #تفجير، وأكثرها كان نتيجة الصراع السياسي. "اندبندنت عربية" تفتح بعض ملفات هذه الاغتيالات، وفي هذه الحلقة نتناول قضية محاولة اغتيال الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر في المنشية في 26 أكتوبر (تشرين الأول) 1954.
لا تخرج محاولة اغتيال جمال عبدالناصر عن مجرى السياق العام لعلاقة السلطة في مصر بتنظيم جماعة "الإخوان المسلمين"، وعلى رغم مرور نحو 69 عاماً على هذه الحادثة، فإنه لا تزال هناك محاولات تشكيك بها وبمصداقيتها لناحية ما إذا كانت فعلاً عملية نفذها تنظيم "الإخوان" بقرار قيادي أم أنها "مسرحية تمثيلية" أراد عبدالناصر من خلالها الإمساك الكامل بالسلطة بعد عامين وثلاثة أشهر على ثورة 23 يوليو (تموز) 1952.
ما قبل المنشية
هذه المحاولة أتت بعد سلسلة أحداث:
1-قيام تنظيم "الإخوان" باغتيال رئيس الوزراء المصري أحمد ماهر باشا في 24 فبراير (شباط) 1945 على عهد الملك فاروق، التي التبست مسؤولية التنظيم في ارتكابها لأن محمود العيسوي الذي نفذها بإطلاق النار على ماهر باشا لم يظهر في البداية أنه عضو في التنظيم العسكري السري الخاص التابع لـ"الإخوان".
2-قيام عبدالمجيد أحمد حسن من هذا التنظيم السري باغتيال رئيس الحكومة الذي خلف ماهر باشا، محمود فهمي النقراشي باشا، في 28 ديسمبر (كانون الأول) 1948 عندما أطلق عليه ثلاث رصاصات في البهو الداخلي لوزارة الداخلية بعدما كان النقراشي قد أصدر قراراً بحظر التنظيم ومصادرة أمواله واعتقل كثيرين من أعضائه وقياداته.
3-بعد اغتيال مؤسس "الإخوان" حسن البنا بإطلاق النار عليه في 12 فبراير 1949 على رغم أنه كان تبرأ من عملية اغتيال النقراشي باشا وأعلن في بيان "أن الذين نفذوا العملية ليسوا مسلمين وليسوا إخواناً". كان ذلك قبل أقل من أربعة أعوام من ثورة الضباط الأحرار والانقلاب على الملك فاروق وإبعاده عن مصر، وكان الضابط الأبرز فيها البكباشي جمال عبدالناصر.
وارتبط اسم تنظيم جماعة "الإخوان" بهذه التحولات التي عرفتها القاهرة على خلفية تحميل النظام الملكي مسؤولية ما حل به من قرارات حظر واعتقالات وملاحقات وصولاً إلى اغتيال مؤسسه، وعلى خلفية قيامهم بدعم الثورة التي أنهت هذا النظام خصوصاً مع المعلومات التي ذكرت دائماً أن جمال عبدالناصر انتمى لهذا التنظيم وكان أحد أعضائه. واستعان ضباط الثورة باللواء محمد نجيب كأبرز الوجوه العسكرية في الجيش ليكون قائداً للحركة بينما كان عبدالناصر يمسك بمفاصل القوة داخل السلطة. وفي ظل هذه المعادلة، اختير نجيب لمهمة رئاسة الدولة بينما اكتفى عبدالناصر برئاسة مجلس الوزراء، وخلال عمليات تشكيل السلطة الجديدة تمت عملية استبعاد "الإخوان" عن مراكز القرار وعن أي منصب فاعل وقوي في الحكومة فوقع الخلاف بينهم وبين عبدالناصر.
ما بعد الثورة
الخلافات التي عصفت بالثورة لم تبقَ على هذا المستوى فقط بل دخلت إلى مجلس القيادة مع الخلاف بين نجيب وعبدالناصر الذي كان يحاصر نجيب ويشل حركته ويعتدي على صلاحياته التي لم تكن وقتها واضحة بعد. نتيجة هذا الصراع قدم نجيب استقالته في 22 فبراير 1954. وبعد ثلاثة أيام، صدر قرار عن مجلس قيادة الثورة بإقالته على رغم استقالته، فخرجت في 27 فبراير تظاهرات مؤيدة له يقال إن تنظيم "الإخوان" كان الداعم الأساس لها نتيجة التقاء المصالح بينه وبين نجيب ضد عبدالناصر. ونتيجة ضغط الشارع، اضطر مجلس قيادة الثورة، الذي كان يمون عليه عبد الناصر، إلى العودة عن قراره وإعادة تثبيت نجيب في موقعه. وقد جاء في البيان الذي أصدره لهذه الغاية أنه "حفاظاً على وحدة الأمة، يعلن مجلس قيادة الثورة عودة محمد نجيب رئيساً للجمهورية، وقد وافق سيادته على ذلك".
وعاد محمد نجيب مجدداً إلى منصبه كرئيس للجمهورية، ولكنه كان مؤيداً لعودة الجيش إلى ثكناته وعودة الحياة السياسية إلى طبيعتها. وفي الثالث من مارس (آذار)، خرجت تظاهرات تطالب بعودة الديمقراطية إلى مصر واعتبر عبدالناصر أن نجيب وراءها مع جماعة "الإخوان"، فنظم تظاهرات مضادة في 28 مارس تطالب بعدم عودة الديمقراطية وتثبيت سلطة مجلس قيادة الثورة. ولم يقتصر الأمر على هذا الحد بل تجاوزه إلى حركة داخل الجيش داعمة للواء محمد نجيب كان قوامها سلاح الفرسان (المدرعات)، ولكن عبدالناصر استطاع احتواءها من دون التمكن من إبعاد نجيب ومن دون أن يتمكن الأخير وداعموه من تثبيت مواقعهم في السلطة. واستغل عبدالناصر هذه التطورات لإحداث تغييرات داخل الجيش ولإبعاد المؤيدين للواء نجيب إذ يتمكن لاحقاً من الإطاحة به من دون ردود فعل معاكسة خصوصاً أن هذه الخلافات ترافقت مع تسريب معلومات تشكك بقيادة عبدالناصر وتقول إنه هرب من المعركة في فلسطين في عام 1948 بسبب الخوف مدعياً أنه مريض.
إطلاق نار وانقلاب
في 26 أكتوبر، اختار عبدالناصر، وكان لا يزال رئيساً للوزراء وفي الواجهة السلطوية والسياسية، أن يحتفل بذكرى جلاء الجيش البريطاني عن مصر في الإسكندرية. وتم تنظيم الاحتفال الحاشد شعبياً ليلقي عبدالناصر خطاباً حماسياً. وترؤسه هذا الاحتفال كان في ظل تغييب دور الرئيس المعلن رسمياً اللواء محمد نجيب الذي كان لا يزال يحتفظ بالمنصب اسمياً، وأصبح تقريباً في وضع شبه معزول. وكانت الساعة نحو الثامنة ليلاً عندما كان يخطب ويقول "يا أهل الإسكندرية، أحب أن أقول لكم اليوم ونحن نحتفل بعيد الجلاء، بعيد الحرية، بعيد الاستقلال... أيها الإخوان كفانا هتافاً، لقد هتفنا في الماضي فماذا كانت النتيجة؟ هل سنعود إلى التهريج؟ لا أريد منكم أن تقرنوا اسم جمال بهذه الطريقة. إذا كنا نتكلم معكم اليوم فإننا نتكلم لتسير الأمور إلى الأمام، لا يريد جمال أن تهتفوا باسمه إنما نريد أن نعمل لبناء هذا الوطن حراً، لم يُبنَ هذا الوطن في الماضي بالهتاف، سنتقدم. سنعمل للمبادئ وللمثل العليا، لقد بدأت كفاحي وأنا شاب صغير في هذا الميدان، نحتفل معكم اليوم بعيد الجلاء وبعيد العزة وبعيد الكرامة".
وهنا حصل إطلاق النار، ثماني رصاصات أطلقها محمود عبداللطيف من جماعة "الإخوان"، وكان يقف على بعد أمتار عدة عن المنصة التي وقف عليها عبدالناصر أو جمال كما سمى نفسه في خطابه تدليلاً على أن اسمه الأول تحول إلى رمز. ولكن الرصاصات أخطأت عبدالناصر لتصيب أشخاصاً قريبين منه. لم يخرج عبدالناصر من الاحتفال، لحظات وعاد يخطب في الجماهير: "فليبقَ كلٌّ في مكانه أيها الرجال. أيها الأحرار. دمي فداء لكم. حياتي فداء لكم. دمي فداء مصر. حياتي فداء مصر. أيها الرجال الأحرار دمي فداء لكم. حياتي فداء لكم، هذا جمال عبدالناصر يتكلم إليكم بعون الله بعد أن حاول المغرضون أن يعتدوا عليّ وعلى حياتي. دمي فداء لكم، حياتي فداء لكم أيها الرجال الأحرار. إن جمال عبدالناصر ملك لكم وحياة جمال عبدالناصر ملك لكم. أيها الرجال هذا هو جمال عبدالناصر بينكم. أنا لست جباناً، أنا قمت من أجلكم، من أجل عزتكم وكرامتكم وحريتكم، أنا منكم ولكم، عشت لكم وسأعيش حتى أموت عاملاً من أجلكم وأموت من أجل حريتكم وعزتكم وكرامتكم، فليقتلونى، وأمُت من أجل مصر، من أجلكم، من أجل أحفادكم، أيها الأحرار، احملوا الرسالة وأدوا الأمانة من أجل عزتكم وكرامتكم، سيروا على بركة الله، الله معكم ولن يخذلكم، فلن تكون حياة مصر معلقة بحياة عبدالناصر، إنها معلقة بكم أنتم وبشجاعتكم وكفاحكم فكافحوا. وإذا مات جمال عبدالناصر فليكن كل منكم عبدالناصر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فوراً تم إلقاء القبض على محمود عبداللطيف، وبدأت موجة اعتقالات وتحقيقات، والطريقة التي تصرف بها عبدالناصر جعلت المشككين في أصل عملية الاغتيال يعتبرون أنها لم تكن إلا مسرحية نظمتها أجهزة مخابراته لكي يحصد التأييد الشعبي الكبير ويعلن نفسه زعيماً وحيداً عبر خلق موجة تأييد له وموجة استنكار لعملية الاغتيال وليقوم بتصفية خصومه خصوصاً في جماعة "الإخوان" وليصفي حسابه مع الرئيس محمد نجيب. هذا التشكيك في أصل العملية ينطلق من أن مطلق النار كان معروفاً من عبدالناصر، وكان قناصاً مدرباً على إطلاق النار، وكان يمكن أن يصيبه من دون أن يخطئ لو كانت العملية جدية، وأنه لهذا السبب، ولأن جمال كان يعرف أنها مسرحية، لم يغادر المكان ولم يرتعب وبقي في مكانه يتابع خطابه ويقدم نفسه وحياته ودمه فداء للرجال ولمصر وكأنه كان جهز نفسه لمثل هذا السيناريو وهذا الكلام من ضمن المسرحية ومن ضمن الخطاب. وما زاد في تدعيم هذه النظيرة أنه لم يعثر على المسدس الذي استخدمه محمود عبداللطيف في إطلاق النار، وأن أحد أبناء الإسكندرية وجده وقرر أن يسلمه بنفسه لعبدالناصر ومشى من الإسكندرية إلى القاهرة مدة أسبوع حتى وصل وقابل عبدالناصر وسلمه المسدس والتقطوا له صورة معه.
ضحايا المحاولة: "الإخوان" ومحمد نجيب
ولكن في الجانب الآخر من الحقيقة أن محمود عبداللطيف كان عضواً في التنظيم العسكري السري لـ"الإخوان"، وأن العملية تم التخطيط لها مع آخرين من قيادة التنظيم والمحرض الرئيس كان هنداوي دوير، وأن قرار اغتياله كان لأنه شكل حجر عثرة أمام تقدم "الإخوان" بما يشبه قرار اغتيال رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا قبل خمسة أعوام. وإذا كان النقراشي قرر حل "الإخوان" قبل اغتياله فإن عبدالناصر حل التنظيم بعد محاولة اغتياله. وتوسعت دائرة التوقيفات لتشمل الآلاف من التنظيم وتشكلت محكمة عسكرية برئاسة جمال سالم وعضوية أنور السادات وحسين الشافعي وانعقدت في الكلية الحربية. ولكن اللافت خارج إطار المحاكمة أن قرار عزل الرئيس محمد نجيب صدر في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) بعد 18 يوماً على محاولة الاغتيال من دون أن يتم ربطه من خلال محاضر التحقيق بالمشاركة أو التخطيط أو الإيحاء بالقيام بهذه العملية للتخلص من منافسه عبدالناصر. إلا أن توقيت هذا القرار كان يعني كل ذلك حتى لو من قبيل الشك، وحتى لا تتاح له لاحقاً أي فرصة للانقضاض على عبدالناصر، فتم التخلص منه ومن نفوذ "الإخوان" معاً ليعود عبد الناصر إلى القاهرة ويُستقبل بحشود شعبية كبيرة مكرساً نفسه قائداً أوحد لثورة 23 يوليو ورئيساً للجمهورية المصرية على طريق بناء زعامة عربية كان يطمح إليها أبعد من مصر.
ومن المفارقات أيضاً أن المرشد العام لـ"الإخوان" حسن الهضيبي الذي كان من بين المعتقلين والمتهمين، كان صدر قرار من الجمعية العمومية لقيادة التنظيم بعزله من منصبه في 21 أكتوبر 1954 قبل خمسة أيام من محاولة الاغتيال وعينت مكانه خميس حديد مرشداً، ولكن هذا العزل لم يحل دون تحميله المسؤولية.
وصدرت الأحكام في السابع من ديسمبر وقضت بإعدام حسن الهضيبي ومحمود عبداللطيف وهنداوي دوير ومحمد فرغلي ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب وعبدالقادر عودة، وشملت الأحكام 867 متهماً، ولكن تم تنفيذ حكم الإعدام بكل من عبداللطيف ودوير وعودة. وحكم على سيد قطب الذي كان مسؤولاً عن منشورات الجماعة واتهم بالتحريض على عملية الاغتيال بالسجن 15 عاماً، أما حسن الهضيبي فتم تخفيف الحكم عليه إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، فعاد وخرج بعفو لأسباب صحية بعد وضعه في الإقامة الجبرية. ولكن لم تكن تلك النهاية، ففي 25 يونيو (حزيران) 1956 صار جمال عبدالناصر رئيساً للجمهورية المصرية. وخرج سيد قطب من السجن عام 1964 ليعدم لاحقاً في 29 أغسطس (آب) 1966 بتهمة تأسيس تنظيم سري والتخطيط لاغتيال عبدالناصر. وهذا التنظيم سيكون في السادس من أكتوبر 1981 أيضاً وراء اغتيال أنور السادات الرئيس المصري الذي خلف عبدالناصر.