يقترن شهر يناير (كانون الثاني) من كل سنة في تونس بالتحركات الاجتماعية التي تتزامن مع موازنة العام الجديد التي تتضمن عادة زيادات في الضرائب والأسعار.
وتشهد تونس أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية، بينما تغيب في الأفق أي بوادر لحل المشكلة الأكثر تعقيداً بتاريخ البلاد. فبينما يتمسك الرئيس التونسي قيس سعيد بالمسار الذي بدأه في 25 يوليو (تموز) 2021 وبلغ اليوم محطاته الأخيرة بإجراء الدور الأول من الانتخابات التشريعية في انتظار استكمال الدور الثاني، يعول معارضوه على الشارع من أجل إيقاف هذا المسار وإيجاد حلول تشاركية لتدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي من خلال حوار وطني شامل ينقذ ما يمكن إنقاذه.
في الأثناء، يرى المتابعون للشأن العام أن قيس سعيد لا يعير اهتماماً كبيراً للجانب الاقتصادي والاجتماعي، مما جعل شعبيته في انحسار وتجلى ذلك من خلال نسبة المشاركة الضعيفة في الانتخابات التشريعية الأخيرة (8.8 في المئة)، فهل يكون الملف الاجتماعي مصدر إرباك لمسار الرئيس التونسي؟
تحذير من شبح الإفلاس
تؤكد المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية في تونس تراجع النمو وتدهور القدرة الشرائية بشكل لافت لعموم المواطنين وسط تآكل الطبقة الوسطى، مما دفع متخصصين كثراً إلى التحذير من شبح الإفلاس والفوضى نتيجة الاحتقان الاجتماعي وغياب الحلول العاجلة لتمويل موازنة 2023.
في السياق ذاته، يقر أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية رضا الشكندالي بـ"صعوبة وضعية المالية العمومية، لا سيما مع غياب الحلول وصعوبة التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي لتمويل الموازنة".
وأوضح الشكندالي في تصريح إلى "اندبندنت عربية" أن "الفجوة بموازنة 2022 مقدرة بـ10 مليارات دينار (3 مليارات دولار)، بينما تبقى موازنة 2023 مفتوحة على احتمالات خطرة لأن تونس تحت رحمة اتفاق محتمل مع صندوق النقد لدولي".
ويرى أن "تصريحات قيس سعيد لم تكن منسجمة مع الخطاب الرسمي لحكومته، خصوصاً تأكيده على عدم التفويت في المؤسسات العمومية وعدم رفع الدعم، بينما تطرح الحكومة جملة من الإصلاحات من بينها الرفع التدريجي للدعم، مما سيؤثر بشكل مباشر في القدرة الشرائية للتونسيين".
تهديد المسار السياسي
وأكد الشكندالي أن "تنفيذ برنامج الحكومة الحالية يتطلب الاتفاق مع المنظمات الاجتماعية، خصوصاً الاتحاد العام التونسي للشغل في ما يخص رفع الدعم والتفويت في بعض المؤسسات العمومية"، لافتاً إلى أن "غالبية المنظمات الوطنية لم تقبل بقانون المالية 2023، وهو ما قد يحول دون تنفيذ تلك الإصلاحات المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرجح أن تلجأ الحكومة الحالية إلى "الاقتراض الداخلي في حال لم تتحصل على قرض من صندوق النقد الدولي، مما سيؤثر في الاستثمار ويؤدي إلى شح السيولة"، محذراً من سيناريو الإفلاس.
ويعتقد بأن "رئيس الجمهورية لا يهتم بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية ولم يتخذ الإجراءات المناسبة، بل حمل مسؤولية تدهور الوضع إلى خصومه السياسيين ويعتبر أن الأزمة مفتعلة".
وخلص الشكندالي إلى أن تردي الوضع الاجتماعي قد يدفع نحو الاحتقان والفوضى ويفقد المسار السياسي الجديد وجاهته بعدما فشل في تحسين وضع التونسيين.
النهوض الاقتصادي
في المقابل، يعول الناشط السياسي ورئيس حزب "التحالف من أجل تونس" سرحان الناصري على البرلمان المقبل الذي سيضع التشريعات الضرورية للنهوض الاقتصادي.
وقال الناصري في تصريح خاص إن "المانحين الدوليين والصناديق المالية الدولية تنتظر تشكيل برلمان جديد منتخب ليضع التشريعات ويبدأ البرنامج الاقتصادي من خلال إصلاح القوانين والنهوض بالتشريع في مجال الجباية والاستثمار".
وشدد على أن "الأولوية المطلقة اليوم هي الملف الاقتصادي والاجتماعي من حيث جذب الاستثمارات وإصلاح القوانين"، لافتاً إلى أن "الأزمة لن تؤثر في المسار السياسي الجديد على رغم تحشيد المعارضة للشارع إلا أنها تفشل في كل مرة".
ويعتبر الناصري أن "المرحلة المقبلة ستكون نقطة فارقة في التاريخ السياسي لتونس من خلال تشكل طبقة سياسية جديدة تضع سياسات اقتصادية واجتماعية قادرة على الاستجابة لتطلعات المواطنين".
وعلى رغم إقراره "بصعوبة الوضع الاقتصادي والاجتماعي اليوم، مما أثر في نسبة الإقبال على الانتخابات التشريعية الأخيرة"، إلا أنه يعتبر أن هذا الوضع هو نتيجة تراكمات سابقة.
وأشار إلى أن "حكومة نجلاء بودن هي حكومة تصريف أعمال ولا يمكنها الشروع في الإصلاحات الكبرى الاقتصادية والاجتماعية"، داعياً التونسيين إلى "المشاركة بكثافة في الدور الثاني من الانتخابات التشريعية من أجل إنجاح المسار السياسي الجديد".
وفشلت الحكومات المتعاقبة في تونس التي أفرزتها أحزاب سياسية متعددة المشارب في صياغة منوال تنموي يتلاءم مع حقيقة الوضع الاقتصادي والاجتماعي والمالي ويكون قادراً على خلق الثروة وإحداث موارد الرزق، لذلك تتخبط البلاد اليوم في أزمة متعددة الأبعاد وسط غياب أي أفق سياسي وفي ظل حال الانقسام الحاد الذي بات يهدد الاستقرار المجتمعي.