تنعقد هذه الأيام ورش عمل في السودان لمناقشة خمس قضايا لاستكمال التسوية السياسية بين قوى الحرية والتغيير (المركزي) والعسكريين، التي بدأت بالتوقيع على الاتفاق الإطاري بينهما في 5 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
القضايا المطروحة للنقاش في هذه الورش هي فقه العدالة الانتقالية، واستكمال تفكيك نظام الإنقاذ، ووجهات الإصلاح الأمني والعسكري، وإعادة النظر في جوانب من اتفاق سلام جوبا (أكتوبر "تشرين الأول" 2020)، وقضية شرق السودان.
كثيراً ما سألنا ما مطلب الأطراف، مثل دارفور والشرق، من المركز، وخضنا في حيثياته، لكن ما خطب المركز نفسه الذي بدا وكأن الأطراف تستدبره بدعوات تقرير المصير وآخرها شرق السودان؟ فلماذا بدا هذا المركز وكأنه مما تنطبق عليه عبارة الشاعر الإيرلندي ويليام ييتس (1865-1939):
الأشياء تتداعى والمركز مفلوت العقد/ والفوضى المحض اندلقت على العالم؟
لن نذهب بعيداً لبيان تضعضع المركز حتى إنه لم يعد يضم أطرافه إليه بقوة لا بالقوة، فانعقاد هذه الورش نفسه قلة حيلة، فكيف لمركز خاض معارضة 30 عاماً ضد نظام الإنقاذ، وتولى سدة الحكم لثلاث سنين ولا يزال بحاجة إلى نقاش مسائل في الحكم كان الظن أنه قد فرغ من قتلها بحثاً؟
هذا التدارك للمسائل في الدقائق الأخيرة مما نطلق عليه "علوق الشدة" أي إعلاف الركوبة من حصان أو جمل قبيل شدها للسفر، لا قبله بوقت مريح، فلم تقم ثورة لم ينعقد بعدها مؤتمر اقتصادي لبحث الوضع الاقتصادي للسودان كأنه أمر استجد لا أمراً من خصائص الحكم.
حدث ذلك بعد ثورة أبريل (نيسان) 1985 وبعد ثورة ديسمبر 2018، وثارت فيهما خلافات حادة لا تنبئ بأن المختلفين قد تدارسوا الأمر قبل "الشدة"، أي الثورة، وحتى دولة الإنقاذ بعد انقلابها في 1989 دعت إلى مؤتمرات حوار بلا حصر كانت غالباً لتعزير صفها من غير منتسبيها لا التماساً للفكر من حيث هو، ولم تخف قوى التسوية الحالية، التسونجية في مصطلح مبتكر هذه الأيام، أنها تريد لورشها هذه جذب أطراف كانت ابتعدت عنها وعن اتفاقها الإطاري.
خسر المركز ثقة الأطراف منذ الاستقلال بطريقين، وأسارع لأستثني جنوب السودان، الذي اعتزل المركز بـ"تمرد" دموي حتى قبل الاستقلال نفسه في 1955 لينفصل أخيراً في 2011.
أما الطريقان اللذان خسر بهما المركز بقية الأطراف، فمنها تقلبه بين ديكتاتوريات تطاولت (52 عاماً من سنوات استقلال السودان الـ76) وديمقراطيات قصيرة الآجال، فالديكتاتوريات تحل الروابط الوطنية العامة مثل الأحزاب والنقابات وحتى الطائفة الصوفية السياسية.
وتبقى الجماعات الإثنية والقبيلة وحدها لا يطالها الحل بالطبع، علاوة على توسع المركز الديكتاتوري في نظم الحكم الإقليمي وحتى الفيدرالي توسعاً صارت به القبيلة والجماعة الإثنية منصات للعملية السياسية كل في إقليمها.
ويكفي من شرور انبعاث السياسة الإثنية والقبلية في غير شرط الديمقراطية والتحالفات الوطنية الأوسع اضطرار الرئيس المخلوع البشير إلى أن يعطل في آخر سنواته انتخابات ولاة الولايات من فرط انفلات الخصومات القبلية والإثنية حولها.
ولا نحتاج إلى القول هنا إن الحركات المسلحة في دارفور وجبال النوبة بالوسط الغربي للسودان والنيل الأزرق وشرق السودان هي الثمار المرة، لو شئت، للمركز الديكتاتوري الذي أراد وحده أن يكون المظلة الوطنية للمركز في حين غيب حواضنها بالأحزاب والنقابات والاتحادات الشعبية العابرة للقبائل والإثنيات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما المركز الحداثي، الذي كتب عليه معارضة تلك النظم الديكتاتورية المديدة، فخسر الأطراف بوجوه لا يد له فيها، فضيقت عليه تلك النظم تضييقاً سحب بها آلياته السياسية من الأطراف إلى المدينة، والخرطوم خصوصاً، ليؤمن معارضته لها.
وبلغ التضييق عليه في دولة الإنقاذ حداً قالت به قوى المعارضة بالمركز إنها لم تعد قادرة على العمل السياسي المدني حتى في المدينة. وأذاعت نظرية مفادها أن الإخوان المسلمين خبروا العمل النقابي المدني وأجادوه وسيستخدمون السلطة التي بيدهم لمكافحته بكفاءة عن علم وتجربة.
وتحسباً لفشلهم أمام قوة النظام المتربصة انتقل المعارضون بهيئاتهم وكادرهم إلى الخارج، فصرت تسمع عن "اتحاد النقابات الشرعي" في لندن مثلاً، بل طرأ لأفراد هذا المهجر أن يحملوا السلاح هم أنفسهم مثل المعارضين من الأطراف.
وسمى الدكتور الواثق كمير تبني العمل المسلح بدلاً من العمل المدني بالهجرة "من النقابة للغابة"، ومع ذلك لم تنجح أي من القوى المدنية في مخاطرتها المسلحة وعادت أدراجها من تلك الهجرة.
واكتفت بالمعارضة من الخارج ببندقية مسلحي الأطراف مثل العقيد قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان وحليفها في التجمع الوطني الديمقراطي.
إذا عدنا إلى ورش عمل "المركزي" التي بدأنا بها المقال، صح السؤال لماذا احتاج "المركزي" أصلاً إلى أن يعيد النظر في اتفاق جوبا للسلام الذي انعقد في دولة انتقالية هو الحاكم فيها؟ بل متى طرأ له، وكيف، أن للشرق مسألة تحتاج إلى ورشة نقاش منفصلة حولها؟
الإجابات ميسورة، فما استوجب إعادة النظر في اتفاق جوبا أن "المركزي" لم يدخل التفاوض حوله بأي استراتيجية سوى الخروج منه بخبر إنجاز سعيد للعالمين، كما في قول مراقب وقتها. ولن يخفى حتى على القارئ المتعجل للاتفاق الحشو فيه، حتى شمل تعيين ممثلين عن الحركات المسلحة الموقعة على الاتفاق في إدارة العاصمة القومية، ولم تعتبر أطراف الاتفاق أن للعاصمة أهلاً من سائر السودان ولن يقبلوا بحكومة عليهم مساءلةً أمام غيرهم لا هم.
لا يدري المرء أيضاً كيف قبل "المركزي" اتفاقاً للسلام لم يقتصر على حملة السلاح بل شمل حلفاء لهم من سائر أقاليم السودان لم يعرف عنهم حمل السلاح، وصحبة غير المسلحين هؤلاء في اتفاق جوبا هي الأصل في مشكلة الشرق التي خصص "المركزي" ورشة عمل مستقلة لمناقشتها.
فبفضل وجود هؤلاء الحلفاء غير المسلحين في دائرة التفاوض للسلام خرج الاتفاق بما سمي "المسارات"، أي اتفاقات ملحقة بالاتفاق العام خاطبت مشكلات أقاليمهم ووضعت حلولاً لها.
وأثار مسار الشرق بالذات احتجاجاً تضرج بالدم، فرفضت جماعات في الشرق أن تتعاقد فئة منهم على اتفاق لتنمية إقليمهم من وراء ظهرهم، وتصاعدت مقاومة هذه الجماعة تصاعداً كان من مقدمات مصرع الحكومة الانتقالية بانقلاب 25 أكتوبر 2021.
وعليه لم يكن اتفاق جوبا الخبر السعيد الذي انتظره المركز، بل كان وبالاً عليه، وورشة "المركزي" لمناقشة قضية الشرق استدراك محفوف بالمصاعب، فلا الجبهة الثورية التي تعاقدت في سلام جوبا عن مسلحي دارفور، ولا الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة التي وقعت اتفاق الشرق، ستقبل عن طيب خاطر أي مراجعة للاتفاق، وسبقت بالقول إنه خط أحمر.
الأمة في قول الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان هي إرادة للعيش معاً، ولن تكون بغير مركز تتنادى به أطرافها بعضها بعضاً فيستجمعها من الشتات، والمركز في السودان كما رأينا معطوب حتى صح قول ييتس عنه، وربما احتاج ليتعافى وينهض بدوره التاريخي إلى غير هذه الندوات، أو أكثر منها.
يحتاج المركز إلى أن يلملم أطرافه هو نفسه في قوى الحرية والتغيير التي تفرقت شيعاً، ومع ما يبدو من "تكاثر الزعازع وتناقص الأوتاد"، في عبارة لمنصور خالد، فعمر الدعوات لتقرير المصير مزيدات لا عمر لها وإن طالت وأسقمت.
فالسودان حقيقة لا تقبل القسمة، فهو ليس فضاءً سكانياً وجغرافياً تاريخياً فحسب، بل اختلط أهله أيضاً منذ دولة المهدية (1881-1898) بالذات خلطة سيكون من الاستحالة إعادة تعبئة أهله في دول إثنية أو قبلية مستنفرة.
فلم يلغ انفصال الجنوب، أقل أجزاء السودان عمراً في فضائه، أواصر ربطته بالوطن القديم، فأنجح دور النشر باللغة العربية هي الآن في جنوب السودان لا في السودان مثلاً، بل تجد اتفاق جوبا على علاته ربما كان الوثيقة السودانية النادرة الثانية التي قالت إن السودان مما يبني على بينة اختلاف أعراق أهله وثقافتهم بفصل الدين عن الدولة.
وسبقه إلى ذلك بصورة بسيطة إعلان 9 يونيو (حزيران) 1969 الذي قال لأول مرة إن بناء الأمة سيكون بالنظر للتباين في ثقافاتها وأعراقها.
يتعافى المركز، الذي وقفنا على انحلال قبضته، الآن من غلواء ثقافية وسياسية مكلفة، عبر الوقوف على مسافة واحدة من ثقافات الأمة وأعراقها، علاوة على أن قيامه على الديمقراطية المستعادة بعد 30 عاماً من الديكتاتورية مما ستسترد به الحواضن عابرة الإثنيات والقبائل مثل النقابات والأحزاب نفوذها فتطبع الناس على إرادة الأمة لا تفكيكها.
فرص المركز ليكون قطباً للأطراف "المتمردة" لا تزال قائمة متى تحلل من تاريخ ممل لفرض نفسه بالقوة أو بالوهن، وستعينه على ذلك حقيقة أن السودان بلد قديم لم يكف التنبؤ بانفراطه منذ السبعينيات، غير أنه بقي بشيء من الخسارة يشحذ إرادته ليكون الأمة.