عكست النقاشات والاتهامات المتبادلة التي صاحبت جلسة مجلس الأمن الأخيرة، في شأن تمديد أجل العمل بآلية إيصال المساعدات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة عبر معبر "باب الهوى" الواقع على الحدود السورية التركية، مدى ما يلف الملف من "استقطاب وتسييس وصل حد التسليح"، وفق توصيف البعض، لا سيما في مناطق النزاعات التي تشهد تجاذباً بين القوى الكبرى.
وقبل يوم واحد من انتهاء أجل تفويض برنامج المساعدات الإنسانية في منطقة شمال غربي سوريا، وافق مجلس الأمن الدولي الإثنين الماضي 9 يناير (كانون الثاني) على تمديد العمل بالبرنامج، بعيد تحذيرات إغاثية وحقوقية من "كارثة" إنسانية في حال لم يتم التمديد، إذ يقطن تلك المنطقة الخارجة عن سيطرة الحكومة أكثر من أربعة ملايين شخص، يقيم نحو ثلاثة ملايين منهم، وغالبيتهم نازحون، في مناطق تحت سيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) في محافظة إدلب، بينما يقيم 1.1 مليون في مناطق تسيطر عليها القوات التركية وفصائل موالية لها في شمال حلب، ووفق الأمم المتحدة يؤمن معبر باب الهوى أكثر من 80 في المئة من حاجات السكان، التي توصل عبره مساعدات غذائية وطبية، ضمنها لقاحات ومستلزمات معيشية ضرورية كالأغطية والفرش.
ومنذ عام 2014، تبنى مجلس الأمن الدولي، من دون موافقة السلطات السورية، القرار رقم 2165، الذي سمح لوكالات الأمم المتحدة بتمويل المساعدات وتسليمها عبر أربعة معابر حدودية إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، لكنه ما لبث أن قلصها بضغوط من موسكو وبكين حليفتي دمشق، لتقتصر على معبر "باب الهوى"، الذي بات يشكل "شريان" حياة لملايين السكان في بلد استنزفته سنوات الحرب.
"تسليح" المساعدات الإنسانية
بين موسكو وبكين من جهة وواشنطن وحلفائها الغربيين من جهة أخرى، وفي ظل حالة الاستقطاب التي تخيم على العلاقات الدولية، باتت الاتهامات في شأن المساعدات الإنسانية وتسييسها مكررة في كل مناسبة يخوض فيها مجلس الأمن، أعلى جهاز بالأمم المتحدة، نقاشاً بهذا الشأن حول أزمة إنسانية تعصف بدولة ما حول العالم، وهو الأمر الذي شهده أكثر من بلد على مدى السنوات الأخيرة، مثل سوريا وإثيوبيا وماينمار، مما أنذر بتداعيات "كارثية" على مواطني تلك البلدان.
ففي الحالة السورية، أحدث تلك الحالات التي ناقشها مجلس الأمن، كتب كل من ناتاشا هول، زميل برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهاردين لانغ، نائب الرئيس للبرامج والسياسات في منظمة اللاجئين الدولية، تحليلاً نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، قائلاً فيه، إن الأيام التي سبقت تصويت مجلس الأمن الإثنين الماضي، على قرار تمديد تفويض المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى سوريا، شعر خلالها الدبلوماسيون وعمال الإغاثة وملايين السوريين بالقلق من أن تستخدم روسيا حق النقض في مجلس الأمن لمنع تمديد التفويض، وهو الأمر الذي تكرر في أكثر من مرة خلال السنوات الأخيرة ومع حالات متعددة.
وذكر هول ولانغ أنه لطالما "أظهرت روسيا والصين أنهما أكثر استعداداً لاستخدام قوتهما الدبلوماسية وحق النقض في تعطيل آلية عمل المساعدات الإنسانية، وكان ذلك واضحاً في الصيف الماضي، حيث ساعد البلدان إثيوبيا في تأخير اجتماعات مجلس الأمن لمناقشة إعلان المجاعة في تيغراي، حيث أشار الأمين العام السابق للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، مارك لوكوك، إلى عدم الإعلان الرسمي عن المجاعة في شمال إثيوبيا، على رغم أن ما يقرب من نصف مليون طفل يعانون سوء التغذية".
وفيما تتمسك بكين وموسكو باتهامهما الغرب بـ"محاولة تسييس قضايا المساعدات الإنسانية في الأمم المتحدة قدر الإمكان" وتعتبران إقرارها من دون موافقة الحكومات "تجاوزاً لمفهوم السيادة الوطنية وسلامة الأراضي"، يرى هول ولانغ أن البلدين يناوران بعضويتهما الدائمة بمجلس الأمن "لانتزاع تنازلات دبلوماسية وتوسيع نفوذهما على حساب الاستقرار الدولي والأعراف الإنسانية وحقوق الإنسان"، مشيرين إلى أن الحالة السورية كنموذج، "كان لتسليح المساعدات الإنسانية نتائجها الحادة والمأسوية، إذ تمكن نظام الرئيس السوري بشار الأسد من استخدامها بشكل منهجي منذ عام 2011 سلاحاً، سعياً لإجبار المجتمعات الخاضعة لسيطرة المعارضة على الاستسلام أو القضاء عليها بشكل كامل". وتابعا "قاد الموقف الروسي الداعم لدمشق في هذا الشأن إلى ضمان أن الغالبية العظمى من مساعدات الأمم المتحدة يتم تمريرها عبر الحكومة السورية، مما منح نظام الأسد مزيداً من السيطرة على توصيل المساعدات".
وبعد أن كانت آلية عمل المساعدات الإنسانية في سوريا يتم تمديدها كل عام، دفعت روسيا، في يوليو (تموز) الماضي، بمجلس الأمن إلى قصر المدة إلى ستة أشهر فقط، مما أوقع مجموعات الإغاثة في مأزق في شأن كيفية التخطيط لتلبية الحاجات الماسة للسوريين شمال غربي سوريا، في شأن القدرة على توظيف عمال الإغاثة، وتخطيط البرامج، وإدارة المستشفيات والمدارس ومرافق المياه، وإيصال المساعدات الأساسية للملايين الذين يعتمدون عليها بشكل أساسي.
وتحت عنوان "استكشاف وجهات نظر روسيا حول المساعدات الإنسانية في سوريا"، كتب، جوناثان روبنسون، المتخصص في أمن عمال الإغاثة، وتحليل النزاعات، بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى يقول "استخدمت موسكو في كل مرة منذ عام 2014 حق النقض الفيتو ضد القرار 2035 الذي يرعى آلية المساعدات عبر الحدود، سعياً وراء أهدافها السياسية الخاصة، فقللت بشكل مطرد من فاعلية هذا الإجراء المنقذ للحياة"، مضيفاً "هددت الهوة المتزايدة بين روسيا والمجتمع الدولي على خلفية الحرب الروسية - الأوكرانية قابلية تطبيق هذه الآلية الهشة أصلاً. وداخل سوريا، نجحت موسكو بشكل مطرد في تعزيز نفوذها إلى حد كبير مقارنة بالأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الأخرى ومانحي المساعدات الدولية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفق روبنسون، صممت روسيا منظومة مساعدات معزولة ومكتفية ذاتياً تضم ما لا يقل عن 26 كياناً حكومياً أو على صلة حكومية في سوريا، قدمت من خلالها المساعدات 3090 مرة إلى ما لا يقل عن 731 مجتمعاً في جميع أنحاء البلاد منذ عام 2016، كبديل مرجح للعب دور في تنفيذ عمليات تقديم المساعدات بسوريا في المستقبل المنظور.
وتجادل روسيا، التي تدعم نظام الرئيس بشار الأسد، بأن عملية الأمم المتحدة تنتهك سيادة سوريا وسلامة أراضيها. وتقول إنه يجب إيصال مزيد من المساعدات من داخل البلاد، الأمر الذي يثير مخاوف المعارضة من أن الغذاء والمساعدات الأخرى سيقعان تحت سيطرة النظام، وترى كذلك في الآلية المعتمدة حالياً أنها تسمح بوصول كثير من المساعدات إلى "هيئة تحرير الشام" التي تعتبرها منظمة "إرهابية"، في مقابل حصة قليلة من المساعدات للمناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري.
والشهر الماضي، قال سفير روسيا لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا، إن "الوضع الإنساني في سوريا، بصراحة تامة يخلق سياقاً أقل ملاءمة للنقاش حول تمديد آليات عبر الحدود"، مضيفاً "هذا ليس لأننا ضد مساعدة السوريين العاديين، نحن بالأحرى نؤيد مساعدة المجتمع الدولي لجميع السوريين من دون تمييز أو تسييس"، وذكر أن بلاده "غير مقتنعة" بعدم وجود بديل لعملية توصيل المساعدات إلى سوريا من تركيا.
وبحسب تحليل، "فورين أفيرز" لم تكن سوريا هي الحالة الوحيدة التي استخدمت فيها موسكو أو بكين حق النقض الفيتو، فخلال السنوات الأخيرة منع البلدان مجلس الأمن من إصدار قرارات تدين الأزمة الإنسانية، وتدعو إلى عمل إنساني أقوى في كل من ميانمار وإثيوبيا (قبل إحلال السلام أخيراً فرضت الحكومة الاتحادية في أديس أبابا حصاراً على إقليم تيغراي على المساعدات والخدمات لملايين المدنيين، على أمل عزل قوات المعارضة وإضعاف السكان في مناطق سيطرتها).
كذلك في غمار الأزمة السياسية في فنزويلا 2019، اتهمت موسكو واشنطن التي تدعم خصم الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، خوان غوايدو "بالتسييس غير القانوني للمساعدات الإنسانية"، ووعدت بتقديم مساعدات إغاثة من شأنها تقوية حليفها مادورو.
إلى أين يقود "تسليح" المساعدات؟
لا يختلف المراقبون ممن تحدثت إليهم "اندبندنت عربية" على كارثية "تسييس أو تسليح" المساعدات الإنسانية وأن اعتبارها أداة لـ"لكسب مزيد من النفوذ والهيمنة في سياق التنافس بين القوى الكبرى" أمام الحاجة الملحة للشعوب التي ترزح تحت وطأة الصراعات والحروب والأزمات والكوارث، يفاقم من التحديات الإنسانية في المناطق الملتهبة.
وبحسب المحلل السياسي الروسي، ديميتري بريجع، فإن "ملف المساعدات الإنسانية أصبح مرتبطاً منذ وقت طويل بالتسييس، إذ تحاول كل الأطراف الاستفادة منه للضغط على الأطراف الأخرى في الصراع لتحقيق مكاسب سياسية"، مضيفاً "في الحالة السورية، هناك تباينات كبيرة في شأن الأطراف المنخرطة في الصراع وأحقيتها في تلقي المساعدات، ففي الوقت الذي ترى فيه موسكو أن الغرب يحاول استخدام المساعدات بهدف دعم فصائل المعارضة ومن بينها المجموعات الإسلامية، أو استخدامها كغطاء لتسليحهم أمام القوات الحكومية المدعومة منها، يرى الغرب في المقابل أن التحركات الروسية ما هي إلا وسيلة لتكريس سلطة نظام قمعي عبر قصر المساعدات الإنسانية لصالحه والأطراف المتحالفة معه"، مشيراً إلى أن "الأمر تكرر في أكثر من حالة بمنطقة الشرق الأوسط والآن نشهده في أوكرانيا".
وذكر بريجع أنه "في وقت يتجه فيه العالم نحو مزيد من الأزمات الإنسانية والاستقطاب السياسي والإنساني، تكمن الإشكالية الرئيسة في عدم وجود هيكل واحد يستطيع حل المشكلات المتعلقة بالجوع والفقر والنزوح والحالات الإنسانية الأخرى"، معتبراً أنه "عندما ينظر إلى مسألة المساعدات بأنها من الأدوات العسكرية الأساسية عبر التحكم في وصولها وتوزيعها، سرعان ما تصبح عمليات الإغاثة رهينة السياسة، وتكون مرهونة بما تمليه المصالح الاستراتيجية والسياسية، مما يسهم بدوره في تقويض حياد المساعدات الإنسانية وعدم انحيازها".
وتابع "تسييس المساعدات الإنسانية وعمليات الإغاثة واستخدامها سلاحاً في الحرب، فضلاً عن القتال العنيف وخطوط المعارك التي تتبدل بسرعة، يجعلان المساحة الإنسانية تحت رحمة قيود شديدة وموضع خلاف وسجال دائم في صفوف المعنيين بالشأن الإنساني على الساحة الدولية".
من جهته يقول إبراهيم المنشاوي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة "تتجاوز تبعات تسييس وتسليح المساعدات الإنسانية الحدود الجغرافية لمناطق النزاع إلى البلدان المجاورة، وهو الأمر الذي حدث في الأزمة السورية بين عامي 2015 و2016"، موضحاً "في تلك الفترة أدت موجة اللاجئين، التي استغلها بعض الأطراف الإقليمية سياسياً كذلك، إلى مزيد من المعاناة والضغوط الاقتصادية على دول الجوار، فضلاً عن أنها قادت إلى مزيد من الأزمات السياسية في القارة الأوروبية، إذ عمقت الانقسامات داخل المجتمعات الأوروبية وقادت إلى مزيد من صعود التيارات اليمينية المتطرفة".
ويتابع المنشاوي "أسهمت التجارب والخبرات من الصراعات والكوارث في مناطق مختلفة حول العالم في نشوء حالة التباس بين دوافع الخير التي تحكم المساعدات، واستغلالها سياسياً بشكل مباشر أو غير مباشر من أطراف الصراع أو المتداخلين إقليمياً ودولياً، وعليه فإن المنظومة في حد ذاتها بحاجة إلى إعادة المعالجة بشكل جاد وحقيقي".
وفي لقاء سابق، نقل معهد واشنطن عن جان إيجلاند، الأمين العام لـ"مجلس اللاجئين النرويجي"، قوله إنه "من الضروري اعتراف المجتمع الدولي بفشله في حماية الشعوب من النزاعات المسلحة والأزمات الإنسانية"، معتبراً أن عديداً من السياسيين والجهات الفاعلة المسلحة في المناطق الساخنة لا يهتمون بالمعاناة على الجانب الآخر من خطوط الصراع، بخاصة عندما يواجهون مجتمعاً دولياً غير متماسك وعاجز.
ووفق التقرير السنوي للمساعدة الإنسانية العالمية، لعام 2021، والذي تعده مؤسسة "مبادرات التنمية" (Development Initiatives) ومقرها بريطانيا، فقد تصدرت كل من سوريا واليمن ولبنان وجنوب السودان والكونغو الديمقراطية قائمة الدول الأكثر تلقياً للمساعدات الإنسانية، بينما احتلت الولايات المتحدة قائمة الدول المانحة للمساعدات الإنسانية بنحو 8.9 مليار دولار. وذكر التقرير أن نحو ربع مليار شخص يعيشون في 75 دولة تمت مساعدتهم نظراً إلى حاجتهم الإنسانية، في 2020، مقارنة بنحو 225 مليون شخص في 65 دولة، تلقوا المساعدات في 2019.