جددت جولة وزير الخارجية الصيني الجديد تشين غانغ في أفريقيا الجدل حول الوجود الصيني في القارة السمراء، وموقع الأخيرة في استراتيجيات السياسة الخارجية لبكين، فضلاً عن واقع التنازع الصيني - الغربي في القارة البكر.
وشملت جولة غانغ التي بدأت الإثنين الماضي وتستمر حتى غد الثلاثاء خمسة بلدان، وهي مصر وإثيوبيا والغابون وأنغولا وبنين.
وقال بيان للخارجية الصينية إن زيارته غانغ تأتي في إطار "تعميق الشراكة التعاونية الاستراتيجية الشاملة بين الصين وبلدان أفريقيا، وتعزيز التعاون الودي معها".
وأضاف البيان أن الوزير المعين حديثاً سيزور أيضاً مقر الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا والجامعة العربية في القاهرة.
وجاءت جولة غانغ الخارجية بعد أسابيع قليلة من توليه منصبه أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، خلفاً لوانغ يي الذي كان وجه الدبلوماسية الصينية منذ عام 2013.
التوغل في مواجهة النفوذ التقليدي
ظلت معظم دول القارة السمراء تتأرجح بين النفوذ الاستعماري القديم وبين تأثير ميزان القوى الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية بين الولايات المتحدة الأميركية والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي، وتمكنت الأولى من مد نفوذها أكثر خلال العقود الثلاثة الأخيرة التي أعقبت تفكك الاتحاد السوفياتي، سواء عبر القوة الناعمة أو الوسائل الصلبة، إذ تحتفظ بقواعد عسكرية في عدد من دول القارة فضلاً عن قوات "أفريكوم".
إلا أن هذا التطور رافقته أيضاً تحديات جديدة تتمثل في دخول الصين كلاعب فاعل وقوي، مستفيدة من إمكاناتها الاقتصادية والمالية بالتزامن مع استياء الأفارقة من السياسات الغربية عموماً والأميركية بشكل خاص، نظراً إلى اعتمادها على مفاهيم الهيمنة والسيطرة والنفوذ، فضلاً عن التدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدول في مقابل تبني سياسات التعاون والشراكة من قبل الصين، مما يرجح كفة الأخيرة التي تمكنت من بسط أهدافها والتمدد بيسر في دول القارة عبر مشاريع اقتصادية ذات طابع استثماري من دون انتفاء الوجود العسكري في بعض دول القارة.
المارد الجديد
ويرى نائب رئيس تحرير صحيفة الأهرام المصرية أيمن السيسي أن "ملامح السياسة الصينية في أفريقيا يمكن تلخيصها في نقاط أساسية عدة، أهمها الاستثمار في البنية الأساس التي تفتقدها بلدان القارة وتقديم مساعدات نوعية اقتصادية ومالية مباشرة تسهم في إقامة البنى الاقتصادية والثقافية".
ويضيف، "تنبهت الصين إلى مسألة فشل الدولة الوطنية الأفريقية، وعملت على بناء جسور اقتصادية متينة لها من دون أن تربطها باشتراطات سياسية، بقدر تركيزها على البعد الاقتصادي والتجاري والاستثماري، كما أسهمت بكين في تقديم قروض ميسرة لهذه الدول، فيما تركز الولايات المتحدة في مشاريع البني الفوقية وتربط تلك المساعدات للقارة باشتراطات سياسية معينة".
وتابع، "على المستوى السياسي ذاته تفترق استراتيجية واشنطن وبكين في تبني قضايا هذه الشعوب، ففي حين تسعى الولايات المتحدة إلى عولمة قيمها السياسية، تضع الصين خطاً فاصلاً بين مشاريعها الاستثمارية في الخارج بخاصة في أفريقيا وقيمها السياسية والأيديولوجية، وتعمل بشكل براغماتي في تعزيز التعاون التجاري والتنموي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول السيسي إن "بكين تتبنى عدداً من القضايا الأفريقية في الأمم المتحدة والمحافل الإقليمية والدولية، بما فيها دعم مشروع وجود مقعد دائم للقارة الأفريقية في مجلس الأمن الدولي"، منوهاً بأن "ذلك لا يعني انتفاء الهدف الاستراتيجي للسياسة الخارجية الصينية في القارة، إذ عملت أيضاً على توسيع وجودها العسكري من خلال إقامة بعض القواعد العسكرية، كما هو الحال بالنسبة إلى القاعدة الصينية في غينيا وجيبوتي".
ويضيف، "ما يساعد الصينيين في إيجاد أرضية قبول في القارة السمراء أنها لا ترتبط بماض استعماري، كما هو الحال بالنسبة إلى النفوذ الفرنسي والبريطاني، فضلاً عن حياد الموقف الأخلاقي الصيني تجاه القيم المجتمعية والسياسية الأفريقية، على عكس السياسة الغربية التي تسعى إلى فرض قيمها ومن بينها الدفاع عن حقوق المثليين وتمثيل المرأة وغيرها".
الكتلة التصويتية
تدرك الصين جيداً ما تمثله القارة السمراء من سوق اقتصادية كبيرة، فضلاً عن الموقف السياسي باعتبارها أحد أكبر الكتل التصويتية في الأمم المتحدة، ولذلك يقرأ السيسي التوغل الصيني في أفريقيا مصحوباً بسعي بكين إلى حل أزمة بحر الصين الجنوبي والمتمثل في ضم تايوان، لما في ذلك من مكاسب اقتصادية واستراتيجية، إذ يمر ما يقارب الـ 62 في المئة من إنتاج النفط في العالم عبر هذا الخليج، فضلاً عن امتداده على 900 مليار متر مكعب من احتياط الغاز في هذه المنطقة، وبالتالي فإن "تحييد أفريقيا بكتلتها التصويتية الكبيرة وضمان دعمها للموقف الصيني يسهم في تحقيق مكاسب كبيرة لبكين من خلال توطئة قدمها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في القارة التي ظلت خاضعة للنفوذ الغربي إلى وقت قريب".
بدوره يقول المحلل السياسي الإريتري - الأميركي إبراهيم إدريس إن "هناك ثلاثة عناصر تشكل ملامح أساسية للسياسة الصينية تجاه أفريقيا، أولها تعزيز التعاون الاقتصادي مع دول القارة لا سيما في الشق المتعلق بالاستثمار في البنية التحتية، من بناء الطرق والجسور والمطارات وغيرها، وثانيها بناء قواعد اقتصادية للتنمية وثالثها دعم مجالات التكنولوجيا".
وفي قراءته للصراع المتجدد بين الاستراتيجيتين الأميركية والصينية في القارة السمراء، قال إدريس إن "التوسع الاقتصادي والتجاري لا يمكن فصله عن الجانب السياسي والأيديولوجي، لا سيما أن الصين لها مشاريع تؤمن القطاعات العامة، في ما يخص الطاقة والزراعة والصناعات التحويلية والطرق والبني التحتية، وكل ذلك لا يمكن فصله عن البعد السياسي والأيديولوجي".
ويقر إدريس بأن "التمدد الصيني في أفريقيا يمثل تهديداً للنفوذ الغربي والأميركي بخاصة بعد أن تمكنت بكين من تثبيت أقدامها على المستويين التجاري والاقتصادي، وتعمل على تعزيز وجودها العسكري عبر بناء قواعد عسكرية أو تقديم مساعدات عسكرية للأنظمة الأفريقية، بما فيها العتاد العسكري الذي يحوي تكنولوجيات متطورة".
ويرى إدريس أن الصين من خلال مقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي "دعمت القضايا الأفريقية، كما أسهمت في الجمعية العامة للأمم المتحدة بتبني المشاريع الأفريقية، لأنها كدولة من العالم الثالث قادرة على إدراك وتفهم قضايا القارة السمراء، فهي تنطلق من ذات المقاربات المشتركة".
وعلى رغم الصراع القائم بين واشنطن وبكين في بسط النفوذ على أفريقيا، إلا أن ثمة مؤشرات ظهرت خلال الفترة الأخيرة توحي بوجود تفاهمات معينة بين العاصمتين، إذ يشير إدريس إلى لقاء القمة الذي جمع رئيسي الصين وأميركا في جزيرة بالي منذ ثلاثة أشهر، عندما قال الرئيس الأميركي بايدن "لسنا بحاجة إلى حرب باردة جديدة"، فيما أثنى الرئيس الصيني على هذا السياق مؤكداً أن "محصلة التنافس لا ينبغي أن تذهب في اتجاه لعبة صفرية الطابع".