حتى الآن، لا يوجد ما يشير إلى أي انفراجة في سلسلة الأزمات السبع التي تحاصر الاقتصاد العالمي. فالتضخم ما زال في مستويات مرتفعة، ومعدلات الفائدة تتسارع بشكل ينذر بتوقف مختلف الأنشطة الاقتصادية. أيضاً، فإن فوضى سلاسل التوريد والإمداد تتفاقم وتحاصر الجميع. وفي الوقت نفسه فقد ارتفعت أسعار النفط والغاز إلى مستويات قياسية، إضافة إلى أن النمو العالمي يواصل التراجع، وأزمة الديون تتفاقم، وأخيراً ما زالت أسواق الأسهم تنزف بشدة.
وعلى رغم التحذيرات الكثيرة الصادرة عن بنوك وشركات استثمار عالمية، إضافة إلى تحذيرات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فإن التصريحات التي ساقها خبير الاقتصاد العالمي وكبير المستشارين الاقتصاديين في شركة "أليانز" محمد العريان كانت الأكثر حدة على الإطلاق.
وفي مقال نشرته صحيفة "فايننشيال تايمز"، رجح العريان أن يحل الركود محل التضخم باعتباره المحرك للاقتصاد العالمي خلال العام الحالي، ويشهد النشاط الاقتصادي العالمي تباطؤاً واسعاً فاقت حدته التوقعات، بالتوازي مع تجاوز معدلات التضخم مستوياتها المسجلة خلال عقود عدة سابقة، كما تحمل آفاق الاقتصاد العالمي أعباءً ثقيلة من جراء أزمة كلفة المعيشة، وتشديد الأوضاع المالية في معظم المناطق، والحرب الروسية - الأوكرانية، واستمرار جائحة كورونا.
الأسواق تستعد لتراجع اقتصادي وشيك
وتشير البيانات المتاحة إلى تباطؤ النمو العالمي من مستوى ستة في المئة خلال عام 2021 إلى مستوى 3.2 في المئة خلال العام الماضي، ومن المتوقع أن تواصل النزول إلى مستوى 2.7 في المئة خلال العام الحالي، بما يمثل أضعف أنماط النمو على الإطلاق منذ عام 2001، باستثناء فترة الأزمة المالية العالمية والمرحلة الحرجة من جائحة كورونا.
وبحسب التوقعات، فمن المرجح أن يرتفع معدل التضخم العالمي من مستوى 4.7 في المئة خلال عام 2021، إلى نحو 8.8 في المئة خلال العام الماضي، ليبدأ رحلة التراجع إلى مستوى 6.5 في المئة خلال العام الحالي، ليستقر عند مستوى 4.1 في المئة خلال العام المقبل.
وكشف العريان عن أنه، وفقاً لصندوق النقد الدولي، فإن على السياسة النقدية أن تواصل العمل على استعادة استقرار الأسعار مع توجيه سياسة المالية العامة نحو تخفيف الضغوط الناجمة عن كلفة المعيشة، على أن يظل موقفها متشدداً بدرجة كافية اتساقاً مع السياسة النقدية. وذكر أنه يمكن أن يكون للإصلاحات الهيكلية دور إضافي في دعم الكفاح ضد التضخم من خلال تحسين الإنتاجية والحد من نقص الإمدادات، بينما يمثل التعاون متعدد الأطراف أداة ضرورية لتسريع مسار التحول إلى الطاقة الخضراء والحيلولة دون التشرذم.
وبعد سلسلة تحذيرات من محللي "وول ستريت"، وتوقع صندوق النقد الدولي حدوث ركود خلال العام الحالي، تستعد الأسواق لتراجع اقتصادي وشيك، ويعني هذا أن المستثمرين سيواجهون مزيداً من عدم اليقين في شأن ما يمكن أن يحدث مستقبلاً. وأشار العريان إلى أنه خلال العام الحالي، فقد انضم الركود الفعلي والمخيف إلى التضخم على مقعد قيادة الاقتصاد العالمي ومن المرجح أن يحل محله. وسيؤدي ذلك إلى عدم القدرة على التنبؤ بالنسبة إلى المستثمرين. ويؤدي ذلك عادة إلى مزيد من الاضطرابات في السوق، وهو أمر توقعه خبراء استراتيجيون في شركة "بلاك روك" أيضاً، إذ حذروا من أن محافظي البنوك المركزية من غير المرجح أن ينقذوا الأسواق، كما فعلوا في الماضي. وأشار أيضاً إلى أن ما يحدث هو تطور يجعل الاقتصاد العالمي والمحافظ الاستثمارية خاضعة لمجموعة واسعة من النتائج المحتملة، وهو أمر يبدو أن عدداً متزايداً من مستثمري السندات يدركونه أكثر من نظرائهم في الأسهم.
وذكر أنه في عام 2022 كان تتبع التضخم في صدارة أذهان المستثمرين ومركزها، إذ شددت البنوك المركزية السياسة النقدية لإبطاء معدل ارتفاع الأسعار. وفي الولايات المتحدة الأميركية، تصرف مجلس الاحتياطي الفيدرالي بقوة ضد التضخم الذي وصل إلى أعلى مستوياته منذ 40 عاماً من خلال رفع أسعار الفائدة بأسرع وتيرة في تاريخه، مما قاد مؤشرات الأسهم الأميركية الثلاثة لأسوأ عام لها منذ عام 2008.
المخاطر تتصاعد مع الفشل في السيطرة على التضخم
في الوقت الحالي، أصبح المحللون والمستثمرون مقتنعين بشكل متزايد بأن تشديد البنوك المركزية سيدفع اقتصاد الولايات المتحدة إلى الركود. وحذر "بنك أوف أميركا" من بين البنوك الكبرى الأخرى في "وول ستريت" من أن الانكماش قد يؤدي إلى دفع الأسهم للهبوط بأكثر من 20 في المئة.
وانتقد خبير الاقتصاد العالمي البنك المركزي الأميركي، بسبب عدم تحركه بشكل سريع لاحتواء أزمة ارتفاع معدلات التضخم. وقال إن تحركاته جاءت متأخرة ولم تنجح في وقف ضغوط التضخم من الانتشار إلى الأجور وقطاع الخدمات، لذلك، من المرجح أن يظل التضخم عند مستوى أربعة في المئة، ويكون أقل حساسية لسياسات أسعار الفائدة ويعرض الاقتصاد لخطر أكبر للحوادث الناجمة عن أخطاء السياسة الإضافية التي تقوض النمو.
وحذر من الشعور بالرضا الشديد عن القوى الكامنة وراء الانكماش الاقتصادي المقبل، مؤكداً أن الشكوك التي تواجه المجالات الاقتصادية تشير إلى أن المحللين يجب أن يكونوا أكثر حذراً في طمأنتنا بأن ضغوط الركود ستكون قصيرة وضحلة، وأنهم يجب أن يكونوا منفتحين، حتى ولو كان ذلك فقط لتجنب تكرار الخطأ المتمثل في القضاء على التضخم قبل الأوان باعتباره عابراً. وأشار إلى أن تباطؤ النشاط الاقتصادي العالمي أصبح واسع النطاق وأكثر حدة مما كان متوقعاً، مع ارتفاع التضخم لمستويات أعلى مما شهدناه في عقود سابقة. وتتوقف آفاق الاقتصاد العالمي في الفترة المقبلة على المعايرة الناجحة لكل من السياسة النقدية وسياسة المالية العامة، ومسار الحرب في أوكرانيا، وآفاق النمو في الصين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا تزال المخاطر كبيرة على الاقتصاد العالمي بدرجة غير معتادة، فمن الممكن أن تخطئ السياسة النقدية في حساب الموقف الصحيح لتخفيض التضخم، وأن يؤدي تباعد مسارات السياسات في الاقتصادات الكبرى إلى ارتفاع سعر الدولار الأميركي، وكذلك أن يؤدي تشديد أوضاع التمويل العالمي إلى دخول الأسواق الصاعدة في مرحلة مديونية حرجة، كما من الممكن أن يؤدي تفاقم أزمة القطاع العقاري في الصين إلى إضعاف النمو.
أزمة الديون السيادية تطارد 60 في المئة من الدول النامية
ووفقاً لصندوق النقد الدولي ينبغي لصناع السياسات التركيز على استعادة استقرار الأسعار والتخفيف من ضغوط كلفة المعيشة، ولا يزال التعاون متعدد الأطراف ضرورياً لتسريع مسار التحول إلى الطاقة الخضراء والحيلولة من دون التشرذم.
وفي بيان حديث، عبرت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا غورغيفا عن قلقها من وضع الاقتصاد موضحة أن عام 2023 قد يشهد توتراً اجتماعياً على المستوى العالمي، بينما لم يظهر بعد تأثير تشديد السياسات المالية على التوظيف. وأضافت، "نحن في منتصف يناير (كانون الثاني) فقط، ولدينا من الآن نماذج في البرازيل والبيرو وبوليفيا وكولومبيا والمملكة المتحدة، وكل ذلك لأسباب مختلفة، ولكن مع توترات اجتماعية واضحة جداً". وذكرت أنه إذا كان ارتفاع أسعار الفائدة سيؤثر في نهاية المطاف على أسواق العمل، وهي نتيجة منطقية لهدف التباطؤ، فقد يؤدي ذلك إلى توترات إضافية. وتابعت أن الوضع لن يتحسن قريباً بسبب "التضخم الذي لا يزال صلباً" وفي مواجهته "لم ينتهِ عمل المصارف المركزية بعد"، مشددة على أن "الأزمة لم تنتهِ بعد على الأرجح".
وقالت إن التباطؤ الاقتصادي يفترض أن يكون في 2023 أكبر مما توقعه الصندوق في منشوراته الأخيرة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلا أن أسواق العمل الوطنية "أثبتت مقاومتها"، معتبرة ذلك "نقطة إيجابية". وأضافت أن ذلك نجم أساساً عن "تحرك الحكومات بسرعة لتوفير الدعم المالي للسكان في مواجهة ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، لكن المساحة المتاحة تتقلص". وأشارت إلى أنه "طالما أن الناس لديهم وظائف حتى لو كانت الأسعار مرتفعة، فهم يستهلكون، الأمر الذي ساعد الاقتصاد في الربع الثالث، لا سيما في الولايات المتحدة وفي أوروبا، لكننا ندرك أن تأثير تشديد السياسات المالية لم يحصل بعد"، لافتة إلى أنه في الوقت نفسه سيكون تأثير رفع معدلات الفائدة على البلدان المدينة قاسياً، وحذرت من خطر تحول نحو 60 في المئة من البلدان الناشئة والنامية إلى بلدان تعاني أزمات ديون سيادية.