"غناوة" أو "كناوة"، موسيقى مغربية يكتنفها كثير من الغموض على مستوى التأريخ لهذا النوع الفني المركب.
تجمع الأدبيات أن هذا النمط الموسيقي المغربي الذي صنفته منظمة "يونيسكو" تراثاً موسيقياً عالمياً، أضحى أكثر الألوان الموسيقية المغربية ذيوعاً في الساحة العالمية.
ويرجع ذلك البعد الحضاري الذي يطبع موسيقى "غناوة" وغنى تاريخها ورمزية سياقها التاريخي الذي اشتهرت به، إلى أنها خاصة بفئة من المستعبدين الذين نزحوا من السودان وجنوب الصحراء، صوب مدينة الصويرة المغربية في فترة من تاريخها الحديث إبان حكم السلطان مولاي إسماعيل.
غير أن هؤلاء النازحين لم يستطيعوا أن يقيموا فقط في الصويرة وإنما انتقلوا بإيعاز من السلطان واستقروا بين مدن عدة مثل طنجة وفاس ومكناس.
ولأن السلطان كان السبب الحقيقي في نقل هؤلاء العبيد عبر البحر إلى بلاد المغرب الأقصى (المغرب كما سمي تاريخياً) فقد كان معظمهم يطلقون آهات من الحزن بسبب الألم الذي ينخر أجسادهم وهم وسط البحر بعيداً من عائلاتهم وأوطانهم.
وكانت تلك المعاناة النفسية الأساس الروحي الذي ستتأسس عليه الموسيقى الغناوية في المغرب خلال القرن الـ17.
الباحث سعيد بوكرامي قال "في القرن الـ17 وخلال عهد السلطان مولاي إسماعيل جاءت الموجة الثانية من العبيد، كثير منهم انضموا إلى الحرس الملكي تحت اسم "عبيد البخاري".
وأضاف "هذا هو اللقب الذي سيحتفظون به حتى بعد وفاة مولاي إسماعيل عام 1727 وتفكك هذه القوات العسكرية بجنوب الصحراء الكبرى، وأسهم جزء منها في إقامة أسوار مدينة الصويرة، الملقبة حينذاك بـ"موكادور".
وأوضح "أما في العقود التي تلت، فتناثر أحفادهم بمدن ومناطق من المغرب مثل فاس ومكناس والدار البيضاء وطنجة والرباط وأيضاً في الجزائر وتونس".
ملاحظات أولية
بعيداً من هذه الحفريات التاريخية حول أصول الموسيقى الغناوية، لا أحد يزعم بوجود رواية أخرى حول التسمية وأصولها الحقيقية بسبب غياب وثائق تاريخية تؤكد صحة السرديات الأخرى باستثناء سياق تجارة الرقيق التي شهدها المغرب منذ نهاية القرن الـ16 والتي أفرزت أساساً وجود عبيد غناوة في مدينة الصويرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فبسبب غياب هذه الوثائق والدراسات في الموسيقى المغربية والتصاق البعد الديني الصوفي بالفرق الغناوية، جعل باحثون كثر في الأنثروبولوجيا الثقافية يطلقون أحكاماً عامة على هذه الموسيقى ليس من داخل تقنياتها وأدواتها وطبولها ومزاميرها وآلاتها الوترية، بل انطلاقاً من تقوقعهم الدائم في ليل "الحضرة" داخل الزوايا وأشكال الزخارف والألوان الموجودة على مختلف لباسهم.
لا ينكر المرء قيمة هذه التفسيرات الأنثروبولوجية البصرية في تحليل "الظاهرة الغناوية" ودلالة طقوسها ورقصاتها، لكن المقاربة تظل قاصرة فتنأى عن تشريح الأغنية الغناوية والمقاطع الموسيقية، بحيث إن غياب هذا التحليل الداخلي للموسيقى يجعل المخيلة تبدع أشكالاً من الرؤى والاستيهامات التي تتكرر من بحث إلى آخر.
موسيقى الجن
في أعوام قليلة مضت أدرجت موسيقى غناوة للمرة الأولى كتراث لا مادي ثقافي- فني من جانب منظمة "يونيسكو" العالمية، وهو تصنيف بقدر ما أعطى إلى هذه الموسيقى بعداً حضارياً وإنسانياً، عزز وجودها داخل الموسيقى العالمية، ليس كموسيقى شعبية مغربية تنتمي تاريخياً إلى العبيد، لكن كلون موسيقى حداثي قادر على تشرب الأنماط الموسيقية العالمية وآلاتها الإلكترونية داخل مؤسسات فنية.
وانتقلت من كونها موسيقى ذات توجهات تقليدية وصوفية ودينية وتعبيرية إلى موسيقى عالمية بحكم نسق إثنوغرافي وهوياتي داخل مهرجانات عالمية بعد أن كانت تغنى في الزوايا والتجمعات الدينية باسم "الحضرة" التي هي عبارة عن تجمع يضم أفراد الفرقة، فتتم تلاوة هذه الأغاني كنوع من دواء الروح، فهي تزيل كرب المزاج وتشنج الجسد، انطلاقاً من الأغاني والتعاويذ والترانيم والبخور والرقصات الصوفية.
الكاتب كمال غزال يرى أن ضريح "سيدي بلال" الموجود غرب مدينة الصويرة المرجع الأعلى ومقام "الأب الروحي" لـغناوة، وداخل ضريح ذلك الولي الذي يحسب في عداد الأولياء مجهولي النسب والسيرة بالمغرب، توجد زاوية تحتضن في 20 من شهر شعبان الهجري موسماً سنوياً للطائفة الغناوية وسط طقوس غريبة يتخللها الرقص الهائج المحموم لزمرة الأتباع الوافدين من كل مكان داخل المغرب وخارجه.
وقال "في الجزائر أيضاً هناك ديوان سيدي بلال الذي يعد قبلة الطائفة هناك، وعلى إيقاع الموسيقى القوية والحارة للمجموعات المنتسبة إليها تخرج نخبة من الأتباع في جولات بين المدن لجمع الهبات والصدقات للزاوية بلباسها الفلكلوري المميز ذي الألوان الحية، خصوصاً الحمراء والزرقاء".
إن الميسم الصوفي الذي طبع أغاني غناوة جعلها عرضة للنقد والتجريح في كون أصحابها يمارسون "الشعوذة" واستحضار الجن وطرد الأرواح الشريرة وطقوس الإغماء التي ترافق بعض أعضاء الفرقة في "الليلة" أو "الحضرة" الغناوية.
حداثة الموسيقى الغناوية
غير أن التحول الأنطولوجي الذي وسم موسيقى غناوة، هو أنها لم تعد تعبر عن أوجاع العبيد وحزنهم، بل أضحت رمزاً للفرح والطرب داخل المهرجانات العالمية، بحيث إن نظامها الإيقاعي الداخلي المتكرر والرتيب، يجعل جسد الآخر يدخل في متاهته الحسية، وهذا السر تكاد تنفرد به الموسيقى الغناوية، على رغم وجودها داخل حلقة الموسيقى الشعبية المغربية، فإن تميزها واختلافها تأليفاً وعزفاً وصورة يجعلانها تنسج أواصر صداقة دائمة وقوية مع المستمع الغربي.
إن المتابع للإنتاج الغربي موسيقياً وسينمائياً وتشكيلياً وفوتوغرافياً يكتشف حجم التأثير الذي مارسته غناوة في المتخيل الغربي لأنها غدت رمزاً فنياً وتجلياً لأنماط موسيقية أفريقية اكتسحت العالمية بكلماتها الصوفية وأدواتها التقليدية مثل الدربوكة والقرقاب والهجهوج (الكنبري) والطبل. ليس لباس غناوة المزركش هو ما يفرد لها مكانة خاصة في وجدان المستمع العالمي، لكن الأصوات الشجية المنبعثة من سراديب الجسد والرقصات المحمومة المتمايلة على إيقاع البحر تجعل أصوات العبيد وكأنهم يبعثون من ترابهم.
فهذا السحر الذي يجمع بين المرئي واللامرئي في تجربة غناوة، جعل كثيراً من الناس ينسجون أقوالاً وأساطير ليست صحيحة، لكنهم يصدقونها على أمل التلذذ والمناجاة.
هذا الأمر هو ما يفسر نجاح مهرجان موسيقى غناوة الذي ينظم سنوياً في مدينة الصويرة، إذ أضحى قبلة لعشاق هذه الموسيقى الصوفية من مختلف دول العالم أشبه بـ"المزار" أو "الولي" الذي يشفي الناس من معاناتهم وآلامهم على درب الموسيقى والنسيان.
وبقدر ما تطرب غناوة سياح المدينة الذين يأتون خصيصاً لهذا العرس السنوي، انعكس ذلك إيجاباً على الموسيقى الغناوية وعلى أوساطها الفنية وجعل فرقها تدخل في شراكات حقيقية مع مؤسسات إنتاج عالمية كنوع من التعاقد الفني القائم على الدراسة والمثاقفة والتوليف الموسيقي وضيافة هوية الآخر الذي أصبح وجودياً يعيش فينا ونعيش فيه.