في محافظة بن عروس المتاخمة للعاصمة تونس يعكف عادل البالغ من العمر 37 سنة يومياً على النبش في حاويات الفضلات المنتشرة في شوارع عدة للبحث عن مواد بلاستيكية وجمعها ثم بيعها في مرحلة أخرى، إذ يقتات آلاف بسطاء تونس سواء من النساء أو الرجال من دخل عملهم بالقمامة.
وفي ظل ارتفاع معدلات البطالة التي تخطت حاجز الـ16 في المئة، بحسب أحدث أرقام المعهد الوطني للإحصاء (مؤسسة حكومية) فإن كثراً من ضعاف الحال في تونس باتوا يلجأون إلى جمع هذه المواد لتوفير قوتهم اليومي على رغم أنها مهنة محاطة بأخطار عدة.
لا ضمانات
على رغم إقرار تونس خططاً لحماية البيئة وإنشاء الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات منذ تسعينيات القرن الماضي، فإن البلاد لا تزال تعول على "البرباشة" وغيرهم من أجل التقليص من النفايات، لا سيما أنها من أشد البلدان عرضة للتغيرات المناخية.
لكن المنقبين عن النفايات يجدون أنفسهم بين مطرقة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي يرزحون تحت وطأتها وإكراهات جمع المواد البلاستيكية، بخاصة أنهم عرضة للحوادث وغياب الضمانات الاجتماعية والصحية.
يقول عادل الذي فضل عدم الكشف عن هويته الكاملة لـ"اندبندنت عربية"، "أستفيق باكراً في حدود الخامسة صباحاً أو السادسة للبحث عن القوارير البلاستيكية ثم أبيعها، الكيلو بحوالى 800 مليم تونسية (أقل من نصف دولار أميركي) وهو ما يجعلني مطالباً بالبحث عن أكبر كمية ممكنة من البلاستيك، لجأنا إلى هذه المهنة مضطرين وهي لا توفر سوى قوت يومي لا أكثر".
يضيف، "ليست لدينا حماية اجتماعية أو ضمانات، وهناك أشخاص منتظمون في بعض صناديق التأمين الاجتماعي، لكن معظمنا لا يملك أي ضمان اجتماعي أو صحي، بخاصة في ظل الوضع الصعب اليوم في تونس، وهذه المهنة تتسبب في أمراض عدة مثل ضيق التنفس وغيرها".
وأشار إلى أن "هناك فرقاً في طرق وآليات عملنا، مثلاً ليست لدي وسيلة نقل أقوم من خلالها بإيصال المواد التي أجمعها، لكن هناك آخرين لديهم سواء دراجات نارية أو سيارات تسهل عليهم العمل".
واستدرك، "لكن دورنا يبقى مهماً أيضاً على مستوى حماية الطبيعة، وكثيرون ممن يجوبون الشوارع ومكبات النفايات معنا يومياً متطوعون يحاولون التقليل من الأضرار البيئية".
وإضافة إلى مصبات النفايات المنتشرة في البلاد كافة على غرار مصب برج شاكير الواقع في العاصمة وهو أكبر المصبات في تونس، يعمل "البرباشة" في الشوارع والأزقة المكتظة لجمع القوارير والمواد البلاستيكية وحتى مواد أخرى ثمينة مثل الألمنيوم والنحاس وهي مواد تباع بمقابل أفضل بكثير.
منظومة شبيهة بالاقتصاد الموازي
لا توجد إحصاءات رسمية لعدد "البرباشة" الناشطين في تونس، لكن عملهم يظل أقرب إلى القطاعات الموازية على غرار المتهربين من الضرائب، لكن ليست لديهم في المقابل أي ضمانات في شأن مستقبلهم الذي يظل يكتنفه الغموض".
يرى الخبير البيئي التونسي حمدي حشاد أن "البرباشة في تونس يشكلون اليوم منظومة تشبه إلى حد ما الاقتصاد الموازي، لكن في الواقع للبرباشة بصمة خاصة سواء بيئياً أو اقتصادياً واجتماعياً وللأفراد وزنهم وقيمتهم في المشهد العام، هناك ألمنيوم وبلاستيك ومواد عدة يتم جمعها وبيعها وبأسعار مختلفة".
وأوضح حشاد في تصريح خاص أن "البرباشة يسهمون في وضع منظومة اقتصادية وبيئية بديلة من خلال إعادة التجميع، بالتالي المساعدة في إعادة تدوير النفايات، وعلى رغم ذلك هناك نظرة دونية وسلبية تجاههم". وأبرز أن "هناك تطورات شهدها هذا القطاع بحيث تم في 2009 طرح فكرة إدماجهم في وظائف أكثر تنظيماً وتم حصر 700 من المشمولين مقابل ما قدره آنذاك 600 أو 700 دينار (حوالى 250 دولاراً حالياً)، لكن هذا المقترح رفض لأنه لا يساوي ما يجنونه بشكل خاص".
ولفت حشاد إلى أن "البرباشة خلقوا قيمة اقتصادية لأشياء تم الانتهاء من استعمالها، لكن في الوقت نفسه يرفضون الانضواء تحت المنظومات التي تشرف عليها الدولة لأنهم يرون أن ذلك سيحد من صلاحياتهم وعائداتهم المالية"، مشيراً إلى أن "المفروض أنهم يحصلون على ترخيص لاستغلال المصبات أو غيرها وأن يتم تأطيرها، لكن هؤلاء يعيشون على الهامش بلا ضرائب، على رغم أن لهم وزنهم بيئياً إذ يسهمون في الحد من استعمال الموارد الطبيعية واقتصادياً من خلال توفير موارد مالية خاصة بهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتجاهلت الحكومات المتعاقبة التي عرفتها تونس بعد ثورة 14 يناير (كانون الثاني) 2011 التي أطاحت نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي هذا القطاع لانشغالها بملفات مطلبية أخرى في مجالات حساسة مثل الصحة والتعليم وغيرهما، علاوة على طغيان الأزمات السياسية على المشهد.
وأوضح حشاد أن "هناك مصبات عدة يتم استغلالها من قبل هؤلاء سواء مصبات خاضعة لمراقبة الدولة أو لا، أيضاً أسهموا في تشبيك علاقات من نوع خاص، مثلاً مع أعوان البلدية الذين يعطون الأولوية أحياناً في تفريغ الفضلات في المصبات لأماكن وجود البرباشة".
وقدرت منظمة "إنترناشيونال أليرت" في تقارير سابقة لها عدد "البرباشة" في تونس بـ8 آلاف يجمعون القوارير البلاستيكية والنحاس والخبز وكل ما يمكن تدويره وتثمينه، فيما تنتج البلاد سنوياً حوالى 2.5 مليار قارورة ماء و2.4 مليار كيس بلاستيكي.
مبادرات لمعالجة الملف
وفي غياب خطط سياسية واضحة لهيكلة نشاط المنقبين عن المواد المعدنية والبلاستيكية في تونس، أطلقت منظمة "إنترناشيونال أليرت" مشروعاً في وقت سابق يستهدف تحسين وضع "البرباشة"، يتمثل في إنشاء مصنع يعمل على تدوير البلاستيك والنفايات بعد أن يتم شراء المواد المجمعة من المنقبين بأسعار معقولة بخلاف ما هو سائد الآن.
وقال منسق المشروع ماهر العمراني وهو ناشط حقوقي أيضاً إن "البرباشة ليس لهم الحق في ضمان اجتماعي أو بطاقات علاج لذلك حاولنا التنسيق مع السلطات لهيكلة القطاع لأنه يسهم في النهاية على المستوى البيئي من خلال تقليص الفضلات وغيرها، لكن خطرها متفاقم".
وأخبرنا العمراني أن "البرباشة ليست لديهم حماية حقيقية، وهم أفراد أجبرتهم الأوضاع على تجميع المواد المعدنية وغيرها بطريقة عشوائية، لكن للأسف الدولة مقصرة في تونس بشكل كبير ولا تعترف بهم ولم يتم توفير ضمان اجتماعي أو صحي لهم".
وأكد أن "من الضروري أن تكون هناك مراكز تجميع لأن المجمعين الذين يتم بيع المواد المجمعة لهم الآن يتم ذلك بأسعار زهيدة جداً بينما من يقوم بالتدوير ثم البيع يجني أموالاً طائلة".
وعلى رغم أنها تنتج سنوياً نحو 2.6 مليون طن من النفايات فإن آلية التدوير لم تترسخ بعد في تونس حيث تلجأ السلطات أكثر إلى طمر النفايات، لكن المصبات المنتشرة بينها المراقبة وأخرى عشوائية، بلغت طاقتها الاستيعابية القصوى، الأمر الذي يحتم ضرورة البحث عن آليات أخرى في التعامل مع النفايات مثل التدوير.
ورأى العمراني أنه "يجب أن تكون هناك مراكز تابعة للدولة أو مراقبة من قبلها للتدوير، لكن تدهور الوضع الاقتصادي يدفع الشباب وحتى النساء والرجال إلى امتهان هذه المهنة، وأصبحت العائلات تدفع الأطفال أيضاً إليها، بخاصة خلال العطل المدرسية في أحياء مثل حي التضامن ودوار هيشر (بالقرب من العاصمة التونسية)".
واستنتج أن "هناك محاولات عدة لهيكلة القطاع، لكنها فشلت، وهو ما يحتم الآن ضرورة إيجاد حلول لتوفير ضمانات صحية واجتماعية لحماية البرباشة، بخاصة أنهم عرضة لحوادث عدة".
مزايدات سياسية
وفي ظل تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية التي تشهدها تونس فإنه من غير الواضح ما إذا كانت السلطات ستمضي نحو معالجة ملف "البرباشة" على رغم إسهام هؤلاء في الدورة الاقتصادية وفي حماية البيئة. وربما يجعل عجز السلطات عن التدخل بشكل فاعل لمعالجة ملف "البرباشة" الأطراف السياسية المنقسمة على نفسها بشدة تدخل على الخط للمزايدة به، بخاصة في ظل احتدام السجالات السياسية.
يقول الباحث السياسي محمد العربي العياري إن "البرباشة فئة اجتماعية تعاني هشاشة وأوضاعاً اقتصادية صعبة، ويقتاتون من دخل النفايات في أماكن عدة سواء في العاصمة أو غيرها من المدن"، مشيراً إلى أنهم "في فترة من الفترات أثاروا إشكالات حقيقية لأنهم يتعرضون لحوادث".
وتابع العياري في حديث خاص أن "من المضحكات المبكيات أنه في إطار المزايدات السياسية وكسب الأصوات الانتخابية طرحت برامج من قبل أطراف سياسية مثل توفير تطعيمات لهؤلاء البرباشة وكذلك قفازات لوقايتهم من العدوى من دون حتى تحقيق ذلك".
ورأى أن "للأسف ابتعدت النخبة السياسية عن البحث عن حلول حقيقية لهؤلاء واقتصرت تصريحاتها على إطلاق وعود في سياق المزايدات، فالنخبة السياسية في تونس عودتنا على عدم الانتباه إلى بعض الفئات التي تعاني التهميش".
واستنتج العياري أن "هناك بارونات للنفايات تكونت بحيث يقوم أشخاص بشراء المواد المعدنية التي يجمعها البرباشة بأسعار زهيدة في غياب تام للدولة التي هي على علم بالظاهرة، بخاصة أن البرباشة انفتحوا الآن وأصبحوا مستعدين للحديث عن مشكلاتهم".