تقدم ماريا جبور الدويهي عملها المسرحي الأول بعنوان "آخر بروفا" على خشبة مسرح مونو، من إخراج شادي الهبر وإنتاج مسرح شغل بيت. و"آخر بروفا" هي المسرحية الأولى التي تكتبها الدويهي بنفسها على رغم تخصصها بالمسرح ونيلها فيه شهادة الماجستير من جامعة القديس يوسف في بيروت ومن بعدها شهادة الدكتوراه. وتختار ماريا الدويهي ابنة الكاتب والروائي اللبناني جبور الدويهي أن تكتب مونولوغاً تؤديه بمفردها على خشبة المسرح وتحتكر من خلاله الأربعين دقيقة بأكملها لتقدم عرضاً زاخراً بالمشاعر والمآزق والأغاني والتسجيلات القديمة واللحظات المتفرقة من التفاعل مع الجمهور. عرض موجز ثاقب فيه ثورات انفعالية وفورات حزن ووحدة واستفزاز تؤديها الدويهي بكل براعة وحرية وتماسك.
وتقوم هذه المسرحية بأسرها على حديث توجهه ماريا الدويهي إلى رجل وهمي تتخيله وتتحدث إليه وتنتظر رده لكنه لا يجيب على رغم حزنها ووحدتها هي التي تتقمص دور ممثلة متقدمة في السن غدرت بها الحياة وتركتها وحيدة فارغة بعد سنوات طويلة من العطاء.
وحدة المرأة ووحدة الفنانة
في حديث أجريناه مع ماريا الدويهي حول ظروف كتابة هذا النص تقول: "وضعتُ هذه النص في فترة الكوفيد، منذ حوالى العام والنصف. طالما أردتُ كتابة نص مسرحي وقد كانت لي محاولات سابقة لم ترَ النور. وفجأةً، كأن هذه الرغبة تفجرت دفعة واحدة فكتبت هذا النص بدفق واحد وبجلسة واحدة. أردتُ منذ البداية أن ينطلق نصي من فكرة امرأة تتحدث إلى رجل لا يجيبها لأسير بها في هذا الاتجاه على مدار النص. أردتُ أن أبني نصي على هذا المبدأ ومع كل تقدم رحت أخترع عذراً جديداً لهذه المرأة لتكمل حديثها. حاولتُ أن أجد موضوعات تساعد على بناء المسرحية والشخصية على حد سواء. فجاءت هذه المسرحية مسرحية ممثلة لم يعد أحد يأتي ليشاهد عروضها على خشبة المسرح لكنها لا تستسلم وتحاول دوماً جذب انتباه الجمهور واستبقاءه في القاعة كما تحاول لفت انتباه الرجل".
وفي سؤال عن المرأة الممثلة التي ألهمتها أو التي تأثرت بها لكتابة هذا النص وتأديته تجيب الدويهي: "هناك ممثلات كثيرات أثرن في، أذكر منهن حنان حاج علي وكارول عبود وجوليا قصار ورندا الأسمر وغيرهن. كن جميعهن حاضرات في ذهني في لحظات الكتابة". ومن الجدير بالذكر أن هذا النص إنما هو نص مأساة كل ممثلة موهوبة طموح أو كل فنانة مبدعة منحت نفسها لفنها وكرست حياتها له لتجد نفسها ذات يوم على خشبة المسرح ولآخر مرة وحيدة، فارغة، عاجزة عن الإمساك باهتمام الجمهور وعاجزة عن حث الرجل على التجاوب معها والتفاعل مع مشاعرها.
ثلاث علاقات متداخلة
في إطار ديكور غرفة جلوس حميمة مع إضاءة خافتة تجسد ماريا الدويهي ثلاث علاقات متراصفة متداخلة تتمكن من التأرجح في ما بينها بثقة وبراعة. فمن ناحية أولى هناك علاقة المرأة بجسدها وبعمرها وبمهنتها وبوحدتها وبجمالها. هناك علاقة المرأة بماضيها وبما كانت عليه مقارنة بالوحدة والتهافت اللذين وصلت إليهما.
ثانياً هناك علاقة المرأة بالرجل والتوتر الذي يسودها. علاقة قائمة على الصمت وعلى محاولة حث الرجل على التفاعل والتكلم والاستجابة. وكأن هذه العلاقة تجسد كل ما تريده المرأة من الرجل في الحياة اليومية، وكأنها تجسد أو تشكل مرآة علاقة المرأة بالرجل الشرقي الذي لا يعبر عن نفسه ولا عن مشاعره بينما المرأة مغرقة في الدراما والمبالغات والمشاعر القوية، فتقول الدويهي في مكان ما من نصها: "مش عم تفهمني! أنا امرأة!... اكتشفني!" وكأن المرأة تحتاج أن يراها الرجل، أن يشعر بها وأن يكسر حاجز الصمت والبرودة الذي يرفعه حول نفسه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما العلاقة الثالثة التي تقيمها الدويهي فهي مع جمهورها وهي علاقة استدراج، فالدويهي تعلم أنها يجب أن تخترع دائماً موضوعات جديدة لتحافظ على اهتمام الجمهور وانتباهه. تقول ذلك بنفسها في مكان من العرض عندما تروح تفكر بصوت عالٍ في طريقة لإبقاء الجمهور في القاعة. وتتفرع هذه العلاقة لتطاول علاقة الدويهي بالكتابة وبالإبداع وبالفن وبالنص نفسه: النص الذي لا يتشكل والذي يتحول إلى سلاح المرأة الوحيد للاستمرار على قيد الوجود.
"آخر بروفا" هي خير بداية في الكتابة المسرحية لماريا الدويهي وخير بداية تمثيلية، فالدويهي تؤدي دور ممثلة في نهاية مسيرتها الفنية وقد أصبحت وحيدة في هذه الحياة وعلى خشبة المسرح من دون شريك ولا حب ولا جمهور. ممثلة تصعد الخشبة للمرة الأخيرة بشيء من الاستسلام وإنما برغبة في الاستمرار أيضاً. ويبدو النص متماسكاً موجزاً ينتهي تماماً في اللحظة التي يجب أن ينتهي بها كما أن الأداء قوي ومفعم بالصدق والحرية والتوتر والوحدة حيث تجسد ماريا الدويهي امرأة انفعالية متوترة تحب المشاعر القوية ولا تخشى الإفصاح عنها وعن تخبطات نفسها لدرجة أنها لا تتوانى في خلع ثوبها وكأنها تخلع عن نفسها قشور المجتمع وأعباء الماضي وجدار الأقنعة. تمعن الدويهي في تقديم المشاعر والمواقف والمشاهد وتذهب في كل شيء إلى النهاية: في التمثيل وفي الغناء وفي التحرك على المسرح بكل حرية وثقة وبراعة.