يواجه اليسار في تونس مزيداً من الانقسامات في وضع سياسي استثنائي بعد تفرد الرئيس قيس سعيد بمعظم الصلاحيات منذ أكثر من عام ونصف العام، في خطوة تكاد تتفق مكونات اليسار على مناهضتها، لكنها لا تزال بعيدة عن توحيد جهودها.
وسيكون اليسار التونسي خارج مؤسستي البرلمان في المرحلة المقبلة، إذ قاطعت كل أحزابه الانتخابات التشريعية التي دعا إليها الرئيس سعيد، كما قاطعت حواراً وطنياً كان قد دعا إليه في يونيو (حزيران) 2022، وفجر انقسامات حادة داخل أبرز أحزاب اليسار "الوطنيين الديمقراطيين الموحد"، (المعروف اختصاراً بحزب الوطد).
كان الحزب قد قاطع الحوار الوطني، لكن القيادي البارز منجي الرحوي الذي مثل حزبه "الوطنيين الديمقراطيين الموحد" واليسار عموماً في عديد من البرلمانات السابقة، قد رفض ذلك وشارك بصفة فردية في الحوار. وتم على أثر ذلك فصله من حزبه ودخل في تلاسن حاد مع قيادات الحزب.
واتهمت في الأيام الماضية قيادات في حزب "الوطنيين الديمقراطيين الموحد"، الرحوي، بالعبور إلى ضفة "سعيد بعد إعلانه عن مواقف مؤيدة بشدة للخطوات التي يمضي فيها الرئيس التونسي".
تناقض مع السلطة
تاريخياً، كان اليسار التونسي بعيداً من دوائر السلطة، فمنذ بزوغ فجر الاستقلال عام 1956 دخل في معركة قوية مع الزعيم الراحل، الحبيب بورقيبة، واستمرت القطيعة بعد تولي الرئيس الراحل زين العابدين بن علي الحكم عام 1987.
بعد انتفاضة الـ14 من يناير (كانون الثاني) 2011، كانت هناك مساعٍ جدية لتوحيد صف اليسار، وهو ما حدث بالفعل، بخاصة بعد أن طاولت الاغتيالات السياسية التي عرفتها البلاد واحداً من أبرز القيادات اليسارية، وهو شكري بلعيد، في السادس من فبراير (شباط) 2013 إبان حكم "الترويكا" بقيادة "حركة النهضة"، الذراع السياسية لتنظيم "الإخوان المسلمين".
وقال القيادي بحزب "الوطنيين الديمقراطيين الموحد"، أيمن العلوي، إن "هناك انقساماً حول الانتساب إلى اليسار، فهناك انتماء على أساس عشائري لا مغزى سياسياً له، وآخر تاريخي يستند إلى برنامج سياسي يساري واسع مبني على أسس تاريخ اليسار الثوري في تونس".
وتابع العلوي في حديث خاص لـ"اندبندنت عربية"، أن "برنامج اليسار السياسي يتناقض مع النظام الحاكم في تونس منذ عقود"، ويعتبره نظاماً يمينياً "ليس له علاقة بالترتيبات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية اليسارية".
وأضاف، "لا أعتقد أن اليسار يمكن أن يبرر خيارات صندوق النقد الدولي أو الاستبداد أو القضاء على الحياة السياسية، أو أن يبرر تحت لافتة التصدي للإخوان المسلمين جوع الشعب التونسي وتفقيره والحالة الاقتصادية المتدهورة التي تعرفها بلادنا، وهذا جوهر خلافنا مع الآخرين"، لافتاً إلى أنه "لهم الحق في أن يؤيدوا ذلك، لكننا نحن لسنا مع هذا الرأي، لذلك لا أعتقد أن الحديث عن توحيد اليسار اليوم دقيق في المرحلة الراهنة".
وعلى رغم حالة التشظي التي تطغى على عمل ونشاط الأحزاب اليسارية في تونس اليوم، فإن ما يجمع بين أغلبها "مناهضة الخيارات التي يتبناها الرئيس قيس سعيد، الذي تمكن من مركزة أغلب الصلاحيات بيده، وسن دستوراً جديداً أعاد البلاد إلى نظام الحكم الرئاسي، وهو ما ترى فيه تلك الأحزاب ضربة لما تحقق في انتفاضة 14 يناير"، إلا أن سعيد ينفي ذلك ويؤكد مراراً احترامه للحقوق والحريات.
وقال العلوي إن "معارضة السلطة ورفض خياراتها لا يمكن أن يفرزا تحالفاً سياسياً، لأن اليوم أشد خصومنا السياسيين، سواء الإخوان أو الحزب الدستوري الحر، هم ضد السلطة، لكن لن نتحالف معهم لأننا لا نتقاسم وجهة النظر نفسها، لا سياسياً ولا اجتماعياً ولا اقتصادياً".
وشدد على أن "هناك مجموعات شبابية ومناضلين نعول عليهم اليوم، بالتالي بات بالإمكان معارضة السلطة الحالية من دون التحالف مع أصحاب السلطة القدامى أي (حركة النهضة) وحلفائها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فشل في التموقع
شعبياً، عرفت مكونات اليسار في تونس تراجعاً كبيراً، إذ لم تفز في انتخابات 2019 البرلمانية سوى بمقعد واحد، فيما فشل مرشحوه إلى الرئاسة وهم ثلاثة (منجي الرحوي وحمة الهمامي وعبيد البريكي) في المرور حتى إلى الدور الثاني، وقد نالوا أقل من ثلاثة في المئة من أصوات الناخبين.
ولم يكن ذلك وضع اليسار في تونس عام 2012 عندما تم إنشاء "الجبهة الشعبية" التي ضمت 11 حزباً وتشكيلاً يسارياً وقومياً من بينها حزب العمال و"الوطنيين الديمقراطيين الموحد" والتيار الشعبي وحزب القطب، وغيرها، لكن الجبهة التي تزعمها في ذلك الوقت حمة الهمامي، تفككت عام 2019 حين تنازع على رئاستها الأخير بشدة مع الرحوي، مما قاد إلى تفككها والدخول للانتخابات بانقسامات قادت إلى نتائج هزيلة لهذا التحالف.
وفي عام 2014، نجحت الجبهة في حجز 15 مقعداً في البرلمان مستفيدة من مشهد سياسي عام مناهض لـ"حركة النهضة الإسلامية" التي تقود الحكم، لا سيما بعد الاغتيالات السياسية التي طاولت بلعيد ثم القيادي القومي، محمد البراهمي، في 25 يوليو (تموز) 2013.
وقال المؤرخ التونسي عبدالجليل بوقرة إن "هناك تيارات سياسية عدة في تونس، تيار وطني حداثي فيه عدة مكونات بينها الدساترة (أنصار الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وحزبه الدستوري) والنقابيون، مقابل تيار محافظ تقليدي يمثلونه شيوخ الزيتونة، ثم حركة النهضة التعبيرة الإخوانية في تونس".
وأضاف بوقرة صاحب كتاب "فصول من تاريخ اليسار التونسي"، أن "التيار اليساري في تونس فشل في التموقع بين هذين التيارين، ولم يستطع أن يشكل تياراً ثالثاً وبقي متردداً بين التيارين الوطني والمحافظ".
وقال، "لذلك هناك بعض اليساريين الذين تحالفوا مع بورقيبة، وبعد ذلك مع بن علي، وفي مقابل ذلك هناك يساريون تحالفوا مع الإخوان مثل حركة 18 أكتوبر (حركة ولدت من رحم اعتصام لمعارضين لـ"بن علي" عام 2005 منهم إسلاميون ويساريون وقوميون)".
واعتبر بوقرة أن "قيس سعيد انحاز في الواقع للتيار الوطني ويريد قيادته بنفسه الآن، وأبعد الدساترة وهو يتعامل بحذر مع النقابيين واتحاد الشغل ولا يراهن عليهم، مما أدى إلى ارتباك اليسار الذي يتساءل الآن: هل الحل في الانخراط في التيار الوطني أو مع الدساترة أو أن يتم تشكيل تيار ثالث؟".
في طريق التفكك
ويثير رفض اليسار التحالف مع الحزب الدستوري الحر بقيادة عبير موسي، أو الإسلاميين أو قيس سعيد، التساؤلات حول حول فرص نجاحه في تشكيل خط ثالث يكسر الاستقطاب الحاد بين هذه الأطراف حالياً.
وعلى رغم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي ترزح تحت وطأتها تونس، والتي كان بإمكان اليسار استغلالها للصعود إلى دفة الحكم للمرة الأولى في تاريخ البلاد، فإن فرص اليساريين لتوحيد جهودهم الآن تبدو ضئيلة بخاصة في ظل الخلافات القوية.
وقال بوقرة إن "اليسار لن ينجح في تشكيل تيار ثالث، لذلك انضمت بعض الشخصيات اليسارية إلى التيار الذي يقوده قيس سعيد على رغم أنه يصعب التكهن بالفترة التي قد ينجح فيها سعيد في قيادة هذا التيار".
وشدد على أن "بقية اليساريين لا تزال لديهم إمكانية تشكيل تيار ثالث، أما حزب العمال وزعيمه حمة الهمامي فيبدو أنهم أقرب إلى التيار الإسلامي المحافظ، أما حركة الشعب القومية فلا يزالون مترددين".
ورأى بوقرة أن "اليسار في طريق التفكك، بعد التضرر والتصدع الذي أصابه، ولا يمكن أن يعود إلا من خلال جيل جديد من اليساريين يحمل أفكاراً وبوصلة واستراتيجيات جديدة، الوجوه التي تتصدر حالياً التيار اليساري لا يمكن أن تقوده لأية نجاحات".