واصلت البنوك التونسية، وخصوصاً تلك المدرجة بالبورصة، تحقيق نتائج مالية إيجابية وتسجيل أرباح كبيرة في وقت تعرف شركات القطاع الخاص عديداً من الصعوبات، أن الاقتصاد التونسي يحقق نسب نمو ضعيفة جداً ما غذى التساؤل عن التناقض الكبير الحاصل بين اقتصاد منهك ومتهالك وقطاع مصرفي منتعش.
ومع نشر المصارف التونسية نتائجها المالية في الأسابيع الأولى من يناير (كانون الثاني) الخاصة بعام 2022، تبين أنها حققت نتائج مالية باهرة بخاصة على مستوى النتائج البنكية الصافية ونتائج الاستغلال ومحافظ الاستثمار وعمليات الإقراض للعملاء.
وكشفت عمليات الإفصاح المالي أن البنوك التونسية المدرجة في البورصة تصدرت المؤسسات الرابحة خلال عام 2022، مسجلة نمواً في أرباحها بنسبة 13 في المئة مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي على رغم الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد.
ويجمع المتخصصون على أن تحقيق القطاع المالي أرباحاً كبيرة على رغم ضعف النمو العام في البلاد، يرجع إلى استفادة الجهاز المصرفي من عاملين مهمين وهما زيادة الاقتراض الداخلي للدولة وتضخم قيمة الخدمات البنكية التي تجاوزت ثمانية في المئة من صافي الأرباح المحققة، كما أن الجهاز المصرفي أضحى، بحسب تصريحات بعض المتخصصين من القطاعات الريعية التي استفادت من الأزمة الصحية والاقتصادية التي تمر بها البلاد، وهو ما يفسر تحقيقها أرباحاً مهمة في وقت لم تتجاوز نسبة النمو في البلاد اثنين في المئة خلال السنوات القليلة الأخيرة.
نتائج إيجابية
وبلغت النتائج الصافية لـ12 بنكاً تونسياً مدرجاً بالبورصة إلى نهاية 2022 ما قيمته 5316 مليون دينار (1714.8 مليون دولار) مقابل 4701 مليون دينار (1516.4 مليون دولار) في عام 2021 بزيادة بنسبة 13 في المئة.
وقال الخبير المحاسب والمحلل المالي سفيان الوريمي، إن هذه النتائج الإيجابية جاءت في الأساس من الفوائض والعمولات والأرباح على الاستثمار في المحافظ المالية التي تنجزها البنوك في رقاع الخزانة، والمساهمة في القروض الرقاعية الوطنية التي صارت تصدرها تونس سنوياً. وأكد أن أرباح البنوك في تونس أضحت متأتية في السنوات الأخيرة من عملية إقراض البنوك للدولة التونسية لتمويل الموازنة وخلاص أجور الموظفين بتوظيف فوائد وفوائض مهمة. وأضاف في سياق تحليله للنتائج الإيجابية لمختلف البنوك التونسية المدرجة في البورصة من جملة 23 بنكاً، أن الفوائد البنكية زادت خلال العام الماضي بنسبة 13 لتبلغ 743 مليون دينار (239.6 مليون دولار).
وزادت كذلك العمولات بنسبة ثمانية في المئة في عام 2022 أتت من إرساء عمولات جديدة مع ترفيع في هامش هذه العمولات، نافياً أن تكون البنوك قد أحدثت منتجات بنكية جديدة في السنة الماضية.
وضعية غير طبيعية
وفي تعليقه على النتائج الإيجابية والأرباح المهمة التي حققتها أهم وأقوى البنوك التونسية خلال السنة الماضية، أبرز خليل العبيدي المتخصص في الاستثمار أن في زمن الأزمات يحقق بعض المتعاملين الاقتصاديين أرباحاً مهمة لا سيما البنوك. وتابع أن "الأزمة الاقتصادية التي تعانيها تونس، التي تعمقت مع جائحة فيروس كورونا دفعت المواطنين وأصحاب الشركات إلى الاقتراض من البنوك التي صارت تفرض شروطاً مجحفة عليهم من دون التفاوض في شأن الفوائد والعمولات باعتبارهم بحاجة ماسة إلى السيولة المالية". وقال أيضاً إن الحالة التونسية تعد متناقضة ومليئة بالمفارقات الاقتصادية مستنتجاً أن الوضعية غير طبيعية بين اقتصاد يشكو عديداً من الصعوبات وقطاع بنكي مزدهر يحقق نتائج مالية باهرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ورأى العبيدي أن القطاع البنكي هو تقريباً القطاع الوحيد الذي انتفع من أزمة تونس الاقتصادية باعتباره أضحى المقرض المهم والكبير بنسب فائدة محترمة ومجزية ما جعل نتائجه المالية تقفز بشكل لافت. ودعا في هذا الخصوص إلى أن يؤدي البنك المركزي التونسي ووزارة المالية دوراً أكبر في الرقابة على البنوك بخاصة من حيث العمولات البنكية النشطة والفوائض التي تصل إلى 13 في المئة في بعض الأحيان.
وتأكيداً على تواضع الدور الرقابي قال سفيان الوريمي، لإن تقرير محكمة المحاسبات (أعلى سلطة رقابية في تونس) لسنة 2020، انتقد أداء البنك المركزي التونسي في مجال الرقابة المصرفية على البنوك.
قطاع ريعي
واعتبر المتخصص البنكي عز الدين سعيدان أن القطاع البنكي في تونس يتحول تدريجاً إلى قطاع ريعي، مشدداً على أن الدولة التونسية هي السبب على خلفية قيامها بالاقتراض بشكل نشط جداً من البنوك التونسية. ولفت في تصريح إلى أن "مستوى الاقتراض فاق 22 مليار دينار (سبعة مليارات دولار)"، مشيراً إلى أن البنوك ليست لها هذه السيولة بل تتحصل عليها من البنك المركزي. أضاف "الـ22 مليار دينار التي تتحصل عليها الدولة التونسية بفائض يناهز 2.5 نقطة من دون مصاريف تشغيل ومن دون مخصصات ما يعطي 600 مليون دينار (200 مليون دولار) أرباحاً للبنوك".
لا للاستغلال
وانتقد "مرصد رقابة" (منظمة مستقلة) أرباح البنوك منذ عام 2020 "التي لا ينبغي أن تبرر استغلالها لعملائها" مؤكداً أن "مختلف البنوك التونسية تحاول منذ مدة تبرير الاقتطاع غير القانوني الذي فرضته على العملاء منذ تفشي فيروس كورونا مقابل أقساط القروض التي تم تأجيل سدادها بمقتضى قرارات الحكومة والبنك المركزي، مبررة ذلك بأوضاعها الصعبة وتضررها هي الأخرى من الجائحة"، "لكن الحقيقة ليست كذلك"، وفق "المرصد" الذي نشر جدولاً لمؤشرات الاستغلال والأرباح الصافية منذ عام 2020. وأوضح "مرصد رقابة" أن "البنوك لا تعاني أزمات مالية بسبب جائحة كورونا سواء من جهة الأرباح الصافية أو الناتج البنكي الخام أو نتائج الاستغلال".
الولوج إلى البنكية مكلف
واعتبر "مرصد الخدمات المالية" (مستقل) أن الولوج إلى الخدمات والقروض البنكية في تونس يبقى مكلفاً خصوصاً بالنسبة إلى المؤسسات الاقتصادية والعملاء العاديين. وأفاد رئيس "المرصد" عبداللطيف بن هدية أن التوتر يبدو جلياً بين الشركات الاقتصادية والمؤسسات البنكية، وقد زاد الغموض الذي صاحب بعض الإجراءات الجبائية والمالية في تعكير هذه العلاقة. وأضاف أنه على رغم ما يشهده العالم وبخاصة الشركاء في الاتحاد الأوروبي من استرجاع نسق النمو، وأخذاً بالاعتبار للتحولات التي يشهدها العالم في ميادين التكنولوجيا والطاقة والاقتصاد الأخضر والرقمنة، وعلى رغم الموقع الاستراتيجي لتونس، ما زالت البنوك التونسية تبحث عن الجدوى والعصرنة، وهذا ما أسهم في سوء العلاقة بين البنوك والمؤسسات الاقتصادية التونسية وأن العلاقة بين البنوك والمؤسسات الاقتصادية يطغى عليها انعدام الثقة بين الطرفين.
من جهة أخرى، يعتبر "المرصد" أن المؤسسات الصغرى والمتوسطة ما زالت لا تحترم قواعد الحوكمة الرشيدة والتصرف السليم، وكثيراً ما يخلط رئيس المؤسسة بين ممتلكاته الشخصية وممتلكات المؤسسة. ودعا مرصد الخدمات المالية إلى ضرورة تعديل قانون الصرف ووجوب توجه البنوك التونسية للاستثمار أكثر في الرقمنة لإضفاء الطابع الشخصي على العلاقة بين البنك والعميل وخلق مناخ من الثقة.
لا لشيطنة البنوك
في المقابل، يعتبر شق آخر وفي مقدمه محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي الذي أفاد في تصريحات إعلامية، بأن القطاع المصرفي في تونس أظهر صلابة كبيرة وأسهم بشكل لافت في تمويل الشركات الاقتصادية وتوفير السيولة المالية اللازمة. ودعا إلى عدم شيطنة البنوك لتحقيقها نتائج مالية محرمة، مؤكداً أن ذلك يعود في جانب كبير إلى اعتمادها على معايير حوكمة سليمة وسياسة مالية حذرة تحت رقابة البنك المركزي. وخلص بالتأكيد أن القطاع البنكي التونسي أثبت قدرة عالية على الصمود في وقت تعرف فيه البلاد أزمة اقتصادية خانقة.