بينما تكافح الحكومة الأميركية لتحديد موعد نهائي آخر لزيادة سقف ديونها المحدد بنحو 31 تريليون و381 مليار دولار، يحذر الاقتصاديون من أن التخلف عن السداد المحتمل قد تكون له عواقب اقتصادية وخيمة على الولايات المتحدة والعالم، وبينما أصبحت الجهود المبذولة لرفع السقف أو إلغائه أو خفض الإنفاق الحكومي موضوعاً ساخناً للنقاش بين صانعي السياسات في "الكونغرس" والبيت الأبيض، تطفو أسئلة كثيرة حول الأزمة والحلول، فما سقف الدين الأميركي ومتى بدأ؟ وكم مرة تم رفعه تاريخياً؟ وهل يجب إلغاء سقف الدين؟ وماذا يمكن أن يحدث لأميركا والعالم إذا تخلفت حكومة الولايات المتحدة عن سداد ديونها؟
متى تتخلف أميركا عن السداد؟
قبل نحو عام رفع "الكونغرس" سقف الدين الفيدرالي بمقدار 2.5 تريليون دولار، ليصل إلى 31 تريليوناً و381 مليار دولار، وهو الحد الذي وصل إليه الدين بالفعل يوم 19 يناير (كانون الثاني) 2023، ووفقاً لرسالة من وزيرة الخزانة جانيت يلين إلى قادة "الكونغرس"، فقد بدأت الوزارة في استخدام أدوات محاسبية تحت تصرفها بحكم القانون تسمى "الإجراءات الاستثنائية"، وتهدف إلى تجنب التخلف عن الوفاء بالتزامات الحكومة الأميركية، وتسمح أيضاً باستمرار الاقتراض حتى أوائل يونيو (حزيران) المقبل في الأقل.
لكن عندما تستنفد هذه الإجراءات، وفي حال عدم وجود اتفاق جديد بين "الكونغرس" بمجلسيه والإدارة لزيادة أو تعليق سقف الديون بسبب الخلافات المستعرة بين الجمهوريين والديمقراطيين، لن تتمكن وزارة الخزانة من الاستمرار في دفع التزاماتها المالية، وستتخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها.
لماذا يناقش "الكونغرس" الأزمة الآن؟
طوال العقد الماضي وخلال فترتي حكم أوباما وترمب، سمح "الكونغرس"، بتوافق الحزبين الجمهوري والديمقراطي، بإنفاق تريليونات الدولارات ورفع سقف الدين مرات عدة، مما تسبب في مضاعفة ديون الولايات المتحدة ثلاث مرات تقريباً منذ عام 2009، وخلال تلك الفترة وصلت قدرة وزارة الخزانة على اقتراض الأموال لتسديد مدفوعات هذا الدين إلى الحد الأقصى المسموح به من قبل "الكونغرس" المعروف بسقف الدين.
لكن بالنظر إلى أن "الكونغرس" الجديد منقسم سياسياً، من المتوقع أن تمتد المفاوضات أشهراً عدة حول كيفية معالجة سقف الديون في عام 2023، بعد أن أصبحت الجهود المبذولة لرفع السقف أو إلغائه موضوع نقاش ساخن بين صانعي السياسات، إذ يحاول المشرعون الجمهوريون الذين ينتقدون تصاعد الديون فرض تخفيضات كبيرة على الإنفاق الحكومي خلال المفاوضات في شأن تعديل سقف الدين، وهو مشهد تكرر كثيراً في الماضي، حيث أدت سياسة حافة الهاوية في "الكونغرس" في شأن هذه القضية إلى الاضطراب وشبح التخلف عن السداد، الذي يهدد بعواقب وخيمة يحذر منها خبراء الاقتصاد إذا تم دفع الاقتصاد الأميركي والعالمي إلى كارثة تشبه الركود الكبير الذي أصاب العالم في ثلاثينيات القرن الماضي.
ما سقف الدين؟
سقف الدين هو الحد القانوني للمبلغ الإجمالي للديون الفيدرالية التي يمكن أن تتراكم على الحكومة، وفقاً لموقع لجنة الميزانية في "الكونغرس"، وينطبق هذا الحد على جميع الديون الفيدرالية، بما في ذلك ما يقرب من 24.5 تريليون دولار من الديون العامة، ونحو 6.9 تريليون دولار تدين بها الحكومة لنفسها نتيجة الاقتراض من حسابات حكومية مختلفة، مثل صناديق الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية.
وتعاني حكومة الولايات المتحدة عجزاً متوسطاً يقارب تريليون دولار سنوياً منذ عام 2001، مما يعني أنها تنفق أموالاً أكثر بكثير مما تحصل عليه من الضرائب والإيرادات الأخرى، ولتعويض هذا الفارق يتعين عليها الاقتراض لمواصلة تمويل المدفوعات التي سمح بها "الكونغرس" بالفعل، ولا يزيد رفع "الكونغرس" سقف الديون من الالتزامات المالية للدولة الأميركية، ذلك أن قرارات إنفاق الأموال تتم من خلال تشريعات منفصلة، ومع ذلك فإن أي تغيير في سقف الديون يتطلب موافقة الغالبية من قبل مجلسي النواب والشيوخ.
متى بدأ تحديد سقف الدين؟
قبل سنوات من تحديد سقف الدين الأميركي مر "الكونغرس" بعملية متكررة مرهقة، إذ كان مطالباً بالموافقة على كل إصدار للدين في تشريع منفصل، ومن أجل تبسيط العملية وتعزيز مرونة الاقتراض، سن "الكونغرس" سقف الدين لأول مرة عام 1917 من خلال قانون سندات الحرية، وتم تحديده بمبلغ 11.5 مليار دولار، لكن في عام 1939 أنشأ "الكونغرس" أول حد إجمالي للديون يغطي جميع الديون الحكومية تقريباً وحدده عند 45 مليار دولار، وكان يمثل نحو 10 في المئة أعلى من إجمالي الدين في ذلك الوقت.
كم مرة تم تعديله؟
كانت عملية زيادة سقف الديون روتينية إلى حد بعيد منذ إنشاء هذه الآلية، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عدل "الكونغرس" والرئيس سقف الديون أكثر من 100 مرة، ووفقاً لخدمة أبحاث "الكونغرس" فقد تم رفع سقف الديون خلال الثمانينيات من نحو تريليون إلى ثلاثة تريليونات دولار، وعلى مدى التسعينيات تضاعف إلى ستة تريليونات، وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تضاعف مرة أخرى إلى أكثر من 12 تريليون دولار، إلى أن رفع قانون مراقبة الميزانية لعام 2011 تلقائياً سقف الدين بمقدار 900 مليار دولار، ومنح الرئيس سلطة زيادة الحد بمقدار 1.2 تريليون دولار إضافية (بإجمالي 2.1 تريليون) ليصل إلى 16.39 تريليون دولار.
مع ذلك كان بوسع "الكونغرس" أيضاً أن يختار تعليق سقف الديون وعدم زيادتها، أو السماح موقتاً لوزارة الخزانة بإلغاء حد الدين، بدلاً من رفعه بمقدار معين، على رغم أن هذه الخطوة كانت نادرة خلال التسعين عاماً الأولى من وجود السقف، فقد علق "الكونغرس" حد الدين سبع مرات منذ عام 2013.
متى بدأت أول أزمة؟
غير أن الجدل المرير حول سقف الديون بدأ عام 2011، عندما أدى الخلاف حول الإنفاق بين الرئيس باراك أوباما والجمهوريين في "الكونغرس" إلى طريق مسدود طويل الأمد، وتوصل "الكونغرس" في النهاية إلى اتفاق لرفع السقف قبل يومين فقط من التاريخ الذي قدرت فيه وزارة الخزانة نفاد الأموال، ومع ذلك أدت سياسة حافة الهاوية إلى أكثر الأسابيع تقلباً بالنسبة إلى الأسهم والسندات الأميركية منذ الأزمة المالية التي عانتها البلاد عام 2008، وخفضت وكالة التصنيف الائتماني "ستاندرد أند بورز" من الجدارة الائتمانية للولايات المتحدة للمرة الأولى والوحيدة على الإطلاق.
ومع تعمق الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة على مدى العقد الماضي، ظلت قضية رفع سقف الديون محل خلاف، إذ يطالب صقور الميزانية في "الكونغرس" بخفض الإنفاق مقابل موافقتهم، وفي عام 2013 عندما كان من المقرر أن ينتهي سقف الدين أدت الأزمة حول سقف الدين إلى إغلاق الحكومة، وهو إجراء تكرر أيضاً أثناء سنوات حكم الرئيس ترمب، وخلال الأسابيع الأخيرة، ومع تداول صناع السياسة القضية من جديد، قال الرئيس بايدن إنه لن يقبل بأقل من زيادة من دون قيود، بينما استخدم الجمهوريون غالبيتهم في مجلس النواب لشرط زيادة سقف الديون بالتوازي مع تخفيضات في الإنفاق الفيدرالي.
ما عواقب التخلف عن السداد؟
دفع الجدل حول سقف الديون الخبراء الاقتصاديين إلى النظر في الاحتمال الذي لم يكن من الممكن تصوره في السابق في شأن التخلف عن السداد في الولايات المتحدة، أي إعلان واشنطن أنها لم تعد قادرة على سداد ديونها، إذ يشير بعض الخبراء إلى أن ذلك ينذر بالفوضى في الولايات المتحدة والاقتصادات العالمية، وحتى في حال عدم التخلف عن السداد، فإن تجاوز سقف الدين من شأنه أن يعوق قدرة الحكومة على تمويل أنشطتها، بما في ذلك أكثر العمليات حساسية مثل تمويل الدفاع الوطني وكلفة الرعاية الطبية والضمان الاجتماعي.
وقد يكون للتخلف عن السداد أو حتى التهديد المتصور به آثار اقتصادية سلبية خطيرة، فمن المؤكد أنه سيسبب صدمة مزعجة في الأسواق المالية العالمية ويخلق الفوضى، لأن الأسواق المحلية والدولية تعتمد على الاستقرار الاقتصادي والسياسي النسبي لأدوات الدين والاقتصاد الأميركي، وفي هذا السيناريو الكارثي سترتفع أسعار الفائدة، وينخفض الطلب على سندات الخزانة مع تقليص أو توقف شراء سندات الخزانة المالية، والتي لن تعتبر آمنة تماماً كما كانت من قبل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا ارتفعت أسعار الفائدة على سندات الخزانة بشكل كبير فستتبعها زيادة في أسعار الفائدة عبر الاقتصاد ككل، مما يؤثر في قروض السيارات، وبطاقات الائتمان، والرهون العقارية، والاستثمارات التجارية، والكلف الأخرى للاقتراض والاستثمار، وستنخفض الميزانيات العمومية للبنوك والمؤسسات الأخرى التي تمتلك حيازات كبيرة من سندات الخزانة مع التدهور السريع المتوقع لقيمة سندات الخزانة، مما قد يؤدي إلى تشديد القيود على الإقراض كما شوهد خلال سنوات الركود الكبير في الولايات المتحدة.
ولهذا حذر مجلس المستشارين الاقتصاديين للبيت الأبيض من أن التأثيرات المتوقعة في الاقتصاد الكلي الناتجة عن التخلف عن السداد أو حتى الاقتراب منه يمكن أن تستمر لأشهر أو حتى سنوات، وعلى سبيل المثال وجد تقرير لمجلس المستشارين الاقتصاديين للبيت الأبيض أنه في أعقاب زيادة سقف الدين عام 2011 ارتفعت معدلات الرهن العقاري بين 0.7 إلى 0.8 نقطة مئوية لمدة شهرين بعد الأزمة، كما ظلت معدلات قروض السيارات وغيرها من القروض الاستهلاكية مرتفعة أيضاً لأشهر عدة، كما حذر التقرير من أنه في حال التعثر الفعلي عن السداد فقد تستمر معدلات البطالة المتزايدة لمدة سنتين إلى أربع سنوات.
وعلاوة على ذلك، تشمل التداعيات المحتملة خفض التصنيف الائتماني من قبل وكالات التصنيف الائتماني، وانخفاض ثقة المستهلك، إذ قدر الاقتصاديون في بنك "غولدمان ساكس" أن التخلف عن سداد الديون من شأنه أن يوقف على الفور عشر النشاط الاقتصادي الأميركي، بينما يشير مركز أبحاث يسار الوسط إلى أن التخلف عن السداد يمكن أن يتسبب في خسارة ثلاثة ملايين وظيفة بشكل سريع، إضافة إلى 130 ألف دولار كلفة متوسط الرهن العقاري، ورفع أسعار الفائدة بما يكفي لزيادة الدين القومي بمقدار 850 مليار دولار، كما يمكن أن تؤدي أسعار الفائدة المرتفعة إلى تحويل أموال دافعي الضرائب في المستقبل بعيداً من الاستثمارات الفيدرالية التي تشتد الحاجة إليها في مجالات مثل البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية.
هل تتأثر الدول والأسواق الأخرى؟
يقول الخبراء إن تخلف الولايات المتحدة عن السداد قد يعيث فساداً في الأسواق المالية العالمية، والسبب في ذلك أن الثقة والجدارة الائتمانية لسندات الخزانة الأميركية ظلت تعزز الطلب على الدولار الأميركي منذ فترة طويلة، مما أسهم في دعم قيمته ومكانته كعملة احتياطية أولى في العالم، ولهذا قد يؤدي أي ضرر للثقة في الاقتصاد الأميركي، سواء بسبب التخلف عن السداد أو عدم اليقين المحيط به، إلى بيع المستثمرين سندات الخزانة الأميركية بالتالي إضعاف الدولار.
ولأن أكثر من نصف احتياطيات العملات الأجنبية في العالم هي بالدولار الأميركي، فإن الانخفاض المفاجئ في قيمة العملة الخضراء يمكن أن ينتشر في سوق سندات الخزانة مع انخفاض قيمة هذه الاحتياطيات، وفي حين تكافح البلدان المنخفضة الدخل المثقلة بالديون من أجل سداد مدفوعات الفائدة على ديونها السيادية، فمن المحتمل بقوة أن يؤدي ضعف الدولار إلى جعل الديون المقومة بعملات أخرى أكثر كلفة ويهدد بدفع بعض الاقتصادات الناشئة إلى أزمات ديون.
على رغم أن العديد من المصدرين الأميركيين قد يستفيدون من انخفاض قيمة الدولار لأنه سيزيد الطلب الأجنبي على سلعهم عن طريق جعلها أرخص، فإن الشركات نفسها ستتحمل أيضاً كلفة اقتراض أعلى مع ارتفاع أسعار الفائدة، وإذا كان عدم استقرار الدولار يمكن أن يفيد منافسين طموحين من القوى العظمى مثل الصين، فإن "الرينمينبي" الذي سعت بكين منذ فترة طويلة إلى جعله عملة احتياطية عالمية، لا يمثل سوى أقل من ثلاثة في المئة من الاحتياطيات الأجنبية في العالم، كما أن الصين ستتأثر بشدة من انخفاض الطلب على مشتريات منتجاتها في السوق الأميركية التي تعد ثاني أكبر سوق عالمية لها.
هل من خيارات إذا لم يرفع السقف؟
لم يفشل "الكونغرس" أبداً في رفع سقف الدين قبل استنفاد الإجراءات الاستثنائية التي تقوم بها وزارة الخزانة، لكن إذا لم يتخذ إجراءات لرفع حد الدين، فسيتعين عليه خفض الإنفاق الفيدرالي أو أن يلجأ إلى رفع الضرائب بشكل كبير أو بإجراء مزيج من الخيارين، غير أن غالبية الخبراء الاقتصاديين يعتبرون أن خفض الإنفاق الفيدرالي وزيادة الإيرادات الضريبية بما يكفي لتغطية المدفوعات المطلوبة للحكومة الفيدرالية الأميركية، يمكن أن يستغرق أكثر من عقد من الزمان، بينما قد تكون المآزق الطويلة في شأن سقف الديون كافية لزعزعة ثقة المستثمرين، ولهذا حذرت وزارة الخزانة من أن سياسة حافة الهاوية التي تولد احتمال التخلف عن السداد يمكن أن تكون مدمرة للأسواق المالية والشركات والعائلات الأميركية.
وفيما يبدو كثيرون من أعضاء "الكونغرس" الجمهوريين قلقين من أن العجز المتزايد في الميزانية يهدد الاقتصاد الأميركي، وسعوا إلى تقليص الإنفاق بمفاوضات سقف الديون، يرى كثر من الاقتصاديين وصانعي السياسة أن سقف الدين الفيدرالي هو لعنة لسياسة مالية سليمة، قائلين إنه من غير الحكمة تثبيط قدرة الحكومة على الوفاء بالالتزامات المالية التي تم تشريعها بالفعل، كما جادلت وزيرة الخزانة بأن سقف الدين ضار بطبيعته بالاقتصاد الأميركي، لأنه يعمل على تقييد الاقتراض الذي يمول الالتزامات السابقة.
ويوافق روجر فيرجسون المتخصص الاقتصادي في مجلس العلاقات الخارجية على أنه ينبغي على "الكونغرس" إلغاء سقف الدين تماماً، أو في الأقل ربطه بالإنفاق، بحيث يزيد حد الدين تلقائياً كلما تم تمرير مشروع قانون الإنفاق. ويقول فيرجسون "حان الوقت أمام الولايات المتحدة لتترك وراءها هذه الآلية القديمة التي تضع البلاد على حافة التخلف عن السداد كل بضع سنوات".