يحار المرء كيف استطاع فيلم "ياسمين شوكي" تسجيل كل هذه الشهادات الصادمة لأطفال سوريين في سجن للأحداث في ريف دمشق، فالقصص التي التقطها المخرج غسان شميط تخبرنا أن الواقع في سورية تجاوز المخيلة بآلاف الأميال، فما نشاهده منذ الدقيقة الأولى للشريط الوثائقي الطويل (60 دقيقة) ليس إلا جزءاً يسيراً مما وصلت إليه البلاد من عنف مروع بعد نيف و10 سنوات، من حرب دفع فيها الأطفال الضريبة الأكبر من أعمارهم وبراءتهم وسني دراستهم المفقودة.
أنى التفتت الكاميرا في "ياسمين شوكي" تجد وجهاً لطفلة أو طفل يروي أحداثاً مرعبة عن حياته، وكيف وصلت بهما الظروف إلى مراكز الرعاية الاجتماعية ومدارس الجمعيات الخيرية، ومنذ البداية يحاول المخرج شميط ألا يتدخل في إعادة إنتاج الواقع، لكنه يعمل على تنظيمه مع كل لقطة عبر افتتاحية قام بتصويرها على أطراف مدينة جرمانا في ريف دمشق الجنوبي الشرقي.
في هذه الافتتاحية نطل على يوميات عشرات الأطفال الذين تركوا مدراسهم وتفرغوا للعمل في جمع عبوات البلاستيك الفارغة من حاويات القمامة، فيما يعمل آخرون كحمّالين مياومين في سوق الخضراوات وفي أفران للخبز وورش للبناء لقاء أقل من 4 آلاف ليرة سورية في اليوم، وهو ما يعادل أقل من نصف دولار.
وحل وبرد وعتمة
تمر الكاميرا بعدها سريعاً على بيوت ملطخة بالوحل يحتلها البرد والعتمة لنطل من داخلها على واقع عائلات نازحة من أرياف حلب ودير الزور والرقة ودرعا، إذ يعمل أطفال هذه الأُسر لسد رمق إخوتهم وأخواتهم وقد هجروا مقاعد الدراسة الى غير رجعة ليتمكنوا من إعالة آبائهم، وهو واقع ينطبق اليوم على آلاف العائلات التي شردتها الحرب وتعيش ظروف لجوء قاسية داخل البلاد، ثم تنتقل الكاميرا إلى سجن أحداث في قدسيا، وهو المكان المخصص لرعاية الجانحين ممن هم دون سن الـ 18 من عمرهم.
رحلة ليست بالهينة تقطعها كاميرا الفيلم (المؤسسة العامة للسينما) بين فتيات يافعات تعرضن لأبشع أنواع الاستغلال الجنسي والجسدي، فيما يروي أترابهم من صبيان يافعين كيف تم تجنيدهم في ميليشيات مسلحة وسوقهم لاتباع دورات عسكرية تعلموا فيها استخدام الأسلحة الرشاشة والقفز من خلال حلقات اللهب، فتلقوا دروساً في التكتيك والقنص وتعرضوا للسجن والتعذيب لقاء تدبر قوت يومهم في كل من مدينة دوما وحرستا في الغوطة الشرقية لريف دمشق.
لقطات متوسطة وقريبة لوجوه الأطفال يروون ما حدث معهم، لكنهم لا يلبثون أن يختنقوا بدموعهم وهم يتذكرون ما حل بهم حتى على أيدي آبائهم وأمهاتهم.
تروي تالة (12عاماً) كيف حاول أبوها الاعتداء عليها، ومن ثم كيف هربت من البيت لتتعرف على شلة من أطفال الشوارع الذين علموها التسول ونشل حقائب النساء وشراء الحشيش والـ "كبتاغون" بأثمان المسروقات، وتكمل مرح (16عاماً) حديثها لكاميرا شميط وهي تسرد كيف هربت من بيت والدها ليلاً لتسافر إلى حي الشاطئ في مدينة اللاذقية، وهناك كيف قام أحد الرجال باحتجازها مع فتيات أخريات وقام بإجبارهن على ممارسة الدعارة مع زبائن عراقيين وأردنيين وجنود روس يعملون في "قاعدة حميميم" الحربية المجاورة، وتخبر كيف تمكنت من الهرب إلى دمشق مع شاب على دراجة نارية، لكن مصيرها كان كالمستجير من الرمضاء بالنار، إذ قام الشاب الذي وثقت به باحتجازها هو الآخر في بيت مهجور يستخدمه كمستودع لتخزين الحبوب المخدرة، لينتهي بها المطاف بعد دهم قوات الأمن الجنائي للمكان في سجن الأحداث.
وقائع أليمة
وقائع مروعة ترويها وجوه شاحبة لطفلات سوريات هربن من بيوت ذويهن، إذ تسرد هالة (14عاماً) كيف هربت أيضاً من بيت أهلها بعد أن قامت زوجة أبيها بقتل شقيقتها الصغيرة بمكواة، وكيف قامت بدفنها في حفرة قريبة من مخيم اليرموك. كذلك تستعيد رهام (15عاماً) ظروف فرارها هي الأخرى من ظلم أبيها وضربها وتعذيبها لتهرب مع شاب أوهمها بالحب، لكنها ستلقى مصيراً أكثر قسوة بعد طلب أعمامها الانتقام منها وذبحها بداعي الشرف، مما جعلها إحدى نزيلات دار الرعاية الاجتماعية خوفاً على حياتها من سكاكين ذويها المتربصة بها في الخارج.
كل هذه الأحداث يختمها المخرج مع قصة حلا عامر (12عاماً) الطفلة التي رصدتها مواقع التواصل الاجتماعي قبل ثلاث سنوات عبر مقطع فيديو مصوّر وهي تقوم باستنشاق مواد مشتعلة على ضفة نهر بردى، وكيف رمت حلا بنفسها في مياه نهر بردى حين قام أحد الناشطين بتصويرها وانتزاع كيس "الشعلة" من يديها ورميه في النهر.
حلا التي اشتهرت بلقب "فتاة الشعلة" تعيش اليوم في دار للرعاية الاجتماعية، فقد طردها والدها من البيت في الساعة الثانية فجراً ولم تجد ملاذاً لها سوى الحدائق، وهناك أدمنت استنشاق المواد المشتعلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ينهي غسان شميط تراجيديا الأطفال هذه بلقطات لمدينة ملاهي فارغة من زوارها، إذ تقترب كاميرا مدير التصوير عمار خضور من اللقطة الواسعة إلى أحد الأراجيح الضخمة التي تأخذ شكل عروس تفرد ذراعيها المقطوعتين، وتدور حول نفسها مصدّرة صوت أزيز حاد من مفاصلها الحديدية التي أكلها الصدأ، فلا أطفال هنا يلعبون أو يصعدون إليها في أيام الأعياد، فجلهم أمسى في السجون ومراكز الرعاية الاجتماعية أو بيوت الدعارة التي تعمل على تهريبهم عبر الحدود السورية - اللبنانية، كما تروي شخصيات الفيلم بلسان صغار جعلتهم الحرب فريسة لشبكات الإتجار بالبشر، فيما يعيش آخرون في ظل الخوف والجوع والحرمان ويتم استغلالهم في أعمال لا تناسب غضاضة أكفهم الطرية.
لقطات تعبيرية وأخرى تنتقل بنا مع نقرات خفيفة على آلتي العود والبيانو من تأليف خالد رزق لترافق وجوه الأطفال الرواة، فتظل كخلفية بعيدة لسحناتهم الخائفة من المجهول وابتساماتهم الكسيرة، ثم لا تلبث أن تترك المجال لصمت تخلقه دموع طفل هنا ونشيج طفلة أوصلتها ظروف الحرب إلى ارتكاب جرائم السرقة وتعاطي المخدرات، فانتزعتها من سريرها الدافئ لتلقي بها على مفارق التشرد والتسول والاستعباد الجنسي، ونشاهد خلف هذه المشهدية أبواباً وجنازير وأسرّة مغطاة ببطانيات بلاستيكية من تلك التي توزعها الأمم المتحدة على اللاجئين في فترات الحروب.
تجربة تحسب للمخرج غسان شميط بعد إنجازه لأكثر من فيلم وثائقي في هذا السياق، كان آخرها فيلمه "حكايا من مراكز الإيواء" وسواها من الأفلام ذات النزعة التسجيلية التي كان شميط شرع مع كل من زملائه عمر أميرلاي ومحمد ملص وأسامة محمد بتحقيقها منذ سبعينيات القرن الفائت، وتعود اليوم هذه النوعية من الأشرطة إلى الواجهة بعد غياب لتكون بمثابة سينما مغايرة لتوجهات أفلام روائية غالباً ما يحاول مخرجوها تجميل الواقع بحجة الخوف من الرقابة وعدم رغبتهم في نشر الغسيل المتسخ على الملأ.