مع أول أيام 2023، رسمت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغيفا صورة قاتمة عن الاقتصاد العالمي في العام الجديد، الذي كان يأمل الجميع أن يمثل فرصة للتعافي مما شهدته السنة الماضية من أزمات.
أزمات 2022 الناتجة من تداعيات الحرب الروسية ضد أوكرانيا وما خلفته من مشكلات اقتصادية، وقبلها توابع الركود الناتج من جائحة كورونا، أدت إلى احتجاجات بمناطق متفرقة حول العالم قد يتسع نطاقها طالما أن الاقتصاد العالمي على حاله من الكساد، بل ربما يتدهور بحسب خبراء ومنظمات دولية.
شهد عام 2022 الحرب في أوكرانيا وما نتج عنها من فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، مما أدى إلى رفع أسعار المحروقات والغذاء إلى مستويات قياسية، وخلق اضطرابات بسلاسل التوريد، وانعكس ذلك ارتفاعاً في نسب التضخم، واضطرت البنوك إلى زيادة أسعار الفائدة، مما عمق مشكلات الاقتصاد العالمي.
2023 أو "العام الصعب"، بحسب تعبير غورغيفا، سيشهد دخول ثلث الاقتصاد العالمي في ركود، لأن الاقتصادات الرئيسة الثلاثة بأميركا والصين وأوروبا تتباطأ جميعاً في الوقت ذاته، فيما وضع الدول الناشئة أسوأ.
مرحلة ركود
توقع تقرير لـ"دويتشه بنك" الألماني أن 2023 سيكون ثالث أسوأ عام بالنسبة إلى نمو الاقتصاد العالمي في هذا القرن، بعد الأزمة الاقتصادية 2009، ثم الركود الكبير الذي تسببت به جائحة كورونا 2020.
وتوقع خبراء البنك أن الاقتصادات الكبرى، وضمنها الأميركي والأوروبي والبريطاني، ستدخل مرحلة ركود في هذا العام بما أن البنوك المركزية تستمر في رفع أسعار الفائدة بهدف محاولة التحكم في أسعار الخدمات والبضائع الأساسية.
فيما دخل الاقتصاد الأوروبي مسبقاً في أزمة كبيرة بسبب نقص إمدادات الطاقة إثر محاولة الاستغناء عن سوق الطاقة الروسية، التي كانت مصدراً لنحو 40 في المئة من إمدادات الغاز والنفط للدول الأوروبية قبل الحرب الأوكرانية. وأشار خبراء من معهد المالية الدولي إلى أن مصير الحرب في أوكرانيا سيحدد مدى خطورة التضخم.
يذهب بعض التقديرات المتفائلة إلى أن الركود سيكون قصير الأجل، وأنه قد يمكن للبنوك التحكم أكثر وبدء التعافي للاقتصاد العالمي في أواخر 2023، وفق خبراء من مؤسسة "كابيتال إيكونوميكس" الاستشارية البريطانية.
كما يتوقع أن تبقى معدلات ارتفاع الأسعار في الحدود المعتدلة، وسط ضعف الطلب العالمي وترقب هبوط أسعار الطاقة وانخفاض كلف الشحن، إلا أنه في النهاية ستظل نسب التضخم أعلى من المستويات المستهدفة من البنوك المركزية، مما سيبقى على أسعار الفائدة المرتفعة ويفاقم أزمة الديون العالمية.
أمر مقلق
بدورها، توقعت الأمم المتحدة أن يتباطأ نمو الناتج العالمي من ثلاثة في المئة عام 2022 إلى 1.9 في المئة عام 2023، وهو أحد أدنى معدلات النمو خلال العقود الأخيرة.
وذكر تقرير للمنظمة عن آفاق الوضع الاقتصادي العالمي لعام 2023 أنه من المتوقع أن يرتفع النمو عام 2024 إلى 2.7 في المئة، لكن التقرير ربط ذلك التحسن بمزيد من التشديد النقدي، ومسار الحرب في أوكرانيا وعواقبها، وإمكانية حدوث مزيد من الاضطرابات بسلاسل التوريد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضمن التقرير إعراب وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية لي جونهوا عن القلق تجاه التوقعات على المدى القريب، قائلاً "نواجه عاماً رابعاً من الجائحة، وحرباً استمرت قرابة العام في أوكرانيا، واشتداد حالة الطوارئ المناخية، وقد أدت هذه الأزمات المتداخلة بالفعل إلى تباطؤ النمو، وتفاقم الفقر والجوع، وتهديد أمن الطاقة، وإطلاق العنان للضغوط التضخمية، كما أدت إلى أزمة الديون، على خلفية هذا تبدو التوقعات الاقتصادية على المدى القريب مدعاة للقلق".
ووفقاً للتقرير، فإن تباطؤ النمو إلى جانب ارتفاع التضخم والديون يهدد بمزيد من التراجع عن "الإنجازات التي تم تحقيقها بشق الأنفس" في التنمية المستدامة، مما يعمق الآثار السلبية بالفعل للأزمات الحالية، مضيفاً أن عدد الأشخاص الذين يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد قد تضاعف عام 2022 مقارنة بفترة ما قبل الجائحة، إذ وصل إلى ما يقرب من 350 مليون شخص.
وقال التقرير إن فترة طويلة من الضعف الاقتصادي وبطء نمو الدخل لن تعوق القضاء على الفقر فحسب، بل ستحد أيضاً من قدرة البلدان على الاستثمار في أهداف التنمية المستدامة على نطاق أوسع.
لا للتقشف
لكن التوقعات المتشائمة للنمو في 2023 يجب ألا تؤدي إلى "تفكير قصير الأجل أو تقشف مالي متسرع"، بحسب الأمم المتحدة التي ترى أن قرارات مماثلة قد تهدد أهداف التنمية و"تزيد المعاناة"، وفق بيان للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.
ومن المقرر أن تعقد في وقت لاحق من هذا العام قمة بنيويورك لتقييم التقدم المحرز في تحقيق أهداف التنمية التي أشار إليها غوتيريش، ومن بينها تحقيق الأمن الغذائي، والقضاء على الفقر، لكن كثيراً منها يبدو بعيد المنال.
وأوصى "تقرير الأمم المتحدة للحالة والتوقعات الاقتصادية لعام 2023" بإعادة تخصيص وترتيب أولويات النفقات العامة، عبر تدخلات سياسية مباشرة من شأنها خلق فرص العمل وتنشيط النمو، مما يتطلب تعزيز أنظمة الحماية الاجتماعية، وضمان استمرار الدعم من خلال الإعانات الموجهة والموقتة، والتحويلات النقدية، والخصومات على فواتير الخدمات، والتي يمكن استكمالها بتخفيضات في ضرائب الاستهلاك أو الرسوم الجمركية.
وعلى رغم أنه من المعتاد أن يدعو الاقتصاديون الحكومات إلى خفض الإنفاق، فإن المشرف على التقرير الأممي حميد رشيد يرى أن "شد الأحزمة" والتقشف هو آخر ما يجب أن تفعله الحكومات، خصوصاً في الدول النامية، مؤكداً أن ذلك سيكون ضاراً للغاية بأهداف التنمية.
التوترات الاجتماعية
إلا أن القلق من تأثر الوضع الاجتماعي يبدو أنه امتد أيضاً إلى المؤسسات الاقتصادية، إذ أشارت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي إلى أن 2023 قد يشهد "توتراً اجتماعياً على المستوى العالمي"، بينما لم يظهر بعد تأثير السياسات المالية الجديدة على التوظيف.
وقالت غورغيفا، عبر تصريحات صحافية قبل أسبوعين، "لدينا الآن (نماذج للتوترات الاجتماعية) في البرازيل وبيرو وبوليفيا وكولومبيا وبريطانيا، كل ذلك لأسباب مختلفة، لكن مع توترات اجتماعية واضحة جداً".
ولفتت إلى أنه إذا كان ارتفاع أسعار الفائدة سيؤثر في نهاية المطاف في أسواق العمل، فقد يؤدي ذلك إلى توترات إضافية، معتبرة أن "الوضع لن يتحسن قريباً بسبب التضخم".
وأشارت إلى أن أسواق العمل الوطنية "أثبتت مقاومتها" لتداعيات التباطؤ الاقتصادي، وعزت ذلك إلى "تحرك الحكومات بسرعة لتوفير الدعم المالي للسكان في مواجهة ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة"، لكنها حذرت من أن "المساحة المتاحة تتقلص".
ولفتت غورغيفا إلى أن تأثير رفع معدلات الفائدة سيكون قاسياً على الدول المدينة وسيؤدي إلى صعوبات كبيرة للسكان، وذلك بعد أشهر من تحذيرات مؤسستها من خطر تحول نحو 60 في المئة من البلدان الناشئة والنامية إلى بلدان تعاني أزمات ديون سيادية.
تظاهرات أوروبية
خلال العام الماضي، أثارت الأوضاع الاقتصادية المتردية اضطرابات اجتماعية وسياسية بعديد من دول العالم، ففي أوروبا خرجت موجة من الاحتجاجات والإضرابات، بعد أن شهدت معظم دول القارة ارتفاعاً لفواتير الطاقة وأسعار المواد الغذائية، وعلى رغم انخفاض أسعار الغاز الطبيعي من الارتفاع القياسي خلال الصيف، ودعم الحكومات الأسر ورجال الأعمال، فإن ذلك لم يكن كافياً لبعض المحتجين، وفق مركز الأبحاث "بروغل" ومقره بروكسل.
أدى ارتفاع سعر الطاقة إلى زيادة نسبة التضخم في 19 بلداً داخل منطقة اليورو إلى مستوى 9.9 في المئة، ووجدوا في النزول للشارع الحل الوحيد للتعبير عن غضبهم، ففي فرنسا خرجت تظاهرات مطالبة بزيادة الأجور بما يتناسب ونسبة التضخم، واحتج آلاف الرومانيين في بوخارست على كلفة الطاقة والغذاء ومواد أساسية أخرى، دفعت بحسب المنظمين ملايين العمال إلى الفقر.
كما شهدت بريطانيا على مدى الأشهر الماضية إضرابات متلاحقة لعمال السكك الحديدية وأطقم التمريض والمعلمين وغيرهم، مطالبين برفع الأجور بما يتناسب ونسبة التضخم، التي بلغت أعلى مستوياتها خلال أربعة عقود عند 10.1 في المئة.
وإثر الوضع الاقتصادي المتردي ظهرت تقارير إعلامية عن حالات سرقة بالإكراه وسطو مسلح على المنازل والمحال التجارية، مما دفع الشرطة البريطانية إلى رفع درجة الاستعداد القصوى لمواجهة تلك الجرائم.
وقال المفتش العام للشرطة البريطانية أندي كوك إن تأثير الفقر وتراجع فرص العمل وارتفاع كلف المعيشة سيؤدي إلى ارتفاع الجريمة، مما يعني مزيداً من الضغط على رجال الشرطة الذين سيكون عليهم تطبيق صلاحياتهم لكن من دون تشدد.
احتجاجات متفرقة
بعيداً من القارة الأوروبية، أدى انهيار العملة المحلية وارتفاع الأسعار في سريلانكا، إثر تسارع وتيرة التضخم والتخلف عن سداد الدين الخارجي، إلى تظاهرات حاشدة الصيف الماضي، مما تسبب بإطاحة الرئيس غوتابايا راجاباكسا، واقتحام الآلاف من المتظاهرين المقر الرسمي للرئيس ومكتبه.
كذلك شهدت الإكوادور في يونيو (حزيران) الماضي تظاهرات حاشدة رفعت مطالب كبح غلاء المواد الأساسية، بما في ذلك المحروقات، ووقف عديد من مشروعات التعدين والمشروعات النفطية، وإتاحة مزيد من الوقت للمزارعين الصغار لسداد القروض المستحقة للبنوك.
كما احتشد الآلاف بعاصمة الأرجنتين بوينس آيرس، في أغسطس (آب) الماضي، لمطالبة الحكومة بزيادة الأجور وإعانات البطالة في مواجهة زيادات حادة طالت أسعار المستهلكين وضعف العملة المحلية (البيزو)، في ظل ارتفاع نسبة الفقر إلى 40 في المئة من السكان، ووصول التضخم إلى نحو 70 في المائة.
وعلى الصعيد العربي، شهد الأردن احتجاجات على قرارات متتالية برفع أسعار البنزين خلال الأشهر الأخيرة من 2022، لكن الملك عبدالله الثاني أحبط الدعوة إلى احتجاجات جديدة من خلال توجيه الحكومة بوقف تحصيل الضريبة على وقود الكيروسين مطلع هذا العام.
وحمل تقرير تقييم الأخطار العالمية الصادر عن منتدى الاقتصاد العالمي تحذيراً من أنه في حال عدم احتواء الاضطرابات الاجتماعية وغياب الاستقرار السياسي المرتبط بالتداعيات الاقتصادية في الأسواق الناشئة ستستمر الضغوط الاقتصادية وإحباط المواطنين من ضعف وتيرة التنمية، وهو ما سيعد لاحقاً تحدياً وجودياً للأنظمة السياسية في العالم.