بدأت الولايات المتحدة منذ، أول من أمس الثلاثاء، احتفالها السنوي بـ"شهر تاريخ السود" الذي بدأ عام 1926 لاستذكار تضحيات الأميركيين من أصول أفريقية، في سبيل القضاء على العبودية وإرساء المساواة.
وتأتي ذكرى الاحتفال السنوي وسط مراجعات فكرية لم تخلُ من جدل، منها ما يتعلق بإزالة تماثيل رؤساء وشخصيات مؤثرة بحجة تاريخهم العنصري أو علاقتهم بتجارة الرق، وسط دعوات البعض لإسقاط تلك التماثيل تنديداً بمواقف أصحابها، ورفض آخرين لذلك حماية للتاريخ.
إسقاط التماثيل
عام 2020، وفي أعقاب اشتعال التظاهرات المنددة بمقتل الأميركي من أصل أفريقي جورج فلويد على يد الشرطة، تعالت الأصوات المنادية بالقضاء على معالم تاريخية لشخصيات ارتبط تاريخها بالعنصرية.
في غمرة الاحتجاجات، أدرك المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي في نيويورك فجأة أن تمثال الرئيس الراحل ثيودور روزفلت الذي ظل نحو 80 عاماً أمام مدخل المتحف العريق، ليس سوى تجسيد مرفوض وبائد لتسلسل هرمي مبني على العرق، كونه يظهر الرجل الأبيض، روزفلت ممتطياً صهوة حصانه، بينما يمشي خلفه رجلان، أفريقي وأميركي من السكان الأصليين.
وبعد عام ونصف العام من مقترح المتحف للتخلص من التمثال، أزيل العمل ذو الثمانية عقود في مستهل العام الماضي، وأرسل إلى داكوتا الشمالية ليستقر في مكتبة روزفلت، بعد موافقة مدينة نيويورك المالكة للمبنى وممتلكاته على إعارته. وقالت رئيسة المتحف إيلين فيتر، إن القرار اتخذ بناء على ما يجسده التمثال من "تكوين هرمي" للأعراق، لا بناء على شخصية روزفلت الذي ما زال المتحف يقدره باعتباره رائداً في مجال المحافظة على البيئة.
لكن روزفلت ليس الوحيد الذي تلاحق آثاره، فتماثيل توماس جيفرسون الرئيس الثالث للولايات المتحدة وأحد آبائها المؤسسين، ما زالت محل جدل بسبب ماضيه الاستعبادي. ففي عام 2021، قرر أعضاء مجلس مدينة نيويورك إزالة تمثال جيفرسون من مقر المجلس بعد سكنه هناك 187 عاماً، ضمن حملة ضد ما يعتبره نشطاء "تماثيل الكراهية" المسيئة للأقليات، وتحديداً الأميركيين من أصول أفريقية. واكتسبت الحملة زخماً كبيراً بعد الاحتجاجات التي عمت الولايات المتحدة عام 2020 بعد مقتل فلويد.
ودافع المنادون بإزالة تمثال جيفرسون عن موقفهم مشيرين إلى استعباده أكثر من 600 شخص خلال حياته، وإقامته علاقة جنسية مع المستعبدة سالي هيمنغز وعمرها 14 عاماً، أسفرت عن إنجابه أطفالها الستة. وفيما تظل هذه القضية محل خلاف وجدل تاريخيين، إلا أنها تبين مواقف المطالبين بالتخلص بتماثيل شخصيات لعبت دوراً محورياً في تشكيل أميركا وبناء أسسها الدستورية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التخريب والعنف
لكن ما يجعل مسألة إزالة النصب التذكارية جدلية ليس فقط الخلاف حول روايات التاريخ، بل الطريقة التي يسلكها بعض المطالبين بالتخلص من هذه الآثار التاريخية، وما يصحبها من عنف أو تخريب. على سبيل المثال، أخرج تمثال جيفرسون من مقر مجلس مدينة نيويورك بعد تصويت وإجماع الأعضاء ومن دون تخريبه، إذ نقل إلى متحف جمعية نيويورك التاريخية في إعارة طويلة الأجل.
لكن العنف كان سيد المشهد في حالات أخرى ومنها تدمير متظاهرين في ولاية أوريغون ثلاثة تماثيل لرؤساء أميركيين هم: أبراهام لنكولن وثيودور روزفلت وجورج واشنطن. وفي خضم التظاهرات المستنكرة لوحشية الشرطة واستهدافهم السود عام 2020، أسقط تمثالان لكريستوفر كولومبوس في أسبوع واحد، ففي ولاية مينيسوتا، شوهد عشرات المحتجين يقودهم أحد الناشطين من الأميركيين الأصليين يسقطون تمثالاً للمستكشف الإيطالي مصنوعاً من البرونز، من أمام مبنى برلمان الولاية. وسبقهم محتجون في ولاية فرجينيا، أسقطوا نصباً آخر لكولومبوس في إحدى حدائق الولاية، وألقوا به في بحيرة.
وفيما يعترض الناشطون من الأميركيين الأصليين على تكريم كولومبوس، قائلين إن حملاته في الأميركتين أدت إلى الاستعمار والإبادة التي تعرض لها أسلافهم، يعترض آخرون على إزالة معالمه الأثرية، لأهميته التاريخية باعتباره الشخص الذي بدأ رحلات الاستكشاف الأوروبية للأميركتين، وبوصفه شخصية محبوبة ومقدرة لدى كثير من الأميركيين الإيطاليين الذين ما زالوا يجلون إرثه، وينظرون له كرمز لتراثهم الثقافي ومساهمتهم في التاريخ الأميركي.
محو التاريخ
في خضم المطالب المنادية بالقضاء على رموز تعود لعهد الولايات الكونفيدرالية التي رفضت تحرير العبيد، اتخذ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب موقفاً مناوئاً من تلك المطالب. وقال بعد تحطيم متظاهرين تمثالاً لكولومبوس بالقرب من العاصمة واشنطن، "لن نسمح أبداً للغوغاء الغاضبين بتحطيم تماثيلنا أو محو تاريخنا أو تلقين أطفالنا أو سحق حرياتنا". وأكد ترمب قائلاً، "سنقاتل معاً من أجل الحلم الأميركي وسندافع عنه من أجل حماية نمط الحياة الأميركي والحفاظ عليه، الذي بدأ في عام 1492، عندما اكتشف كولومبوس أميركا".
وبعد أن أبدت وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون" استعدادها للنظر في إزالة أسماء جنرالات كونفيدراليين من قواعد عسكرية أميركية، أعلن ترمب رفضه القاطع لهذه الخطوة. وقال، "البعض اقترح إعادة تسمية ما يصل إلى 10 من قواعدنا العسكرية الأسطورية. هذه القواعد العسكرية أصبحت الآن جزءاً من التراث الأميركي العظيم"، مشدداً على أن إدارته "لن تنظر في هذا الاحتمال". وختم ترمب قائلاً، "احترموا جيشنا".
وتقع القواعد العسكرية الـ10 التي يطالب الناشطون الحقوقيون تغيير أسمائها، في جنوب الولايات المتحدة، وتحمل أسماء قادة عسكريين جنوبيين قاتلوا ضد الشمال خلال الحرب الأهلية، وكان معظمهم مدافعين شرسين عن نظام الرقيق.
ويعارض المحافظون إزالة هذه المعالم التاريخية لأنها قد تفتح المجال للنبش في تاريخ كل رمز أميركي ومحو تاريخه بمجرد العثور على محطات مظلمة في سيرته. ولذلك عندما دافع ترمب عن موقفه، تساءل عن الحدود التي سيلتزم بها النشطاء المنادون بالإزالة، مشيراً إلى أن دعوات إسقاط التماثيل ربما لن تتوقف حتى تصل إلى جورج واشنطن، فتوماس جيفرسون، وهكذا دواليك.
وأكدت المؤرخة وكاتبة سيرة جيفرسون. آنيت غوردون ريد أهمية تعريف الناس بالقصة الكاملة للآباء المؤسسين، لكنها قالت إن إزالة النصبين التذكاريين لواشنطن وجيفرسون "لا معنى له"، نظراً إلى الدور المحوري الذي لعباه في تأسيس الولايات المتحدة.
وفي عام 2020، وقع أكثر من ثلاثة آلاف طالب في جامعة ميسوري على عريضة تطالب بإزالة تمثال جيفرسون، فإن الجامعة لم تذعن للمطالب. وقال رئيس الجامعة مون تشوي إنه وبعد مشاورات كثيرة مع القائمين، قررت الجامعة عدم إزالة تمثال جيفرسون، لأنه يعتبر شخصية تاريخية، "ونحن لا نزيل التاريخ"، على حد تعبيره.
وبحسب تحليل مشترك لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وصحيفة "واشنطن بوست" نشر في عام 2021، أزيل ما لا يقل عن 40 معلماً أثرياً مرتبطاً بكولومبوس منذ عام 2018. ولا تمثل عمليات الإزالة التي حدث معظمها في عامي 2020 و2021، سوى جزء يسير من أكثر من 130 عملية ما زالت قائمة.
وبحسب تحليل لمعهد ماساشوستس وFeminism Lab، هناك أكثر من ستة آلاف إشارة عامة إلى المكتشف الإيطالي في جميع أنحاء البلاد، من دون حساب الشركات الخاصة، إذ يطلق اسم كولومبوس على الكنائس والمدارس والمباني البلدية والطرق والأنهار والجبال، ويتم إحياء ذكراه في كل ولاية باستثناء هاواي.
نصب مضادة
وبينما تسقط تماثيل بحجة العنصرية، ترفع أخرى لاستذكار الكفاح ضدها، وآخرها تمثال زعيم حركة الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ الذي دشن له نصب تذكاري من تصميم ويلس توماس في بوسطن منتصف الشهر الماضي، إلا أن التدشين رافقه بعض السخرية من التمثال الذي يظهر كينغ وزوجته يتعانقان، إذ استنكر نقاد اختزال جسدي الشخصيتين وعدم إظهارهما كاملين. وقال سينيكا سكوت، ابن عم زوجة كينغ، إن التمثال كان "مهيناً" لعائلته.
من جهة أخرى، دافع نجل كينغ عن التمثال البالغ قيمته 10 ملايين دولار. وقال إنه أعجب بالعمل، معرباً عن رضاه. وأضاف، على الرغم من أن المنحوتة "لا تظهر صور أمي وأبي، لكنها تمثل شيئاً يجمع الناس... وفي هذا الوقت، وفي ظل وجود كثير من الانقسامات، نحتاج إلى رموز توحد الناس".
وفي يوليو الماضي، حل تمثال لـماري ماكليود بيثون الناشطة في مجال الحقوق المدنية، مكان منحوتة جنرال كونفيدرالي في مقر الكونغرس الأميركي في واشنطن. وأصبحت بيثون التي اشتهرت بفتحها مدرسة خاصة للطلاب الأميركيين من أصول أفريقية وقيادتها حملات تسجيل الناخبين بعد انتزع النساء حق التصويت في عام 1920، أول شخصية سوداء يصنع لها بأمر الدولة تمثالاً.
تحقيق المساواة
وبالتزامن مع دخول "شهر تاريخ السود"، قال الرئيس بايدن إن "جزءاً من الاحتفال بإرث الأميركيين السود يعني الاعتراف بأن أميركا لم تف بوعدها بتحقيق المساواة بين الجميع". وأشار بايدن في بيان، الثلاثاء الماضي، إلى التحديات التي واجهت الأميركيين السود، ونضالهم من أجل "الحرية والمساواة في المعاملة والحق في التصويت، وتكافؤ الفرص في التعليم والسكن والعمل"، قائلاً إن نضال الأميركيين السود لم ينعكس على أحوالهم فحسب، بل ساعد في تسهيل أوضاع ملايين النساء والمهاجرين وأبناء المجتمعات المهمشة تاريخياً.
وأقر بايدن بأن الأميركيين من أصل أفريقي ما زالوا يواجهون التمييز في كل مؤسسة تقريباً ومنها المدارس، حيث يحصل الطلاب السود على موارد وفرص أقل مقارنة بنظرائهم البيض، متعهداً أن تعمل إدارته على معالجة هذه "الفوارق طويلة الأمد التي تعرقل تقدم المجتمعات السوداء".
ووفقاً لوزارة الخزانة، لدى الأسر البيضاء معدلات تملك منازل أعلى بما لا يقل عن 10 نقاط مئوية من الأسر ذات الأصول السوداء والهسبانية، كما يواجه الأميركيون السود أيضاً تفاوتاً في الأجور، إذ يجني العامل الأبيض النموذجي في الساعة أكثر من 24 في المئة مقارنة بنظيره الأسود، وفقاً لتقرير معهد السياسة الاقتصادية الصادر عام 2019.