عادت روسيا لتحتفل بأمجادها، وما شهده الماضي القريب من انتصارات حملتها إلى مصاف الدول العظمى، وكانت تصارع عتاة القوى الغربية دفاعاً ليس فقط عن وجودها، بل وعما كانت تحاول نشره من أفكار وأيديولوجية لم تكن تدري أنها سرعان ما ستعود وتتخلى عنها مع نهاية القرن الماضي.
وها هي وبعد احتفالاتها بالذكرى 350 لميلاد بطرس الأول مؤسسها وباني نهضتها الحديثة، تعود لتتذكر أحد أبهى انتصاراتها ضد جحافل النازية في معركة ستالينغراد، التي استمرت لما يزيد على 200 يوم، لتكون نقطة الانعطاف المحورية صوب إحدى أهم أحقابها التاريخية.
وإذا كانت روسيا اتخذت قرارها حول الصمود ومقاومة حصار الـ900 يوم في مدينة "لينينغراد" مهد الثورة بما تحمله من اسم زعيم الثورة الاشتراكية لينين، فإنها عادت لتقبل التحدي والمواجهة المباشرة مع قوات ألمانيا الهتلرية بمدينة "ستالينغراد"، التي تحمل اسم زعيم الدولة ستالين استعداداً لما بعد تحرير كامل الأراضي السوفياتية.
تحول نوعي
في تحول نوعي مغاير لما سبق وانتهجته القوات الهتلرية المدعومة بقوات جمهوريات أوروبا الشرقية المحتلة، ومنها بولندا وبلغاريا ورومانيا، من تكتيك واستراتيجية الزحف صوب محوري ستالينغراد من جانب، والقوقاز من الجانب الآخر، هاجمت مدينة ستالينغراد قرابة 400 طائرة ألمانية بوابل من القنابل الحارقة وشديدة الانفجار.
وأسفر الهجوم في يوم واحد عن مقتل ما يزيد على 90 ألفاً من العسكريين والمدنيين، لتكون مقدمة لمئات الآلاف من الضحايا الذين سقطوا خلال الـ200 يوم، وبلغ عددها ما يقرب من المليونين من الجانبين السوفياتي والألماني ومعهم الآلاف من جنود بلدان أوروبا الشرقية التي كانت ألمانيا احتلتها خلال الأشهر الأولى من بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939.
لكن ذلك هو ما زاد من تصميم "القيادة العليا" على الصمود إلى ما هو أبعد، فلم يكن تسليم المدينة التي كانت تحمل اسم زعيم الدولة ستالين يعني سوى الطامة الكبرى، وكارثة ضياع الجناح الجنوبي للدولة السوفياتية بكل ما يزخر به من ثروات طبيعية ومكامن النفط، فضلاً عن قطع الاتصالات مع بقية ربوع الدولة السوفياتية.
من هنا انطلق النداء التاريخي "لا خطوة واحدة إلى الوراء" استجابة إلى الأمر الصادر تحت رقم 227 بتفسيراته التي تقول "إن التراجع أكثر يعني الانتحار، ودمار الوطن الأم".
وعلى الرغم من نجاح القوات الهتلرية في اختراق خطوط الدفاع واحتلال مشارف المدينة، فإن ذلك لم يسفر سوى عن مزيد من ضروب البسالة والتصميم الذي سرعان ما أتى ثماره، استسلام وأسر الفيلد مارشال باولوس قائد القوات الألمانية ومعه 91 ألفاً من الجنود وما يقرب من 2500 ضابط منهم 24 برتبة لواء.
"معارك الشوارع"
كان القتال يدور ليلاً ونهاراً من شارع إلى آخر، ومن بيت إلى ثان، في أكبر "معارك الشوارع"، على مر التاريخ، كان الجانبان يتنازعان ويتبادلان خلالها السيطرة على المنزل الواحد على مدى أيام طوال.
"200 يوم في اللهيب"، هو العنوان الذي اختاره عدد من أبطال معركة ستالينغراد لكتاب حمل بين دفتيه ذكريات ومذكرات عدد من أبطال هذه المعركة ومنهم المارشال ألكسندر فاسيليفسكي، شرفنا بترجمته في مطلع سبعينيات القرن الماضي.
"ما يقرب من ستة أشهر ونصف الشهر استمرت المعارك داخل المدينة وما حولها بمشاركة ما يزيد على مليوني مقاتل من الجانبين، وما يقرب من ألفي دبابة، و26 ألفاً من المدافع والهاونات، وزهاء ألفي طائرة"، بحسب تقديرات المارشال فاسيليفسكي.
أبطال المعركة التاريخية
من أبطال هذه المعركة التاريخية المارشال قسطنطين روكوسوفسكي، الذي كتب "في نهاية ديسمبر (كانون الأول)، تم تقديم النسخة الأولى من خطة (كولتسو/ الدائرة)، التي تضمنت التدمير الكامل لمجموعة القوات الألمانية، إلى ستالين وجوكوف (القائد العام للقوات السوفياتية إبان سنوات الحرب العالمية الثانية) للموافقة عليها".
وأضاف "في التاسع من يناير (كانون الثاني) 1943، أرسلنا إلى الألمان إنذاراً نهائياً بالاستسلام لتجنب إراقة الدماء غير الضرورية، لم يجد الاقتراح رداً من الألمان، لقد ردوا بنيران المدفعية على المبعوثين الذين تم إرسالهم، وكما لم يتبق لنا سوى شيء واحد، ألا وهو استخدام القوة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار إلى أنه "في 10 يناير هاجمت سبعة آلاف قطعة مدفعية مواقع النازيين، على مدى الأيام التالية واصل الألمان مقاومة شرسة، التي بسببها في 17 يناير اضطرت القوات السوفياتية إلى وقف الهجوم من أجل إعادة تجميع صفوفها، بدأ هجوم جديد في 22 يناير أسفر عن حصار باولوس وغيره من كبار الضباط بين أنقاض ستالينغراد".
أما الجنرال روديون مالينوفسكي قائد جيش الحرس الثاني، الذي كانت ستالينغراد تابعة له، فقد أشار إلى أنه "تم سحق الاختراق من قبل الدبابات السوفياتية التي داهمت الصفوف الخلفية لفرق الجنرال أريك فون مانشتاين، واستطاعت في ما بعد تدمير نصف مجمل الطائرات التي جرى إرسالها لدعم الجيوش الألمانية، في الوقت الذي رفض فيه هتلر السماح للجنرال باولوس بالتراجع".
لكن ما كشف عنه المارشال جيورجي جوكوف، الذي كان جرى تعيينه نائباً للقائد الأعلى للقوات السوفياتية في نهاية أغسطس (آب) لقيادة الهجوم المضاد بمنطقة ستالينغراد في سبتمبر (أيلول)، ويدين له الاتحاد السوفياتي بكثير مما حققه من انتصارات كانت لاحقاً سبباً في ملاحقته وإعفائه من منصبه من جانب الزعيم السوفياتي الأسبق نيكيتا خروشوف، يمكن أن يكون "نموذجاً" ثمة من يتوقف عنده في الوقت الراهن لاستخلاص الدروس التي يقولون إن روسيا في أشد الحاجة إليها اليوم، وأكثر من ذي قبل.
كان جوكوف تناول في حديث "وثائقي" جرى بثه خلال الأيام القليلة الماضية، بعضاً مما دار بينه وبين الزعيم السوفياتي ستالين ورفيقه فاسيليفسكي آنذاك، من مداولات ومنها ما يتعلق بما حققته المؤسسات الصناعية العسكرية السوفياتية من تطور وإنجازات أسهمت في دعم القوات المسلحة بما تحتاج إليه لتحقيق النصر، وهو ما يفعله الرئيس بوتين ومؤسساته العسكرية الصناعية في الوقت الحاضر لمواجهة ما تصادفه روسيا من ضغوط خارجية.
"هذا ليس سلاماً"
بهذا الصدد يمكن الاستشهاد بما سبق وقاله بوتين عبر مقال نشره في الذكرى الـ75 للنصر في الحرب العالمية الثانية، "أود أن أتذكر مرة أخرى حقيقة واضحة، تنبع الأسباب الجذرية للحرب العالمية الثانية بشكل أساسي من القرارات التي اتخذت بعد الحرب العالمية الأولى، تحولت (معاهدة فرساي) إلى رمز للظلم الشديد لألمانيا، وهذا يعني ضمناً أن البلاد سيتم سلبها، وتجبر على دفع تعويضات هائلة للحلفاء الغربيين الذين استنزفوا اقتصادها، وقدم المارشال الفرنسي فرديناند فوش، الذي شغل منصب القائد الأعلى للحلفاء، وصفاً مقدساً لتلك المعاهدة، بقوله: "هذا ليس سلاماً، إنه هدنة لمدة 20 عاماً".
ولعل ما قاله المارشال فاسيليفسكي في مذكراته التي أشرنا إليها، يمكن أن يكون "إسقاطاً" غير مباشر على ما يجرى اليوم من أحداث، وما تتسم به علاقات روسيا مع شركاء الأمس في الساحة الدولية من توتر وتعقيد.
توقف فاسيليفسكي عندما صادف الاتحاد السوفياتي من عثرات و"إخفاقات" خلال الأشهر الأولى للحرب، ليتحول إلى تعداد الانتصارات التي حققتها القوات السوفياتية بعد معركة موسكو في 1941-1942.
تحدث المارشال السوفياتي عن محاولات انتزاع المبادرة الاستراتيجية بسبب نقص الإمدادات البشرية والأسلحة والذخائر، إلى جانب تعمد الأوساط الحاكمة في الولايات المتحدة وبريطانيا عدم الاستجابة لطلبات ستالين حول فتح "الجبهة الثانية".
قال إن الاتحاد السوفياتي خاض وحده كثيراً من المعارك التي دارت خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية، ضد القوات الهتلرية المدعومة من جانب قوات البلدان الحليفة معها، من دون أي مخاوف يمكن أن تراودها من جانب جيرانها في غرب أوروبا.
توازن القوى
استعرض المارشال السوفياتي توازن القوى ومدى تأثيره، وما أسفر عنه من فشل عمليات القوات السوفياتية في المناطق القريبة من خاركوف ولينينغراد وشبه جزيرة القرم، بما تيسر للعدو معه انتزاع المبادرة الاستراتيجية والتقدم صوب ستالينغراد بكل ما تمثله هذه المدينة من أهمية استراتيجية وصناعية، فضلاً عن كونها من أهم نقاط المواصلات التي تربط "المناطق المركزية للبلاد مع مناطق القوقاز، وهو ما كان لا بد أن يحدد سير الحرب الوطنية العظمى".
من هنا أيضاً يمكن الإشارة إلى أن معركة ستالينغراد صارت بالنسبة للدولة الروسية رمزاً للصمود، ونموذجاً للبسالة والتضحية ليس فقط دفاعاً عن الوطن، بل وإعلاناً عن مولد الدولة العظمى التي حرص على خطب ودها الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، بما قدماه لاحقاً من تنازلات، سجلتها محاضر جلساتهما في مؤتمري طهران عام 1943، ويالطا في 1945، والرسائل المتبادلة مع الزعيم السوفياتي ستالين.
أدرك الزعيمان الأميركي والبريطاني حتمية التعاون مع الاتحاد السوفياتي بعد سنوات من المماطلة في فتح الجبهة الثانية التي لطالما طالب بها ستالين لمحاولة التخفيف من ضغوط القوات الهتلرية وحلفائها على الاتحاد السوفياتي.
الواقع الحاضر
وفي ذلك أيضاً ما قد يبدو "إسقاطاً" على الواقع الحاضر، الذي تقف فيه روسيا وحدها تقريباً بوجه ما يزيد على 50 دولة تغدق الدعم المالي والعسكري على أوكرانيا، في الوقت نفسه الذي تتعرض فيه لما هو أشبه بحصار وضغوط العقوبات الغربية التي تتوالى منذ اندلاع الأزمة عام 2014.
ومن هذا المنظور كذلك تعود موسكو إلى شهادات ووثائق الماضي التي منها ما ينسبونه إلى كثير من زعماء العالم، ومن هؤلاء الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت الذي قال إن "الانتصار في معركة ستالينغراد أوقف موجة الغزو، وأصبح نقطة تحول في حرب البلدان الحليفة ضد قوى العدوان".
ومن الماضي إلى الحاضر نقول، إن احتفالات موسكو بالذكرى الـ80 لمعركة ستالينغراد، تدعو عملياً إلى التوقف عندما يستعيده المسؤولون من ذكريات أبطال هذه المعركة، ومنها ما قاله الرئيس بوتين في مقاله الشهير بمناسبة الذكرى 75 للنصر على الفاشية "إن إهمال دروس التاريخ يؤدي حتماً إلى ردود فعل قاسية، إننا سنتمسك بالحقيقة على أساس الوثائق التاريخية، وسنواصل الحديث بصدق ونزاهة في شأن أحداث الحرب العالمية الثانية، يتضمن ذلك مشروعاً واسع النطاق لإنشاء أكبر مجموعة من السجلات الأرشيفية ومواد الأفلام والصور الفوتوغرافية الروسية حول تاريخ الحرب العالمية الثانية وفترة ما قبل الحرب".