على مقربة من القصر الرئاسي المطل على #النيل_الأزرق في العاصمة السودانية #الخرطوم ترسو الباخرة "#ملك" وهي تغالب غرقها المحتمل، ومن ثم ضياع أثر وشاهد على حقبة زمنية تعود لأواخر القرن الـ 19، عندما غزت جيوش المملكة المتحدة السودان في عهد #الإمام_المهدي.
وبحسب المؤرخين فإن السفينة تعد واحدة من الأسطول البحري الذي جاء على متنه قائد الجيش الإنجليزي هربرت كتشنر الغازي للبلاد عام 1898، وقصفت منه قبة الإمام المهدي وكان لها دور كبير في حسم معركتي كرري وشمبات لوجود أكثر الأسلحة تطوراً آنذاك على متنها.
مزار سياحي
وتعد "ملك" المصنوعة في إنجلترا أقدم البواخر إبحاراً في نهر النيل، وظلت راسية على شاطئ نادي الزوارق في الخرطوم لأكثر من 21 عاماً، بعد أن غرق لورداتها ومن كانوا على متنها وتحولت إلى مزار يستقبل سنوياً مئات الزوار من باحثين وأجانب للتعرف على تاريخها.
وتتكون السفينة من ثلاثة طوابق، الأول مخصص للجنود وفي مقدمة طابقها الثاني توجد غرفة كتشنر، بينما يتخذ قباطنة السفينة غرفة الطابق الثالث مقراً لهم.
الموظف السابق بنادي الزوارق عمر الطاهر قال إن "الباخرة جاءت عبر حدود السودان الشمالية محملة براً على ظهور الجمال مروراً بكل مدن البلاد حتى وصولها إلى منطقة السبلوقة لتركب قطعها، علماً بأن تصميمها لم يشمل اللحام نهائياً وبالتالي يمكن فكها وتركيبها مرات عدة، كما تحتوي على جميع أسماء الجنود الذين كانوا على متنها وتعاقبوا عليها إبان الحرب".
ويضيف الطاهر "لاحقاً نجت الباخرة من الغرق وجُرت إلى البر بعد أن عجزت الحكومة آنذاك عن انتشال أربع سفن أخريات، ووضعتها إدارة النادي في موقع مميز وتوجد بها غرفة مراقبة إلى جانب مدفعين أمامي وخلفي، وكثيراً ما يأتي أحفاد اللوردات ليستكشفوا تاريخ أجدادهم مع التقاط بعض الصور التذكارية".
إهمال التاريخ
الباخرة التي تمثل كنزاً أثرياً باتت تتقاذفها أمواج الإهمال، وهنا يقول الباحث التاريخي محمد إبراهيم بريكة إن "السودان يتميز بكونه ضمن البلدان الأكثر ثراء من حيث مقتنياته، لكن في المقابل هو أيضاً الأقل خبرة في إدارة المتاحف التي تحفظ تاريخه، فهذه السفينة خدمت الحرب بشكل كبير لأن تصميمها يحتوي على عدد من الطوابق، فضلاً عن حجمها الكبير الذي أعان الجيش البريطاني وكان الأعظم من دون سواه في تلك الفترة، والدليل سيطرته على امتداد المحيط والخليج حتى الهند التي شهدت نهايات اللورد كتشنر القائد الأعلى للحربية".
وتابع بريكة، "خلال السنوات الماضية حاول الإنجليز استعادة ’ملك‘ ونقلها إلى لندن وصيانتها لإيمانهم القاطع بأنها من القطع الأثرية البحرية النادرة، وتكونت جمعية في بريطانيا باسمها من مجموعة لوردات أثرياء وأحفاد جنود شاركوا في حملة هربرت كتشنر، وخاطبت الجمعية السفارة السودانية في لندن لكن الخطوة لم تكتمل حتى الآن".
شواهد أثرية
المدير العام للسياحة الاتحادية في السودان عثمان الإمام محمد الإمام أشار إلى أن الباخرة ’ملك‘ لها قيمة تاريخية في غاية الأهمية وهي من الشواهد الأثرية النادرة، وواحدة من 10 بواخر جهزت لإنقاذ حاكم البلاد غردون باشا إبان الحكم التركي -المصري الذي حاصرت قصره جيوش الأنصار، وقد لقي الجنرال مصرعه قبل وصول هذه البواخر إلى العاصمة الخرطوم، ونجح الأنصار في إغراق إحداها بمنطقة شلال السبلوقة، ولا تزال موجودة وقد نبتت عليها الأشجار والحشائش وأضحت مهبطاً للطيور".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف الإمام "بعد فتح الخرطوم على يد الأنصار ومقتل غردون في الـ 26 من يناير (كانون الثاني) 1885 عادت البواخر الأخرى لمصر ولم تصل الخرطوم، ومنها ’البوردين‘ التي تمثل مزاراً أثرياً وتاريخياً قرب الطابية بأم درمان، وثالثة موجودة في سد مروي شمال السودان، أما بقية البواخر فيقال إنها موجودة في منطقة ربك وسط البلاد، وعقب إعادة السفن الحربية المزودة بالمدافع إلى القاهرة تعالت الأصوات البريطانية تطالب بالثأر من قتلة غردون، فقررت إنجلترا تشكيل حملة كبرى لإسقاط حكومة المهدية في السودان بقيادة كتشنر، وزودت هذه البواخر بالمدافع القاذفة من بعد وعلى رأسها ’ملك‘ التي استهدفت قبة المهدي وأحدثت فيها الخراب".
وضع مزر
ويعلق المدير العام للسياحة على وضع الباخرة قائلاً إن "’ملك‘ قابعة الآن في حال يرثى لها، وهي تحكي عن مدى الإهمال لأثر تاريخي نادر وشاهد على حقبة مهمة، ومضى عليها 34 عاماً منذ أن قذف بها فيضان عام 1988 إلى شاطئ النيل الأزرق في نادي الكشافة الذي تأسس عام 1924، وحالياً تآكلت قاعدتها وأصابها الصدأ واستخدمت بعض غرفها كمخازن، وهي تحتاج إلى إنقاذ عاجل بصبغة رسمية ومجتمعية لأن إصلاحها وإعادتها لمجرى النهر يكلف ملايين الدولارات".
ووفقاً للإمام فإن الباخرة "بعد أن أنهت مهمتها الحربية تحولت إلى النقل التجاري وحفظت مدافعها ذات القيمة التاريخية العالية في بيت الخليفة بأم درمان، لكن إحدى الجمعيات البريطانية خاطبت حكومة السودان مرات عدة خلال فترة التسعينيات وبعدها تطلب استعارة ’ملك‘ لفترة زمنية محددة، على أن تتكفل بترحيلها إلى لندن لتكون متحفاً عائماً، وهي فكرة لها أبعاد تاريخية توثق لفترة مهمة وتخلد لذكرى غردون وكذلك كتشنر الذي تقلد وزارة الحربية بعد ذلك".
رفض سوداني
ويتابع مدير السياحة، "تشكلت لجان عدة لبحث هذا المقترح وشرفت بعضوية لجنة ترأسها المؤرخ يوسف فضل، لكن حكومة السودان لم تلب الطلب البريطاني وأصدرت هذه اللجان توصيات في شأنها والبواخر الأخرى، وطالبت بضرورة صيانتها واستغلالها كمتحف ومزار عائم".
ويمضي الإمام قائلاً "أرفع صوتي عالياً وأوصي بضرورة الاهتمام بهذا الكنز التاريخي والسياحي والاقتصادي الذي طواه النسيان واعتراه الإهمال لفترة طويلة، وأن يشمل الاهتمام البواخر التاريخية الأخرى المهلة".
انتصارات "ملك"
ويقول أستاذ التاريخ بإحدى الجامعات السودانية الطيب أحمد الطاهر إنه "حين تقرر إرسال القائد كتشنر إلى البلاد عوضاً عن غردون جاء في معيته عدد من البواخر ومنها ’سلطانة‘ و’شيخ‘ و’الداخلة‘ و’ملك‘ والأخيرة متفردة لأنها مزودة برشاش وهاوزر ومدفع مكسيم الذي كان يومها من أسلحة الدمار الشامل، حتى إن السودانيين أطلقوا عليه أب ثكلى لأنه سريع الطلقات، لا تفصل بين الطلقة والأخرى سوى ثوان".
ويواصل الطاهر، "وفي طريق الباخرة إلى الخرطوم دمرت طابية الحتانة والصبابي حتى تناثرت أشلاء الأنصار، وحين وصلت الاسكلا ضربت قبة الإمام المهدى بأم درمان بسبع طلقات فأحدثت بها فجوة قبالة القصر الجمهوري، ثم أطلقت ’ملك‘ 20 طلقة تحية لروح الجنرال غردون، ثم أقيم داخلها قداس أعقبه رفع العلمين المصري والإنجليزي، وفي عام 1924 استخدمت كمعتقل لثوار اللواء الأبيض، وكانت ترسو بالمعتقلين في منتصف النهر تحرسها ثلاثة مراكب قبل أن يكتمل بناء سجن كوبر، وبيعت الباخرة ’ملك‘ لنادى الزوارق عام 1926 بمبلغ 50 جنيهاً".